المحرر موضوع: سنتان مختفيا في الكوت! ( 2 ــ 4 )  (زيارة 1578 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل جاسم الحلوائي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 99
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ذكريات
سنتان مختفيا في الكوت!
( 2 ــ 4 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
إحدى المشاكل المزعجة التي رافقت وجودي في الكوت، هي مشكلة إقامتي وكان حلها يتطلب عائلة ملائمة للعيش معها. ولم نفلح في ذلك، إلا لفترات معينة. فقد ساعدتنا ( لتم ) بعائلة لم تصمد اكثر من شهرين، فقد قتلها الضجر، وعادت الى قواعدها سالمة! وقد أفلحنا في إيجاد عائلة ريفية. أقمت معها أطول فترة، حوالي ثمانية أشهر. كانت عائلة محافظة جدا. لم أدخل غرفتهم سوى مرة واحدة، عندما تمرضت الأم. ولم يدخل أحد منهم غرفتي إلا عندما أكون خارج البيت. وكنت أتناول صينية الطعام من الباب. كان علي أن أقضي الوقت في الغرفة، مادمت في البيت، و كان سميري كتابي وراديو ترانزسستر صغير. وقد هان علي الأمر عندما رُحل إلينا الشهيد داخل حمود حيث شاركني غرفتي. وكنت أستعين، أحيانا، بإخوتي الصغار للإقامة معي خاصة في العطل، عندما لم اكن أقيم مع عائلة. وقد أقام معي لفترات محددة أصغر أخوتي وهم كل من جليل وخليل  وسمير.  واطول فترة قضاها معي، حوالي الشهرين، أخي جليل، وهو أكبرهم ، قبل أن يلتحق بخدمة العلم. أما سمير فكان صغيرا وأخذ يبكي من الضجر طالبا إعادته الى البيت في الكاظمية، ولبيت طلبه في أول فرصة، وبقيت مرة أخرى، وحيدا.

وخلال السنتين من وجودي في الكوت تم إستدعاء مكتب لجنتنا مرة واحدة الى بغداد للإجتماع بنا،  وكان مكونا من إبراهيم عبدالكريم وجبار عبود وأنا. وحضر الأجتماع الرفيق عزيز محمد وكان سكرتيرا للجنة التنظيم المركزي وبمعيته الشهيد صبيح سباهي وعصام القاضي. أتذكر إنهم إنتقدونا لتحشيد عدد كبيرجدا من الفلاحين في المسيرة الفلاحية التي جرت في بغداد في 30 ايلول 1960، لأن ذلك من شأنه أن يجلب إنتباه السلطات ويدفعها لإضعاف الحركة الفلاحية الموالية للحزب قي الكوت. وكانت المسيرة بمناسبة مرور عامين على صدور قانون الإصلاح الزراعي.
فقد كان فلاحي الكوت يشكلون القسم الأكبر من مسيرة إشتركت فيها جميع الألوية.  لقد إستغربنا الإنتقاد، لأن نص رسالة (لتم) الينا كانت تؤكد على ضرورة حشد أكبر عدد ممكن من الفلاحين للمسيرة. وقد أغلق الموضوع بتبادل نظرات الإستفهام بين الرفاق المشرفين. ولم أستغرب نظراتهم لأن الرسالة لم تكن بخط أحد منهم، إنما كانت بخط الشهيد ستار مهدي معروف عضو مكتب منطقة الفرات الأوسط سابقا وسكرتير لجنة التوجيه الفلاحي لاحقا.

في نهاية عام 1960 جرى نقل جميع الرفاق المعلمين الى الألوية الأخرى،  الرفيق الوحيد الذي لم يكن معلما، انتفل قبلهم لآسباب أمنية. وعلى أثر ذلك نقل الينا ككوادر محترفة الشهيدين داخل حمود ومن ثم عبد الأمير رشاد، بوصفهما أعضاء محلية. وجاءنا رضا القصاب، العضو المرشح للمحلية، منقولا من كربلاء الى الكوت، موظفأ بالكمارك. وأخيرا وصلنا الفقيد أسعد خضر، عضو المحلية، موظفا في البنك.  وقدمنا للمحلية الشهيد هلال سليمان وهو فلاح من ريف الصويرة. و عبد شكيح، معلم، مسؤول العزيزية. فتشكلت، تدريجيا، محلية جديدة.

خلال وجودي في الكوت زرت كمشرف بعض منظمات الحزب في اللواء ولأكثر من مرة واحدة ـ  الحي، الصويرة، العزيزية، والنعمانية، وقد التقيت في النعمانية، لأول مرة، بالفقيد أبو عليوي (محسن عليوي) ولم ألتقيه ثانية لإنتقاله الى يغداد. أما إشرافي على منظمة مدينة الكوت فكان متواترا.
واحد هذه الإشرافات مازال طريا في الذاكرة ــ  مع تدهور الوضع السياسي لم تعد لجنة مدينة الصويرة تعقد إجتماعاتها، وكان يقودها الرفيق أبو فهد (إسماعيل محمد مراد)، خلافا لجميع الهيئات الحزبية، لأسباب أمنية. ولم تكن قيادة المحلية مقتنعة بذلك وتعتقد بأن أعضاء اللجنة متطيرين. فطلبت وألحت على  اللجنة المذكورة إتخاذ التدابير الممكنة لعقد إجتماعاتها، ولكن دون جدوى. فتقرران أذهب مشرفا لدراسة الوضع، ومحاولة إيجاد الحلول لذلك على الأرض. 

سافرت الى الصويرة وحضرت إجتماعا للجنة عقد في بيت اخ أبو فهد مساء. بعد أن جرى الإجتماع لفترة ملائمة حوالي ساعة ونصف أو ساعتين وفي الوقت الملائم، إنتقدت اللجنة على تطيرها وكان دليلي على ذلك هو إجتماعنا والذي كان على وشك الإنتهاء، على ما يبدو بسلام. وكان أعضاء اللجنة يتبادلون النظرات، وعلى وشك المباشرة بممارسة النقد الذاتي، عندما سمعنا طرقا على الباب، وإذا برسول( على الأرجح صبية )، يخبرنا بأن الشرطة تجري تحري في بيت أبو فهد و لابد إنها قادمة الى هذا البيت. في لحظة واحدة وقبل أن البس حذائي تبخر جميع الرجال من البيت!

خرجت الى الشارع، وكان الضياء خافتا جدا، أمشي لوحدي متجها الى خارج المدينة. في أول منعطف، وأنا أفكر بعدم معقولية تركي لوحدي هائما في مدينة غريبة علي ، لاحظت من بعيد، رجلا يمشي أمامي طوله يشبه طول أحد الرفاق الذين كانوا في الإجتماع وإسمه عبد الله الفاضل، يلبس الكوفية والعقال ويلتحف بعباءته، فتعلقت بهذا الأمل.
بعد مسافة غير قصيرة لم يعد الرجل يسرع الخطى ، كلما أسرعتها، كالسابق، فلحقت به وإذا به عبد الله بعينه. مشيت بجانبه، أخبرني بأنه تعمد عدم الإتصال بي فورا زيادة في الحيطة؛ وإنه مكلف من المنظمة بحمايتي، وإننا متجهين الى يستانه التي تقع في منطقة جويميسة الشرقية، المشهورة بكثرة بساتينها، وتبعد ثلاث كيلو مترات عن المدينة. وعلمت بأن المشكلة الأمنية عندهم تكمن في ان أربعة من أعضاء اللجنة موظفين فإن لم يوجد أحد منهم في النادي خارج أوقات الدوام يعني هناك اجتماع والبيوت معروفة... ولم يتمكنوا من معالجة هذه المشكلة ! بت ليلة في البستان... وفي صباح اليوم التالي ارشدنى مضيفي الى الدرب المؤدي الى طريق الصويرة ـ  بغداد.
وهكذا عدت بعد عملية إشراف لم تحقق هدفها. ومع تدهور الوضع السياسي حلت مشكلة إجتماعات لجنة الصويرة!؟ فقد شملت رفاقنا الموظفين إجراءات النقل التعسفية! وكانت التجربة درسا لي في السعي الى عدم إستخدام أدلة غير موثقة في محاججاتي.

في ناحية العزيزية كان لدينا أقوى منظمة في قضاء الصويرة ، وكانت المنظمة تضم الى جانب العمال والكسبة والمثقفين بعض  الشخصيات والوجوه الإجتماعية امثال التاجر خلف الدّبي ( ابو صادق )، وكنت من خلاله أتصل بالمنظمة عندما أزورها. والسيد عمار ابو العيس  والمختار نافع محمود. ومنذ خريف 1960 أصبحت العزيزية مركز منظمة القضاء ومسؤولها فيصل حبيب نصر، بعد أن إنتقل منها وظيفيا مسؤولها السابق عبد شكيح. وفي ربيع 1961 حصل في العزيزية حادت فريد من نوعه في اللواء وجدير بالتسجيل.

بناء على توصية من الحزب قامت جميع المنظمات في اللواء بحملة جمع تواقيع على مذكرات تتضمن مطالب محلية بالإرتباط مع المطالب السياسية العامة. وقد نفذ هذا التوجيه من قبل منظمة العزيزية حيث تم جمع 222 توقيعا على مذكرة، معنونة الى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، تطالب بتوزيع اراضي سكنية وتخفيض سعر الوحدة الكهربائية وانشاء معمل للطابوق و....الخ، وختمت بالمطالبة بإنهاء فترة الإنتقال وإرساء الحكم على اسس ديمقراطية... وقد تبين لاحقا ان جميع المذكرات احيلت الى الوحدات الادارية المعنية، من قبل رئاسة الوزراء، للنظر في المطالب المحلية.
ولم يكن رد فعل الوحدات الادارية في الكوت على هذه الفعالية عدائيا، عدى ادارة ناحية العزيزية، حيث كان مدير ناحيتها آنئذ المدعو مهدي الحمداني، الملقب ابو بشرى، وهو صهر عبد الكريم قاسم ( زوج ابنة حامد قاسم شقيق عبد الكريم قاسم )، إستدعى كل الموقعين على المذكرة ( نساء ورجالا ) الى مركز الشرطة واعتبر العمل من تدبير الشيوعيين ويمثل تحديا لسلطته. 
وعندما وصل الامر الى هذا الحد ذهب فيصل حبيب، مسؤول المنظمة، الى مركز الناحية وابلغ مدير الناحية بانه  المسؤول عن كتابة المذكرة وجمع التواقيع عليها. وعلى إثر ذلك  تم اطلاق سراح الموقعين عدا فيصل وثلاثة اخرين هم: صالح عليوي ويحيى اسماعيل وجبار ألوس . وقد زجوا في موقف الكوت، و أطلق سراحهم بعد شهرين بناء على عفو عام عن السجناء والموقوفين السياسين اصدره عبد الكريم قاسم.

مع ممالأة عبد الكريم قاسم للقوى الرجعية، إتجهت هذه القوى مع القوى القومية المتطرفة وبالتواطؤ مع أجهزة ألأمن ودوائر البوليس الى شن حملة إغتيالات  واسعة للشيوعيين والديمقراطيين اليساريين في الموصل وكركوك والرمادي وفي بعض مناطق بغداد وكلياتها. وقد راح ضحية هذه الحملة الغادرة مئات الشهداء وأرغمت الوف العوائل على ترك بيوتها ومحلاتها بل وحتى مدنها، كالموصل مثلاً. وكانت الدعوة تتصاعد من القاعدة الحزبية تدعو الى الرد الحازم على هذه الإعتداءات، مقرونة بقناعة بأنه لو كان هناك مثل هذا الرد من البداية، لما تمادت القوى الرجعية والقومية في غيها. وكنت متعاطفا مع هذا الرأي. لم يكن الحزب ضد الدفاع عن النفس، ولكن هذا شيء وتوجيه المنظمات لتنظيم الرد شيء آخر.

في ربيع 1961 حدث إعتداء على أحد الرفاق وتهديد لآخر في مدينة الكوت. تدارسنا الأمر، وقررنا أن نثقف المنظمة بضرورة وضع حد لهذه الظاهرة قبل إستفحالها. وذلك بالرد الحازم على أي إعتداء أوتهديد. عند تثقيفي للجنة مدينة الكوت ، إستفسر مني مسؤول اللجنة الطلابية : هل يشترك هو ومساعده في اللجنة ( كان ايضا عضوا في لجنة مدينة الكوت ) في الرد. أحسست في حينها بأن جوابي على هذا السؤال سيقرر مصير الخطة. لقناعتي التامة بالرد الحازم، لم أتردد من الإجابة بنعم.
بعد بضعة أيام علمنا بأن إصطداما وقع بين الشيوعيين والقوميين في المدرسة الثانوية وإن أشرس طالب قومي نقلوه بالنقالة الى المستشفى؛ وإن الرفيقين أعضاء لجنة مدينة الكوت،اللذان مر ذكرهما، أعتقلا لمساهمتهما الفعالة في رد الإعتداء الذي وقع على أحد رفاقنا من قبل القومي المذكور. بقى الرفيقان معتقلين أكثر من سنة قبل أن يطلق سراحهما في عفو عام صدر عام 1962. ولكن الإعتداءات توقفت تماما! لأن التوجيه بالرد الحازم ظل ساري المفعول. ليس من الإنصاف مقارنة مدينة الكوت بمدينة الموصل أو كركوك . ولكن هناك وجه للمقارنة بكليات جامعة بغداد وبعض مناطقها التى تعرضت للإعتداءات.

كانت الكوت تمتاز بحركة فلاحية قوية إنبثقت على أنقاض إقطاعيات كبيرة جدا. وكانت الحركة قوية بشكل خاص في منطقة تسمى " ثلث الجزرة " وكانت بحوزة الإقطاعي مهدي بلاسم آلياسين قبل ثورة 14 تموز. وكان هذا الإقطاعي واحدا من أشرس وأقسى الإقطاعيين الكبار في العراق. كان لديه سجن خاص في إقطاعيته. ويستخدم حوشيته في" تأديب " أبناء مدينة الحي عندما تطلب الحكومة ذلك منه. كما حصل في إنتفاضة الحي عام 1956.

وبإنحياز عبد الكريم قاسم الى جانب الملاكين على حساب الفلاحين تمكن الإقطاعي الكبير مهدي بلاسم الياسين، بأساليبه الخبيثة وتواطىء السلطات معه ، من إستصدار أمر بإلقاء القبض على 400 فلاح، أكثرهم من نشطاء الحركة الفلاحية، بذريعة ديون قديمة. وعند دراسة هذا الموضوع في اللجنة المحلية، تقرر عدم الإمتثال لهذه الأوامر المجحفة، القانونية شكليا، والسياسية المفضوحة مضمونا. ولم تعلق قيادة الحزب على موقفنا المثبت في المحضر المرفوع الى ( لتم). وقد ظلت تلك الأوامر حبرا على ورق، بعد بضع ( زركات) مداهمات فاشلة للشرطة على أطراف المناطق الريفية، متجنبة التوغل في عمق المناطق " الحمراء". 

يتبع[/b][/size][/font]