المحرر موضوع: الطوفـــان .. و ربابنــــة الطائفــــــية  (زيارة 883 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل راجح الحيدر

  • عضو جديد
  • *
  • مشاركة: 3
    • مشاهدة الملف الشخصي
   
الطوفـــان .. و ربابنــــة الطائفــــــية

راجح الحيـدر

   ما أن أنهيت ُ كتابة الأسطر الأخيرة من المقالة المعنونه ( كارثة إنهيار سد الموصل . . . ) حتى داهمت عيوني المرهقة إغفاءات متلاحقة وسريعة ، أخذتني عنوة الى دفء الفراش وأستسلمت جفوني للنوم سريعاً دون أن تترك لي فسحة من الوقت لكي تراجع أفكاري تلك الأسطر والأحرف التي كتبتها عن أوجاع و نزيف وطني الذي لايريد أن ينتهي !!
 ولأن تلك الأوجاع تأخذ طريقها الى البدن المتعب والرأس المزدحم بأفكاره، فقد راودني مسلسل الأحلام اليومي الذي لا نفقه من تفاصيله إلا القليل .. إلا أن واحداً منها كان في تلك الليلة البليغة ، يحمل معان عميقة ليست ببعيدة عن واقع دنيانا التي نعيشها هذه الأيام . .
  (( كان الزمانُ فجراً أقرب الى الظلام والسماء ملبدة بغيوم داكنة ، بينما كانت الريح العاتية تعبث بما هو تحت رحمتها ! جاء صوت المنادي عاليا ً، ليصل الى أسماع الجميع من الحشود المنتظرة : أنتم أيها الباحثون عن مخرج لمحنتكم .. ها هي السدود التي حمتكم لعهود طويلة قد أنهارت الواحدة تلو الأخرى وها هي أنهاركم المقدسة التي عاشت وعشتم معها قد فاضت بمياهها ، لتغرق الحقول والوديان والسهول وتهدد كل ما تبقى على أرضكم الطاهرة . أنه الطوفان الذي حُكي عنه و تناقلته الأجيال عبر آلاف السنين ! ها هو قادم اليكم لا محالة !
 عمّت الفوضى تلك الحشود البشرية التي أستولى عليها خوف و رعب تهتز له الأبدان و ترتجف  ، وبدأت الألسن تتساءل عن المصير المجهول الذي ينتظر الصغار والكبار معاً ! أرتفعت الأيادي عالياً الى السماء تبتهل الى خالقها وخالق الحياة ، لكي يبعد عنها هذا البلاء والذي لا يرحم عبداً فقيراً أو مالكاً أو سلطاناً ! وبينما كانت تلك الصيحات تتعالى ، لاحت في الافق وأمام أعين الجميع ، أربع من السفن التي أبحرت من وجهة غير معلومة ، تخفق أشرعتها من شدة الريح . كانت الاولى وهي الكبيرة تقترب شيئاً فشيئاً ، ثم تلتها من هي أصغرمنها لتلتحق بها وترسو الى الخلف منها ، وقد كتب على الاثنتين أدعية ! وتوالى بعد ذلك وصول السفينة الثالثة التي حملت شعارات مكتوبة بلغة لا نفهمها ! أما السفينة الرابعة  فقد كانت أصغر حجماً من الأخريات و صُبغت بألوان الطبيعة الزاهية !
   أقتربت الحشود الفزعة والخائفة من الشاطئ المتعالي والمتلاطم الأمواج ، مسرعة ولاهثة ، لاتحمل من متاع الدنيا شيء ، أملاً في تلك الفرصة التي لاحت لهم ، لكي ينجو بأرواحهم وأرواح صغارهم الحالمين بأيام لا يعلوها صراخ ولا عويل ، قاطفين من حقول بلادهم أزهار البنفسج والياسمين !
  كان ربان كل من السفن الأربع ومن حوله من الحماة مدججين بالسلاح ، فيما وقفت مجموعة من الحراس عند بوابة كل سفينة ، تدقق في هوية المتدافعين نحو سلـــّم الصعود ، يسمحون للبعض ويمنعون ً في نفس الوقت آخرين من الصعود الى ظهر السفن تحت أعذار واهية ، لا تمت بصلة الى الصفات الأنسانية التي أوجدها الخالق في عباده أجمعين ولا الى أحقية العيش والتنعم بنعمة الحياة ومقاسمة العيش المشترك وتضحياته عبر آلاف السنين !
   على يميني وقفت مجموعة بشرية صغيرة يتشح صغارها و كبارها بالملابس البيضاء ، أحتشدوا و تلاصقوا في كومة مع بعضهم البعض ، يتقدمهم شيخ جليل ، يرتعدون خوفآ ، لا من قساوة ما حملته الطبيعة من غضب فقط  ، بل خوفاً مما تراه أعينهم من حال لا تسرّ حياتهم وما كانوا يعانوه ! شيخهم الجليل هذا الذي وقفنا جميعاً بجانبه وهو يحاور الربابنة وحراسهم ويبحث معهم إيجاد مكان لنا مع الركاب ، وقف حائراً ومتسائلاً عما يجري لمجموعته الصغيرة التي تستغيث طالبة العون والرحمة ، دون أن تجد أحداً يستجيب لنداءها الأنساني !  ثلاثة من هؤلاء تعذروا بحجة أن أوراقنا مختلفة والرابع يعتذر من أن سفينته الصغيرة لا تتسع لكل هذه الحشود ولا بد من عملية الأنتقاء  !
 ُيبادر أحدهم ليسألنا : من انتم ؟ أجابه شيخنا الجليل : نحن أصحاب غرس التوحيد الاول . نحن أصحاب الراية البيضاء وغصن الآس . نحن أتباع النبي يحيى عليه السلام الذي ورد أسمه في القرآن والانجيل . نحن قوم موحدون ومن أهل الكتاب ونحن خمرة أرض وادي الرافدين المقدسة . . !
يسألنا آخر : ما هو تاريخكم وثقافتكم ؟  يتقدم الحشد مجموعة من العلماء والمثقفين للاجابة ، وأسمع صوت العالم الدكتورالمرحوم عبد الجبار عبدالله يرد على السائل عن مساهماتنا في إغناء حضارة وادي الرافدين منذ آلاف السنين ومازلنا . .
يسأل آخر ما مقدار تضحياتكم لأجل الوطن ؟  تبرق السماء وتتعالى الاصوات في الفضاء وتهبط ملائكة ، لتشهد بالحق . إنها أصوات كوكبة من شهدائنا الابرار .. كـــل ٌ يحكي قصة إستشهاده ، وأسمع شهادات الاخوات : بدرية داخل وعميدة عذبي و أكرام عواد وأخريات و أسمع شهادات الاخوان : عزيز ، شنور ، ستار ، عبد الرزاق ، نافع ، إلتفات ، هيثم ، سمير و عصام  وآخرين من شهدائنا الخالدين . .
 يسأل آخرون : وماذا تمتهنون من أعمال ؟  ويأتيهم الجواب متلاحقاً : أنا رجل دين ناطق بالحق ! أنا الصائغ الذي زينت قلائده الجميلة رقاب الفتيات والنسوة ! أنا المعلم الذي أحببه الصغار و تعلموا ! أنا الفنان الذي رسم بالألوان وصفقت له الأكف ! أنا العالم الذي تفتخر جامعات العالم بعلومه ! أنا الطبيب المداوي الذي يملك بلسماً لكل جراح البشر بغض النظر عن دينهم أو معتقدهم أو لونهم ! أنا  الصحفي الذي ناصر كلمة الحق وناهض الباطل دفاعاً عن الفقراء ! أنا المهندس الذي حفظت له مدنية المعمار بما هو جميل وحديث  ! أنا النجار الذي صنع الكراسي للكبار و رحلات المدارس للصغار ! أنا العامل الذي نضح عرقاً وكدحاً مع الآخرين لأجل سعادة الصغار والكبار ! أنا الموظف الذي لم يفتأ يوماً أن يصنع  يوماً جميلاً لوطنه . . .  !
يرتفع صوت شيخنا الجليل من جديد : كما سمعتم أيها الاحبة .. يا أبناء الأرض المشتركة التي نحن عليها ، يامن تريدون الأبحار بعيداً عنا : هذه هي أصولنا وتاريخنا المجيد وهذه هي ثقافتنا ومقدار تضحياتنا في سبيل الوطن وهذه هي مهننا وأعمالنا ، ألا يحق لنا أن نفخر ونعتز بأنفسنا وأن نكون أبناء بررة لهذا الوطن ونبحر معكم خلاصاً من الشر المحدق بنا ؟  نسمع من جديد همســـاً و حواراً و لغواً لا نفقه منه شيئاً من ربابنة السفن ، يأسفون لعدم وجود أماكن لنا معهم في طريق النجاة ! تتحرك السفن جنوبآ وتغيب عن عيوننا . يبدأ شيخنا الجليل يصلي مرتسماً بالماء الجاري مرددين معه دعاءنا الى خالق الحياة !
ومن أعالي السفن الاربعة التي أمتلأت بالكثيرين ، كان هناك من الركاب ممن تعاطفوا معنا بصيحاتهم و توسلاتهم بحراس السفن لكي يسمحوا لنا بالصعود ونسمع أصواتهم تنطق بالألم والحق معاً : لكم الله .. لكم الله ، يحفظكم ويرعاكم !  تعالى صراخنا وصراخ مودعينا معاً ، عندما هدرت محركات السفن لتحمل المغادرين بعيداً عنا ، تاركة جموعنا ، وسط مشاعر من الأحباط والخوف من المجهول والمصير الذي ينتظرنا . وبدأ عويل النساء وصيحات الصغار يتعالى ويشتد مع أبتعاد السفن عنا : أغيثونا .. أغيثونا.. كيف تتركونا ونحن اخوانكم في الانسانية وشركائكم في هذا الوطن منذ آلاف السنين ..
 قال كبارنا : هل نبقى ننتظر قدوم سفينة تائهة تنقذنا من محنتنا أم ننتظر طائراً يهبط من السماء لانقاذنا ؟ لابد من عمل شيئآ ما .. وأن لا نقف مكتوفي الايدي وأن لا تموت أحلامنا . وقال شيخنا الجليل : سنبقى نصلي حتى يرسل خالق الحياة عز وجل نبيه نوح عليه السلام من جديد ويبني سفينته ويدعونا للصعود إليها بدون تمييز وبدون التمعن في هوياتنا الشخصية ، وحتى ذلك الحين لابد من الصبر أيها الاحبة !  أنه قدرنا أيها الطيبون .. انه القدر المحتوم في أن لا نغادر هذه الارض الطيبة ، لقد كتب الله لنا الخلود .. وقال حكمائنا الخالدون : قبل قدوم الطوفان لابد أن نغرس أقدامنا في طين العراق ونربط أجسادنا الى جذوع اشجار النخيل وسيقان القصب وتتشابك ايدينا ونصبح كتلة واحدة مرصوصة البنيان حتى لا يأخذنا الطوفان ، نحرس كنوز أرضنا المقدسة ونحمي آثار الأولين من الضياع ، ولنكن خمرة ً للحياة الجديدة بعدما ينحسر الطوفان ونكون الجنة التي تحط عليها حمامة السلام ومن أرضنا تلتقط غصن الزيتون ! وسنكون المرفأ الذي ترسو به سفن العراقيين جميعآ وبدون استثناء وسنكون الحضن الدافئ والقلب الحنون للطيبين من أبناء شعبنا الأبي ونعيد الحياة من جديد ونحقق أماني شهدائنا الابرار . . ))  .
على رنين الساعة الألكترونية أستيقظت فزعاً ، تلامسُ أطرافي الباردة حافة السريرالذي كُشف عنه الغطاء . لملمت جسدي المرهق لأنهض من على الفراش دون أن أغادره .. وفي خيالي الطري لا زالت أحداث الحلم الذي عشته و صور الناس المفزوعة والخائفة والطوفان الذي يهددهم في وطني وقساة القلوب و سفنهم الهاربة الذين تركوا الآخرين تحت رحمة الأقدار و رحمة المتلاعبين بحياة الناس دون أي أعتبار لوازع أنساني أو ديني أو حضاري   !