المحرر موضوع: شنكال من الفرمانات الى الأنفال  (زيارة 940 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كفاح محمود كريـم

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 663
    • مشاهدة الملف الشخصي
  شنكال
من الفرمانات الى الأنفال
                                                                           
 
    كفاح محمود كريم
   
     سنجار أو شنكال كما ينطقها أهاليها منذ آلاف السنين، مدينة ترعرعت عند أطراف جبل مثير في موقعه وتضاريسه، احتضنت في المائة الأولى من العصر الميلادي مملكة معنو الآرامية التي أسقطها الرومان وأقاموا فيها ثغرا من أهم ثغورهم على تخوم الإمبراطورية الفارسية على أنقاضها، ثم ما لبثت أن أصبحت واحدة من درر تاج الإمبراطورية الفارسية أيام شابور الثاني، لكي تعود بعد قرون الى ما يشبه المملكة في أواخر العصر العباسي، حينما تحولت الى أتابكية في نهاية القرن الثاني من الألفية الماضية على يد الزنكيين، ولكي تكون واحدة من ثلاث اتابكيات تشبه الفيدراليات على أيامنا هذه، مع اتابكية الموصل وحلب، وأخيرا لتسقط بيد العثمانيين في عام 1516 بقيادة محمد الفاتح.
   عذرا إن اختزلت تاريخا مليئا بالإحداث والمآسي والحروب بعدة أسطر، لكي انتقل الى أربعمائة سنة من الفرمانات ( الحملات العسكرية العثمانية على الكورد الايزيديين ) التي نالت المدينة وسكانها من الايزيديين ما لم ينله شعب أو مجموعة بشرية على الأرض، حتى الهنود الحمر لم ينلهم مثل ما نال هؤلاء الكورد عبر أكثر من سبعين حملة عسكرية لأبادتهم بدعوى إنهم كفرة مارقون؟.
   الأروع في هذه الملحمة هي الإصرار على الحياة والديمومة فيها رغم كل ما تعرض له فرسان هذه الملحمة في أكثر من سبعين عملية ابادة جماعية بسبب العرق والدين، شاركت فيها الآلاف المؤلفة من الجندرمة والانكشارية الطورانية والعثمانية وعملائهم ومرتزقتهم، أرادت أبادتهم عن بكرة أبيهم وصهرهم تماما في مجتمعاتها وإلغاء هويتهم القومية ومعتقداتهم الدينية بذريعة الكفر والأيمان، إلا إنها بقت محافظة على تراثها ومفردات لغتها الكوردية الأصيلة وفلكلورها الجميل طيلة قرون من الحروب والغزوات التي تميزت ببشاعتها وقسوتها، ولعل أروع ما يميز الايزيديون ولغتهم الكوردية إنها اللهجة الوحيدة في كل لهجات الكورد الأكثر نقاءً وصفاء في مفرداتها، حتى اذكر توجيها للبارزاني الخالد في مطلع سبعينات القرن الماضي حينما كان المجمع العلمي الكوردي يعمل على تنقية اللغة الكوردية من المفردات الدخيلة عليها من لغات الشعوب المجاورة، حيث وجههم الى قرى سنجار حيث النقاء والصفاء في اللغة والمفردات البديلة لتلك الدخيلة على اللغة.
   وربما تذكر لنا دواوين الشعر والمقامات الغنائية المعروفة بــ { الأسترهانات } والتي وثقت تلك الحملات البشعة في ابادة الكورد الايزيديين، حيث لم تكتب لنا المراجع التاريخية إلا ما كان يشوه الحقائق ويغض النظر عن جرائم بشعة كما حصل حتى في أواخر الثمانينات من القرن الماضي وتجاهل الأعلام لكل ما حدث في حلبجة والأنفال.
   ولعل أجمل تلك السترهانات أو المقامات التي تحكي واحدة من قصص الفرمانات وأكثرها إيلاما تلك المعروفة بقصة { حسن وغزالة } التي وقعت أحداثها بحدود 1865 م في مدينة سنجار وأطرافها، حينما غزت مجاميع من جندرمة وانكشارية بنو عثمان مدينة سنجار لتستبيح الأرض والإنسان ولتحرق بمدفعيتها آنذاك الأخضر واليابس، حينما صرخت سنجار بفارسها المغوار حسن ليقتل خاطف زوجته أمير الجند العثماني ويحرر غزالة الجبل الأشم الطاهرة.
  وما كادت الفرمانات العثمانية ومرتزقتها أن تنتهي حتى بدأت مرحلة أخرى من عمليات الابادة لهذا الشعب وإلغاء هويته وثقافته الكوردية الأصيلة منذ قيام الدولة العراقية وحتى كارثة الرابع عشر من آب 2007 م.
  ربما يعتقد الكثيرون أن عمليات الأنفال بدأت مع ربيع عام 1987، لكنني أجزم بأنها إنما بدأت بأخوتنا الكورد الفيليين في بغداد والكوت وبعقوبة والفرات الأوسط منذ نهاية ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، إن لم تك قد بدأت حقيقة أيام الحكم الملكي في محاولاته لتهجير الكورد الفيليين بدعوى كونهم يحملون التبعية الإيرانية مع غض النظر على من يحملون التبعية العثمانية، وهي نفس الفرية التي اعتمدها العنصريون في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم.
  ولنعود الى سنجار التي ابتدأ البعثيون فيها أنفالاتهم العنصرية البشعة حينما دمروا وأزالوا أكثر من مئة وخمسون قرية ببساتينها وحقولها وعيون الماء فيها بعد أشهر من انتكاسة ثورة أيلول الكوردستانية عام 1975 إثر تآمر دولي وإقليمي رعته وباركته الولايات المتحدة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
  لقد تم تدمير قراهم ومصادر عيشهم وعجلة إنتاجهم واقتصادهم وتم تحويلهم الى مستهلكين غير منتجين لتدميرهم نفسيا واستلابهم تدريجيا لتحويلهم الى عبيد وأجراء بعد أن كانوا منتجين وأحرار!؟
  كانوا يعيشون في قرى تنتشر حولها بساتين الفاكهة وبالذات التين والزيتون وأنواع الأعناب والفواكه الأخرى إضافة الى حقول المحاصيل الصيفية والشتوية التي كانت تديم عجلة إنتاجهم واقتصادهم مع ما يربونه من حيوانات كالأغنام والماعز والأبقار، إضافة الى عشرات المناحل التي كانت تنتشر في كل القرى لتنتج واحدا من أرقى أنواع العسل في المنطقة بأسرها.
  لقد دمر العنصريون كل شيء وأحالوا تلك القرى الزاهية الى خرائب ودمار في انفالاتهم التي بدأت هنا على سفوح جبل شنكال وقتلوا كل من عارض أو رفض الانصياع لعاصفة الشوفينية والعنصرية التي اجتاحت شنكال بعد انتكاسة آذار 1975، وجمعوا الآخرين في مجمعات أشبه ما تكون بمعسكرات الاعتقال النازية إبان الحرب العالمية الثانية.
   وبدأوا بفرض برنامج التغيير القومي واللغوي والثقافي عليهم وتفريغهم تدريجيا من كينونتهم بمنع تداول لغتهم الكوردية الأم، ومنع استخدام أسمائها للمواليد الجدد، بل العمل على تغيير الكثير من الأسماء الكوردية للقرى والأحياء وحتى الأشخاص، وصولا الى المنع التام لأي شيء يتعلق بالكوردية لغة وثقافة وسلوكا.
  وخلال ثلاثة عقود ونيف، مارس العنصريون أبشع أنواع التعذيب والحصار والاضطهاد العرقي والديني والمذهبي للكورد في شنكال لتغيير قوميتهم وثقافتهم وأسمائهم وحتى اضطرارهم لاستبدال أنسابهم وأجدادهم بأجدادٍ لعشائر عربية أو انتماءٍ لتلك العشائر مقابل اعتبارهم مواطنين يحق لهم العيش والتملك والتعليم أو الرحيل خارج شنكال مع مصادرة أموالهم وممتلكاتهم ومحاربتهم في أرزاقهم وحياتهم وتعليمهم في المدارس والجامعات.
  إن هذا الشعب وهذه المجموعة من شعب كوردستان والتي تعرضت خلال قرون الى حملات رهيبة لأبادتها سواء ما كان منها بسبب ديانتها الايزيدية أو قوميتها الكوردية، نهضت عشية سقوط النظام وكأن شيئا لم يكن من سياسات التشويه والتغيير القومي فصدحت الحناجر بكورديتها وتغنت تلك الجموع الهادرة في العاشر من نيسان 2003 وهي تستقبل قوات البيشمه ركه بنشيد ( ئي ره قيب ) القومي، لتعبر عن مكنونات هذا الشعب واصالته ولتعيد للمدينة وجهها الحقيقي وهويتها الكوردستانية التي عمل النظام على تشويهها واغتيالها عبر أكثر من ثلاثين عاما من سياسة القهر والتطهير العرقي والابادة الكلية لثقافة شعب عريق.
   وخلال أشهر من سقوط النظام استطاع هذا الشعب الأصيل والمتحضر بسلوكه أن ينظم انتخابات حرة ونزيهة لمجلس محلي للقضاء في أكتوبر 2003 لينتخب بعد ذلك قائم مقاما بالانتخاب الحر والمباشر في أول ممارسة من هذا النوع في تاريخ العراق بأجمعه منذ تأسيسه، ولتظهر حقيقة القضاء والمدينة التي أصر النظام العنصري السابق على تعريبها وإلغاء هويتها الكوردستانية، فجاءت نتائج الانتخابات في أكتوبر 2003 لتؤكد هوية شنكال الكوردستانية الحرة.
  ولأول مرة في تاريخ هذه المدينة تفتح أكثر من مئة وخمسين مدرسة للتدريس باللغة الكوردية من الصف الأول، كما تم افتتاح ثانوية كوردستان لأول مرة أيضا في المدينة بعد عودة كثير من العوائل التي تم تهجيرها في منتصف السبعينات من القرن الماضي. ولأول مرة أيضا يتم تدريس منهج الديانة الايزيدية لمعتنقي هذه الديانة في كل مدارس القضاء.
   لم يرق هذا التطور والتحول في حياة الناس بالمدينة وأطرافها وخصوصا وهي على أبواب العودة الى أحضان الوطن في الإقليم على خلفية تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي الدائم فبدأت برنامجها التدميري الذي مارسته طيلة ثلاثة عقود في كوردستان وبلداتها من سنجار الى خانقين مرورا بكركوك، فكانت ضربتها الأولى قبل انتخابات كانون ثاني 2005 بيومين فقط لتحاول إيقاف التصويت للدستور الدائم والذي يعتبر صمام أمان العراق الاتحادي والديمقراطي والخطوة الأولى لعودة كل هذه المناطق الى الإقليم. ثم عادوا ثانية في الرابع من آب لينفذوا جريمتهم الكبرى بالتعاون مع مخابرات دولية إقليمية ذات صلة ومصلحة في ابادة الكورد من الايزيديين والمسلمين على حد سواء، وإيقاف مسيرة كوردستان والعراق في التنمية والتطور وتعويض سنوات الدكتاتورية في التقهقر والتخلف بما يدفع العراق نوعيا الى الأمام. فقد أرسلوا أربعة شاحنات مفخخة بآلاف الكيلوغرامات من المتفجرات الشديدة الى اثنين من مجمعات كانت قد سلخت في انفلة شنكال عام 1977 وقد حانت عودتها الى القضاء ثانية، لتحيل المجمعين خلال ثواني الى ما يشبه المناطق المنكوبة بالزلزال ولتقتل مئات الأطفال والنساء والشباب وتجرح مئات أخرى وتدمر مئات البيوت الطينية وتحيلها الى تراب كما فعلت سابقا في إزالتها لعشرات القرى في سبعينات القرن الماضي وآلاف القرى في ثمانينات نفس القرن في حلبجة وكرميان وبهدينان. مستخدمة نفس الأسلوب والعقلية والحقد الأسود منذ فرمانات العثمانيين وحتى أنفال البعثيين، لكنما دون جدوى فعقارب الساعة لن ترجع الى الوراء وسنن الطبيعة والحياة لن تقبل هذه الهمجية ثانية أن تعود أو تسود.
  حقا إنها الفرمانات التي أنتجت الأنفال وها هي اليوم تتحد لتنتج هذا الحقد الدفين والقسوة الوحشية لأولئك الذين لا يفهمون لغة الحضارة والإنسان فيتقهقرون الى الحضيض بينما تندفع شنكال وشقيقاتها من مدن الشمس الى الذرى.