المحرر موضوع: ويظل الغناء للمدينة مستمرا  (زيارة 889 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حسين ابو سعيد

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 257
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ويظل الغناء للمدينة مستمرا

حسين ابو سعود
يجلس بين الملل  والرتابة ، وبين الشوق والحنين ، يبحث في جدران المنفى عن جدران بيته القديم ، فلا يجد سوى الصمت والالم والمرارة ، كان ينكر صلته بالنظم والقوافي  الا انه كان يبكي شعرا  عذبا ، ومن اقواله وهو يكابد السهد والسهر الطويل :
من قال ان الماء هو الماء، وان الهواء هو الهواء ، من قال  ان التراب هو التراب  وان التفاح هو التفاح ، فتفاح بلدي احلى الانواع .
يتذكر الايام الخوالي ودفء الاسرة وحرارة اللقاءات ويذكر حتى المجانين في مدينته : المجنون شئ والهبيل شئ اخر ، كان ( جمعة ) بائع الخضار يحبني ، ويرتاح لصحبتي ، وكان يشايع عليا في الخفاء ، غير انه كان يُرمى بالجنون .
خرج الى العالم الارحب لعله يجد له مستقرا ويجد له عملا في الفنادق او في خطوط الطيران او في السفارات ، في السفن او في الموانيء والمطارات ، لقد كان يحب البهرجة والسفر غير انه وجد نفسه يتنقل في المقاهي والمطاعم والبارات يغسل الصحون وينظف الطاولات .
في ليل الغربة ينتابه بين الفينة والفينة شعور غريب ، يخيل اليه انه جائع او يشتهي شايا او سيجارة او خمرا او حبة منومة ثم يكتشف الحقيقة بانه لا يريد سوى امراة ووطن او وطنا وامرأة .
لم تعد الصداقات العابرة تبهره معتقدا بان احلى الصداقات تولد في المستشفيات والسجون واقواها ما كانت منذ الطفولة ، مضى على تغربه ربع قرن من الزمان ، كبر بما فيه الكفاية  ولم يشأ ان يقاتل ليسترد الوطن المسلوب ، فالسالبون  اهله والظالمون اهله وكان يقول رحم الله ايام الاستعمار .
وفي سؤال عن ما هو الوطن ؟ اجاب : الوطن هو الغنى  والاصدقاء والامان فالوطن ليس التراب .
يذكر كيف كان  يتمنى ان تكون له دراجة يذهب بها كل يوم الى الحديقة ومعه ورقة وقلم وكتاب ، ليبتعد عن العمارات السكنية والاوساخ ، انه يعشق الحدائق .
يريد ان يكتب شعرا عن مدينته ، ليس عنده وطن وليس عنده اصدقاء ، يعشق الفنادق الكبرى ، تقتله حركة الالوان فيها ، بلغ الاربعين ، غزا الشيب مفرقه ، لم يعرف حلاوة الزفاف ويجهل رائحة الحناء وبريق خاتم الخطوبة ، لايعرف ان الاطفال يمرضون ، وان المراة تنتابها حالات خاصة  اثناء الدورة الشهرية ، انه لم يتزوج بعد ، ويعجب كيف يتزوج الناس واين يجدون زوجاتهم .
كفر بكل الفلسفات وبكل الفلاسفة وصار لا يحب  من يتعصب لدين او مذهب او من يروج لحزب او جماعة وصار يميل الى المتمردين فقط .
كان اذا سمع صوت طبل او مزمار واناس يرقصون يتكئ على حرمانه وينظر اليهم من النافذة بنهم  ويتعجب : كيف يزف العريس ؟ وكيف تتحلق حول العروس مئات النساء ، كيف جمع العروسان كل هذا العدد من الاقارب  ومن اين أتى بالاقارب ؟
قلت له ماذا تقرأ غير الجرائد والمجلات ، فنصحني ان لا أقرأ الكتب الثقيلة والتاريخية والدينية ، وطلب مني ان اقرأ دواوين الشعر التي كتبتها النساء كي ترق النفس  واتعلم كيف اكون طيبا  وكلفني ان ابلغ  هذه النصيحة  للاخرين من كل الجنسيات .
كل المدن لها عشاق من ابنائها ومن غير ابنائها  ولكل مدينة نكهة ولكل نكهة لذة ولكل لذة رعشة ، رأيته بام عيني وهوينتفض وهو يذكر الكوفة والبصرة  ويذكر حرارة الجو ويمسح عرقه البارد الذي بدا حول انفه كقطرات ندى او كحبات البلور .
وقبل ان ينهي غناءه وقبل ان ينفض مجلس البوح يمم شطر الوطن  فحنّ كالراهب وشكا وأنّ له وبكى ثم سلمني قارورة من تراب .
معادلات : حياة – امرأة ووطن =عذاب
عذاب + فقر + خوف = موت
مات من مات وانا بانتظارك تمتد بي الاعمار  وسكت كل مافي الليل البهيم  ، الا الحب الذي في داخلي فانه مازال يضحك ويبكي ويغني ، ويظل الغناء للمدينة  مستمرا .
aabbcde@msn.com