المحرر موضوع: سركون بولص في العالم الآخر  (زيارة 1145 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Ali Abdulal

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 8
    • مشاهدة الملف الشخصي

سركون بولص في العالم الآخر
أرقد بسلام أيها الشاعر الجميل

علي عبد العال

رحل عن عالمنا المزيف، الغريب والعجيب، الشاعر العراقي المبدع سركون بولص وانتقل صباح الثلثاء 23/10/2007 إلى العالم المجهول الذي يتمنى الناس، على الأخص المتدينين منهم، إنه العالم الأكثر نظافة من عالمنا الوسخ المليء بالشرور. الرحمة والسلام على روح الشاعر، الإنسان، المبدع، الذي ظل مخلصا لمعتقداته الأساسية مهما كانت بسيطة وواضحة أو معقدة حتى يومه الأخير.
كما يفرض علينا هذا المقام الحزين التوجه إلى ذوي الشاعر ومحبيه بالتعازي الحارة كما يليق به من حزن وفقدان للجميع.
يذكرني الشاعر الجميل سركون بولص بسيرة حياة عدد من الشعراء العراقيين كلهم ماتوا الميتة ذاتها؛ المرض، الحزن،البؤس، الفاقة، الغربة، الإهمال الرسمي، ويضاف إلى  العناصر الحيوية المخيفة مسحة التشرد الذاتي. رحلوا بما يشبه المفاجأة، قبل أوان رحيلهم ربما. رحلوا وهم يكتنزون جذوة الشعر الوقادة في قلوبهم الواهية من المرض، وموهبة الخلق والإبداع تخفق في أرواحهم الهائمة. بدر شاكر السياب، حسين مردان، عبد الأمير الحصيري، كزار حنتوش، جان دمو، كمال سبتي. هذا ما يتعلق بالشعراء العراقيين، أما ما يتعلق بشعراء العالم فتلك تكاد أن تكون ملحمة مترابطة في الحياة اليومية المتشابهة والمصير الواحد المتشابه في الكثير من التفاصيل. حتى أن بعض الشعراء من ذوي السن الكبيرة باتوا يحسدون ميتة هؤلاء الشعراء الحقيقيين بالرغم من الشهرة المزيفة الواسعة التي يتمتعون بها في شيخوختهم التي تقارب المراهقة في قياس عمر أصحاب الكهف.
ما دمنا في غمرة هذه الأحزان التي يخلفها غياب عزيز حتى تبارى المتبارون وتجمهر المتجمهرون ورفعت الشعارات وكتبت اللافتات وسنت رؤوس الأقلام الخبيثة. كما عندما مات النبي محمد العربي وقامت الشراذم تتبارى على الخلافة وهو لم يدفن بعد ولم يوارى الثرى. هكذا يقوم بعض الشعراء اليوم بتجيير شعر وإبداع سركون بولص لصالح المقاومة العراقية والوقوف بوجه الاحتلال الأمريكي للعراق. حتى لو كان لهذا الكلام من ملح فيجب التريث قليلا حتى يدفن الجثمان. على الأقل لنقرأ الفاتحة أو نرسم علامة الصليب على الصدر في المقال الأول الذي نرثي فيه رحيل الشاعر. فتولى احد الشعراء العراقيين المخضرمين مديحه لشاعرية سركون كونه شاعر ضد الاحتلال. حتى كاد أن يخلص إلى نتيجة أن سركون بولص لم يكن شاعرا إلا عندما وقف ضد الاحتلال الأمريكي للعراق.! ما عدا ذلك لم يكن سركون بولص شاعرا ومبدعا حقيقيا حسب مقاييس هذا الشاعر المقاوم المخضرم الذي يعيش في بلد استعماري عريق لازال يحتل هو الآخر بلده وبلدته على وجه التحديد. ولصق بالشاعر المبدع الذي لم نكد نتقبل صدمة الشعور برحيله حين طلت علينا هذه التهاليل السخيفة من الفرح المبطن بضمه إلى شعراء المقاومة العراقية، نقول هذا مع الاحترام الكامل للمقاومة العراقية الشريفة ضد الاحتلال.
سركون بولص شاعر عراقي أصيل ومبدع يفوق إبداعه الشعري الواعي في السنين الأخيرة ما كتبه أدعياء الشعر "المخضرمين" الذين ولى زمنهم الشعري منذ السبعينيات من القرن المنصرم. وما هذا البازار الذي يقومه البعض من شعراء المقاومة المزيفين الذين لم يرتقوا لكتابة نشيد للمقاومة حتى كتبه الراحل سركون بولص إلا للتلطي بدماء المبدعين للتورية عن العجز السياسي والعهر الثقافي والشحاذة العاطفية  المستندة إلى الشهرة التي لا تعرف الخجل.
وضع الشاعر "المخضرم" أسم الراحل سركون  بولص في البازار السياسي عندما نسب إليه موقفا سياسيا لا يتيح المجال لدولته تكريمه في هذا الوقت بحجة الوقوف ضد هذه الحكومة. وهذا الشاعر الذي يفتخر بولائه المفرط لحضارة المحتلين كان يطمح بمنصب في العراق الجديد لم يوفره له لا قوات الاحتلال ولا أبناء جلدته الذين يشتمهم ليل نهار. ونتذكر جيدا حين توفى الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في دمشق، وكان هذا الشاعر المخضرم في جوقة المعزين كواحد من أخوة البياتي، وبعدها بأيام قليلة ظهر مقاله الذي يحسد فيه الشاعر البياتي على المكان الذي دُفن فيه، بالقرب من ضريح العلامة الإسلامي البارز بن عربي في قلب العاصمة السورية دمشق معتبرا وصية البياتي بدفنه في هذا المكان بمثابة مؤامرة تاريخية لعبها البياتي بشطارة كأذكى لعبة ختم فيها مسيرته الطويلة. إنه حتى يحسد الأموات على القبور. عسى الله أن يكافئه بقبرِ يليق به وحده وليس يليق بالعراقيين.
تجرد الشاعر الراحل سركون بولص من جميع المظاهر البشرية المزيفة، وكان متقشفا بالزخارف اللفظية في شعره مقتصرا على المعنى مثل قصيدته بالضبط. عاش حياة بسيطة أقرب إلى التشرد والبوهيمية منها إلى البذخ والتهندم وباقي المظاهر الكاذبة التي تمنح الكائن شكلا جميلا من غير معنى حقيقي.
آخر مرة رأيته فيها كانت في مدينة كولونيا الألمانية بصحبة الشاعر خالد المعالي أواخر القرن الماضي. كان أشبه بكائن أرسطي متخما بالتأمل والدعابة الرصينة. وكان مريضا أيضا ويتمتع بإصرار غريب على إهمال المرض. فكان يدخن التبغ الذي يلفه بمهارة بأصابعه لفافة تلو الأخرى  بشراهة ودون انقطاع. أكلنا وشربنا في مطعمِ يملكه لبنانيون وأتراك. كان سركون بولص متقد الذهن ومتابعا للحركة الشعرية العراقيين بمختلف أسمائها الجديدة والقديمة. وكان قليل الكلام بشكل عام.
أرقد بسلام أيها الشاعر الحقيقي الجميل وأمنح روحك الهائمة بعض الراحة والسلام.