المحرر موضوع: ذكريات - سنتان مختفيا في الكوت! ( 3 ــ 4 )  (زيارة 1620 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Jassim Al Halwai

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 6
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ذكريات
سنتان مختفيا في الكوت!
( 3 ــ 4 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com
في نهاية عام 1960 أو في بداية عام 1961 صدر قرار من الهيئة العليا للإصلاح الزراعي يقضي بإعادة اراضي ثلث الجزرة للإقطاعي مهدي بلاسم الياسين، بحجة وجود نواقص فنية في إجراءات الهيئة المذكورة عند إستيلائها على تلك الأراضي؛ وان قسمة الحاصلات يجب أن تتم مع الإقطاعي !! وجاء هذا الإجراء في سياق إرتداد عبد الكريم قاسم ومحاباته للقوى الرجعية ولكسر شوكة الحركة الفلاحية التي يقودها الحزب الشيوعي العراقي. وكان هذا الإجراء هو الأول من نوعه في إقطاعية كبيرة كثلث الجزرة التى كانت تضم 800 عائلة فلاحية.

كان رد فعل الفلاحين في ثلث الجزرة قويا جدا. فقد صمموا على مقاومة الإجراء بمختلف الوسائل بما في ذلك إستخدام  السلاح، وكان بحوزتهم حوالي 400 قطعة سلاح ناري خفيف. درسنا الموضوع في المحلية ورفعنا تقريرا الى قيادة الحزب وكان المسؤول الأول آنئذ الفقيد زكي خيري. وخلا صة رأينا ، هو مساندة الفلاحين في موقفهم وقيادتهم للكفاح بمختلف الوسائل السلمية من أجل الغاء القرار الجائر. وفي حالة لجوء السلطة للقوة لفرض القرار الرجعي ، فيجب الوقوف بجانب الفلاحين. وقد إستبعدنا خوض السلطة معركة دموية ضد الفلاحين لصالح إقطاعي يُعد واحد من أكبر إقطاعي العراق وأسوأهم سمعة  . إقترحنا صيغة بيان بإسم محلية الكوت يندد بالإقطاعي وأساليبه الخبيثة في الإلتفاف على القوانين وسردنا تاريخه الأسود في مساندة النظام البائد للبطش بالجماهير في إنتفاضة الحي وأساليبه الوحشية في إستغلال الفلاحين... ويساند البيان الفلاحين في مطالبتهم بإلغاء القرار ويدعوهم الى توحيد صفوفهم و... الخ.

وأجرينا جملة إجراءات تنظيمية منها: ربط منظمة ثلث الجزرة مؤقتا بلجنة محلية الكوت ، نقل الكادر الفلاحي الشهيد هلال سلمان ، العضو المرشح للجنة المحلية، من الصويرة الى ثلث الجزرة، كمشرف ثابت على اللجنة الفلاحية والتي كانت بقيادة منعم الحاج جاسم. ونسب الشهيد عبد الأمير رشاد، عضو اللجنة المحلية، لاحقا، ليتناوب المسؤولية مع هلال . وكان الأثنان  في حركة مكوكية بين ثلث الجزرة والكوت ومرتبطان بي مباشرة ، فكنا نتابع الوضع بتفاصيله عن كثب ونزودهم بالتوجيهات الضرورية.

وعقدنا أثناء تلك الفترة كونفرنسا فلاحيا للواء ، في حي الأكراد في مدينة الكوت، حضره أبرز الكوادر الفلاحية من جميع مناطق اللواء، وحضره كذلك مشرفا من لجنة التوجيه الفلاحي. وكانت قضية ثلث الجزرة فقرة مستقلة في جدول العمل، ونالت حقها من الإهتمام والمناقشة. ودعم الكونفرنس تقديرات ومواقف اللجنة المحلية من المشكلة.

طبعت قيادة الحزب البيان، بعد أن خففت من لهجته قليلا! ولكن لم تجبنا على التقرير الذي يتضمن خطتنا وتقييماتنا. وبدلا عن ذلك وصلنا، بعد فترة، الرفيق هاشم الحكيم من لجنة التوجيه الفلاحي لزيارة ثلث الجزرة، وقد وفرنا له جميع متطلبات زيارة ناجحة. عند عودته وإلتقائه بنا أكد قناعته التامة بتقديراتنا، خاصة فيما يتعلق الأمر بإستعداد الفلاحين العالي للدفاع عن حقوقهم. ويظهر بأن هذه النقطة بالذات كانت موضع شك قيادة الحزب أو بعض المختصين في الحركة الفلاحية( لجنة التوجيه الفلاحي المركزي). 

كان إستعداد الفلاحين وحماسهم للدفاع عن حقوقهم موضع إعجاب كل من زار المنطقة. وقد  إستقبلوا بيان المحلية بغبطة وإعتزاز كبيرين. وقد شد بعضهم البيان على عضده على شكل( باز بند) معتزين بالبيان لورود اسم ثلث الجزرة فيه، شاعرين بأنهم ليسوا وحدهم  في صراعهم ضد جور الإقطاع والسلطة.

نظمنا لهم مذكرة ووفدا لزيارة المسؤولين والأحزاب والصحف الوطنية في بغداد. ووجدت قضيتهم تفهما  وتعاطفا، ومن بين من تعاطف معهم الحزب الوطني الديمقراطي ـ جناح الجادرجي، الذي نشر مذكرتهم في صحيفة " الأهالي " وعلق عليها متعاطفا مع مطاليب الفلاحين. أما قائم مقام قضاء الحي فقد إعتقل الوفد الفلاحي. وقد وتر هذا الإجراء التعسفي الأوضاع، فقرر الفلاحون منع أي شرطي أو عسكري او شخصا من حوشية الإقطاعي من  دخول منطقة ثلث الجزرة. وقد نظمت الحراسات والدوريات المسلحة لتنفيذ ذلك. في هذه الفترة جرت اعتقالات واسعة في صفوف الشيوعيين واصدقائهم في مدينة الحي، شملت من المعلمين كل من حميد جاسم، زويد خلف، إبراهيم عريبي، ماجد عبد الأمير، على الحاج كاظم وعبد عداي. وشملت من العمال والكسبة كل من عجيل صبر واخيه ثامر صبر، حسين عليوي وأخيه حسن عليوي، هويدي الحاج عكار وأخيه نعمة الحاج عكار ومحمد دخين.

اخبرت السلطات الفلاحين بأن قرارإعادة الأرض للإقطاعي سيلغى شريطة أن تتم قسمة الحاصلات لتلك السنة فقط مع الإقطاعي. كانت خطة الإقطاعي والسلطات، هي دخول الإقطاعي وحوشيته الى المنطقة لكي يفتتوا بأساليبهم الخبيثة وحدة الفلاحين. كان وعي الفلاحين السياسي في ثلث الجزرة وشجاعتهم وحماسهم في الدفاع عن حقوقهم مثيرا للإعجاب. لقد أدركو المؤامرة المحاكة ضدهم فرفضوا التعامل مع الأقطاعي أو أي من حوشيته. وبعد مناقشة هذا الموضوع من جميع النواحي بيننا وبين الكوادرالفلاحية في المنطقة، تقرر الموافقة على تسليم حصة الإقطاعي من الحاصلات لتلك السنة الى جهة محايدة، يقبل بها الطرفان، على أن يلغى قرار إعادة الأرض للإقطاعي ويطلق سراح الفلاحين المعتقلين.

 أستمر الوضع متوترا في ربيع 1961، وكان لابد أن يحسم قبل قسمة الحاصلات في تموز. وكان هناك تعتيم إعلا مي، على الوضع الذي إستجد في المنطقة، من قبل الجميع. في آذار توجهت قوة من الشرطة الى المنطقة وأحرقت بيتين متطرفين ومهجورين، وتقدمت سيارات جيب مسلحة فتصدى لها الفلاحون، فأحرقواسيارة وإستولوا على البندقيتين اللتين تركهما الشرطة ورائهم عند فرارهم مع بقية قواتهم المهاجمة !!

لقد أسعدتنا هزيمة الشرطة، وفي نفس الوقت أقلقنا إتجاه تطور الأحداث، خاصة وإننا إستبعدنا خوض السلطة معركة دموية ضد الفلاحين لصالح إقطاعي مكروه. لقد كنت متوترا لشعوري بأني أتحمل المسؤولية الأولى إذا مانجمت عواقب وخيمة جراء إصطدام واسع بين السلطة والفلاحين.
 
بعد حرق سيارة الجيب ببضعة أيام شوهدت وحدة عسكرية من الجيش العراقي متجهة نحو المنطقة. شددنا على توجيه سابق بعدم البدء بإطلاق النار، ومحاولة كسب عواطف الجيش. تموضع الجنود وتموضع أمامهم الفلاحون. هذا آخر خبر وصلني قبل أن يصلني ، في اليوم التالي، خبر إنسحاب الجيش، بعد أن أكد الفلاحون للجيش، بما معناه، بأنهم غير عاصين على الحكومة بل على الإقطاعي. وإنهم مخلصين للزعيم عبد الكريم قاسم والجمهورية ومستعدين للتضحية بأرواحم من أجل الدفاع عنهما، و لكنهم غير مستعدين لإعادة الأرض للإقطاعي. وإن الجنود إخوتهم ويجب أن يقفوا الى جانبهم وإن لاتراق دماء الجانبين لصالح إقطاعي معادي للجمهورية والزعيم عبد الكريم قاسم... لقد تنفست الصعداء بخبر إنسحاب الجيش، بعد ليلة من القلق الشديد.

لقد جرت تفسيرات عديدة لأسباب إنسحاب الجيش، دون خوض معركة مع الفلاحين. فمنهم من عزى ذلك الى الضابط الذي كان يقود الوحدة العسكرية بإعتباره إنسانا واعيا. ومنهم من أشار الى التأثير الإيجابي لنداءات الفلاحين على الجنود. يمكن أن يكون لكل ذلك دورا إيجابيا مؤثرا. ولكن العامل الأساسي، في نظري، يكمن في الرؤية الطبقية الصحيحة للجنة المحلية، هذه الرؤية التي تتطلب، ضمن ما تتطلب، معرفة أين تكمن، بالضبط، مصالح الطبقات الأخرى. وقد كانت هذه الرؤية في صلب تقديرها الذي إستبعد، منذ البداية، خوض السلطة البرجوازية  لمعركة دموية ضد الفلاحين لصالح إقطاعي، يُعد واحد من أكبر إقطاعي العراق وأسوأهم سمعة. وموقف الحزب الوطني الديمقراطي ـ جناح كامل الجادري المساند للفلاحين والمذكور آنفا يؤكد ذلك ايضا.
 
بعد بضعة أيام بلغ الفلاحون بإلغاء قرار إعادة الأرض للإقطاعي؛ وطلب منهم إنهاء عصيانهم. فرفضوا ذلك قبل تلبية مطلبيهما الآخرين وهما إطلاق سراح المعتقلين وتحديد جهة غير الإقطاعي في قسمة الحاصلات. وكان هذا رأينا ايضا .

كانت الأمور على هذه الشاكلة عندما وصلني في مساء أحد الأيام  ستار مهدي معروف، سكرتير لجنة التوجيه الفلاحي المركزي ، من قبل قيادة الحزب، ليخبرني يضرورة إنهاء العصيان ،على إعتبار إن الهدف الأساسي من العصيان قد تحقق؛ وإن الهدفين الآخرين ثانويين. أما ماهو مصير الوحدة الفلاحية عند دخول الإقطاعي في المنطقة ؟ وما هو الضمان لعدم إستحصال قرار جديد بإستعادة الأرض بعد تفتيت وحدة الفلاحين ؟ ولماذا على الحركة الفلاحية التراجع وهي في ذروة إنتصارها ؟ ألا يعتبر الفلاحون بأننا خذلناهم في منتصف الطريق؟ نقاش ثنائي عقيم إستغرق ساعات دون نتيجة. وفلتت مني كلمة" يمينية " وصفا للموقف، إعتبرها ستار وصفا لسياسة الحزب، فنفيت ذلك وحصرت الوصف بالموقف من حركة فلاحي ثلث الجزرة!
 
ما كان أمامي سوى تنفيذ وجهة الحزب رغم تحفظاتي الجدية . في صباح اليوم التالي التقينا، ستار وانا، بالرفيق هلال سلمان، وأبلغته بموقف قيادة الحزب ،وطلبت منه عقد إجتماع سريع للجنة القيادية في المنطقة وشرح الموقف الجديد وتنفيذه. ولم ينطق ستار بكلمة واحدة إضافية. ذهب هلال ليعود في اليوم التالي ليخبرنا ، بأن القضية إنتهت بتلبية المطلبين الآخرين ايضا. وإن الأفراح والولائم قائمة على قدم وساق بهذه المناسبة، وقد التقى بالفلاحين المطلق سراحهم من التوقيف. وسمع ستار كل ذلك من فم هلال.

عاد ستار معروف الى بغداد. وفي أول بريد وصلنا، وكنت متوقعا تثمينا لجهودنا  وتقديراتنا الصحيحة، واذا برسالة تتضمن نقدا لموقفنا المتشدد، وإشادة بالتوجيهات المرنة التي حملها لنا المشرف  ستار معروف والتي أدت الى حل المشكلة ؟! لم أكن أتوقع مغالطة بهذا الحجم. اخذت الرسالة معي وسافرت في الحال الى بغداد. كانت إمكانية صلتي بقيادة الحزب يسيرة؛ فبيتنا في الكاظمية، كان بيتا حزبيا رئيسيا ﻟ (لتم). في اليوم التالي لوصولي التقيت بباقر إبراهيم وكان سكرتيرا ﻟ (لتم) وشرحت له القضية بالتفصيل. واخبرته بأن ما يؤلمني هو ليس فقط المغالطة، بل  إعتبار القضية مشكلة تبكي على حل ! وليس عملا ثوريا يجب أن يدخل تاريخ الحركة الفلاحية بإعتباره إنتفاضة مجيدة ظافرة تحققت بفضل وحدة الفلاحين ووعيهم الطبقي ووعي قيادتهم السياسية .

لم يعلق باقر على كلامي وقد أخذ الرسالة مني ووعدني بجواب قريب. بقيت في بيتنا.. لم يتأخر باقر علي. وقد أخبرني بأن قيادة الحزب تتفق مع مطالعتي، وسيشير الحزب في ادبياته للحركة كما وصفتها آنفا. بقيت أتابع ثلث الجزرة وعرفت بأنها كانت مأوى آمنا للشيوعيين في إنقلاب شباط الفاشي وبقيت المنطقة قاعدة للحزب وتدين بالولاء له. وبقيت أشعر بالإعتزاز متى ما ذكر إسم ثلث الجزرة لمساهمتي بجانب العديد من الكوادر في قيادة وتوجيه الحركة توجيها صحيحا أدى الى إنتصارها؛ بينها كوادر ميدانية سطعت كالنجوم ليس في  سماء ثلث الجزرة فحسب، بل في سماء كل الحي، ريفا ومدينة مثل: كاظم الخويلدي ولطيف مشكور، الملقب ـ دينار روسي!

لم يصل علمي صدور قرار مماثل ( إعادة إقطاعية كبيرة الى إقطاعي ) بعد نجاح فلاحي ثلث الجزرة على إلغاء القرار، لا في عهد قاسم ولا في العهود اللاحقة، وهنا تكمن الأهمية التاريخية لإنتفاضة فلاحي ثلث الجزرة الخالدة. والتي لم تنل مع الأسف الشديد، إهتمام المؤرخين.

يتبع[/b][/size][/font]