المحرر موضوع: القيـــــــــــد و أناشيــد البطولـــــة - قصة نفق سجن الحلة المركزي - الحلقة  (زيارة 2804 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Naeem Alzuheyri

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 11
    • مشاهدة الملف الشخصي
القيـــــــــــد  و أناشيــد  البطولـــــة
قصة نفق سجن الحلة المركزي
الحلقة الثانية
نعيم الزهيري
قطار الموت

  في الثالث من تموز/1963 حدثت انتفاضة وطنية في معسكر الرشيد في بغداد هزت الانقلابيين وكشفت عن جبروتهم الفارغ، لكنها فشلت لاسباب ذاتية تكمن في قيادتها، فجن جنون الحكام وارادوا القيام بحمام دم اخر يشمل مئات اخرى من ابناء الشعب، ولكن خوفا من اضافة فضيحة اخرى قرروا التخلص منهم بطريقة ابادة جماعية سهلة، حسبما تصوروا. فحشروا قرابة 600  ضابط من ضباط ثورة الرابع عشر من تموز ومن الكوادر الوطنية الديمقراطية واغلبهم من الشيوعيين المعتقلين في السجن العسكري رقم واحد الواقع في معسكر الرشيد، في عربات قطار مخصصة لنقل البضائع واحكموا اغلاقها وابلغوا سائق القطار ((  عبد عباس )) بانها حمولة يستلزم ايصالها الى السماوة.
  ادار عبد مفتاح التشغيل وضغط على جهاز المنبه، عوى القطار عواء" يصم الاذان ونفث دخانه الاسود وترنحت عرباته وأنت قضبان السكة تحت ثقل الحمولة، وفي داخل العربات المقفلة تلاطمت الاجساد البشرية المحشورة فيها ببعضها.. لم يدر بخلد احد الى اين؟ بل الموت والموت فقط، الاجل المحتوم لاغير.. لكن خبر القطار كان قد تسرب ربما من السجن او من مكان اخر وصار اسرع من القطار نفسه في الوصول الى المحطات الاخرى. توقف القطار في مدينة المحاويل فكان جمع من الناس في انتظاره... دنى شيخ ببدلة عمالية متربة من السائق ، همس باذنه ان الحمولة بشر، عراقيون وليس حديد او اكياس من الفحم .!! احتقن وجه عبد عباس وسارت رعشة في اوصاله ، لكنه تمالك هدوءه وارسل مساعده للتأكد من صدق القول  فجاء الخبر اليقين تصديقا لقول الشيخ، بشر في عربات مطلية بالقار تحت اشعة الشمس التموزية ؟ حتما سيموتون اختناقا ..!! امتص عبد عباس لفافته بهستيريا ونفث دخانها الكثيف فراى في ثنايا الدخان وتموجاته صور الدم ورفسات أناس يختنقـون، راى دموع شيوخ وامهات ونساء مفجوعات وصغارا ايتام... صاح بصوت لم يصل حد الشفاه: اولاد الكلبة هذه المرّة يقتلون الناس خنقا، الدم في الشوارع، الدم في السجون، في كل مكان. في الحصوة دفنوا اناسا وهم احياء وفي دجلة رموا الاجسام المقيدة الموضوعة داخل اكياس مشدودة. واليوم، اليوم خنقا !؟ . تصاعدت النخوة العراقية، ودفعته انسانيته بقوة لاتصدٌق.. سر ايها القطاراللعين باقصى ما تستطيع، تحول الى طائرة تحط في ارض بلا سجون، بلا دم ، بلا مشانق. اذهب الى اقاصي الدنيا حيث لااسلاك ولا مشانق ولا خصام بين الاخوة...
  اشتدت الحرارة داخل العربات وقلت نسبة الاوكسجين، وفقدت الاجسام السوائل والاملاح، وبدأ الاختناق يتزايد فسقط الضعيف وترنح القوي ... في احدى العربات كان الرجل الطيب " نعيم بدوي " وهو مناضل قديم قضى عشر سنوات في سجون العهد الملكي وبعد ثورة الرابع عشر من تموز/1958 حيث اطلق سراحه من السجن، عيّن مديرا للاستيراد والتصدير في أوروزدي باك، بعد ان اعيدت له حقوقه السياسية وكان ضمن المعتقلين المسفرين في قطار الموت، كان يحمل معه قنينة ماء ففي الحالات القصوى كان يضع ملئ غطاء القنينة في فم المغمى عليه، وفي عربة اخرى نصح الاطباء ان يبدأ كل واحد بلحس جسمه لتعويض ما فقده من املاح... وتزايدت المأساة واشتدت وصارت الدقيقة يوما والساعة دهرا، انه الموت الحقيقي الذي لا مفر منه ، غثيان، اغماء، موت...
  في تلك الظهيرة القائضه من يوم 4/7/63 . توقف القطار في محطة السماوة قبل ساعـتين من موعد وصوله المقرر؛ هذا ما استطيع عمله ولتكن النتيجـة اما تكون.. اعداما ام سجنا؛ بهذه الكلمات اتم السائق الشريف رحلة السجناء الى السماوة، ثم ترجل مسرعا نحو العربات وقد سبقته جماهير السماوة الى الابواب ففتحوها واخرجوا السجناء انصاف احياء وسارعوا لاحضار " الطشوت " مملوءة بالماء والثلج ، لكن الاطباء من السجناء انفسهم، ونخص بالذكر منهم الدكتور رافد صبحي الطبيب المشهور بجراحة القلب، كان قد امر باضافة الملح الى الماء الفاتر بدلا من الماء المثلج ورش الاجسام والشرب لتعويض ما فقدته من املاح جراء التعرق، وبذلك انقذ السجناء من موت محقق. لقد فارق الحياة يحيى نادر وهو ضابط وطني برتبة رئيس اول...
  ومن نقطة تسفير السماوة ايضا، تحركت نحو سجن السلمان ، قافلة العطش وهي عبارة عن بضع عشرات من السجناء الشيوعيين والوطنيين، ارسلوا من البصرة الى السماوة في القطار ومن ثم في السيارات المخصصة لنقل السجناء، وقد ضلّت القافلة الطريق الترابي الذي غطته رمال الصحراء، ولمدة يومين بقي السجناء دون زاد او ماء.. كل ذلك كان يمر بالذهن كما تمر اشرطة الافلام وتبقى محفورة؛ في الذاكرة وتنتقل الى الاجيال تلو الاجيال وكما يقول الجواهـري الكبيــر:

                    هنـاك سيذكر شيـخا وليـــدُ               ويبكي لـما ذا ق جـد حفيــدُ
                 هنـاك  سيغنى على وتـر القلبِ       هــذ النشيــــــــد         

  بين السماوة وسجن نقرة السلمان اكثر من مئة كيلومترعبر طريق ترابي مملوء بالحفر. تسير السيارات المثقلة بالاجسام البشرية المضامة بقوافل لئلا تظل الطريق وتحرس القوافل سيارات الشرطة السيارة تاركة وراءها اعمدة كثيفة من الرمال الناعمة، وهجير الصحراء يلفح الوجوه المتربة بلفحاة كاوية... وفي موقع " عميّد " الذي يتوسط الطريق توجد بضعة بيوت وساقية تملء بالماء بين الحين والاخر من بئر لسقي الماشية.. صحراء جرداء لانبت فيها لا ابركة ماء لانقيق ضفدع او طير في السماء وعلى مشارف السجن تبداء السيارات بالنزول في طريق كلسي يتلوى كالافعى بين الصخور البيضاء والرمادية هناك تقع عدة بيوت حجرية وعلما" حزينا" وسياجا" عاليا" يبدو بلا حدود؛ ذلك هو سجن نقرة السلمان الصحراوي سيء الصيت ...

سجـن نقــرة السلمــان مــن الـداخـل

  في ذلك المنخفض الطبيعي الكبير قامت القوات العسكرية البريطانية بتشييد " قلعة السلمان" تحت اشراف الجنرال "كلوب باشا" الذي تولى قيادة الجيش الاردني خلال الحرب العالمية الاولى، والغرض من تشييد تلك القلعة، كما، يشاع هو لاغراض عسكرية، أي كقاعدة للدفاع ولصد هجمات وغارات الوهابيين السعوديين على غرب العراق، ولذلك الموقع الستراتيجي في تلك النقطة الصحراوية اهمية اضافية كبرى ايضا، لانها تتوسط بين العراق والاردن والسعودية وحتى الكويت... ومن المحتمل جدا ان تواجد الجيش في تلك النقطة هو لحماية مكامن النفط العراقي في غرب وجنوب غرب العراق.. وبعد عقدين ونيف من السنين وجدت حكومات العهد الملكي انه خير مكان لابعاد الخصوم السياسيين الاشد تعنتا" وصلابة وتمسكا" بافكارهم. فأثر وثبة كانون المجيدة في عام 1948 دشن ذلك المكان اول مبعد سياسي ذلك هو الشيوعي فخري بطرس ومن ثم جعلته الحكومات سجنا رسميا لليساريين وبالاخص الشيوعيين.
  ما ان تجتاز الغرف المخصصة لادارة السجن، يواجهك باب كبير من القضبان الحديدية السوداء، هو الباب الرئيسي للسجن وبعدها بخمسة امتار باب اخر مشابه لكنه اصغر منه وهذا الباب يفضي الى داخل القلعة القديمة للسجن..                                                               
  يتكون السجن من قلعتين، القلعة القديمة والقلعة الجديدة، فالقلعة القديمة تتكون من ساحة ترابية تحيطها من اليمين ثلاث غرف صغيرة ومن اليسار غرفة اخرى كبيرة طولها بعرض الساحة وارتفاعها لايقل عن ستة امتار، وعلى ارتفاع المتر الرابع يرى وسط الحائط باب صغيرة سوداء من الحديد هي المدخل الرئيسي الى الفراغ بين سطح الغرفة وسطح البناية. يتم الصعود بواسطة سلّم وفي سطح الغرفة توجد فتحة مناسبة هي باب الغرفة ومدخلها الرئيسي، اذ منها ينزل السجناء الى الغرفة ثم يسحب السلّم. الغرفة مظلمة ولاتوجد فيها سوى كوه صغيرة ( رازونة ) في اعلى الحائط للاضاءة نهارا، ولك ماتتصوره من انواع الحشرات والزواحف الصغيرة التي تعشعش فيها. يتم اخراج السجناء يوميا ساعه واحدة للتمتع بالشمس. لقد خصصت هذه الغرفة للسجناء ( الخطرين) المثقلين باحكام ثقيلة. اما القلعة الجديدة فتختلف عن نظيرتها اذ يربطها باب بالقلعة القديمة هو عبارة عن فتحة كبيرة في الجدار بين القلعتين، ومن الجهة الاخرى يوجد باب حديدى كبير منه تطرح المواد الغذائية للمطبخ والوقود وغيرها.
  القلعة الجديدة كبيرة جدا قياسا للسجون الاخرى وتحتوي على عشر قاعات ( قاووش ) تتقابل القاعات بصفين متوازيين تتوسط الصفين ساحة واسعة تستعمل للعب كرة القدم وتقترب في سعتها من الساحة النظامية للكرة. وبين قاعة واخرى مسافة لاتقل عن خمسة عشر مترا... طول القاعة الواحدة 36 مترا وعرضها يزيد عن خمسة أمتار وفيها بابان واثنى عشر شباك متقابلة. واضافة للقاعات العشر يوجد مطبخ وفرن للخبز وغرفة للطبابة وغيرها... يحاط السجن بسور مرتفع ثبتت فوقه اسلاك شائكة وفي كل ركن من السور يوجد محرس.
  يجلب الماء الى السجن بواسطة خزان تحمله سيارة، من بئر يقع على مسافة ليست قريبة من السجن، الماء عسر بشكل لايصدق اذ انه يحتوي على الكثير من الاملاح، طعمه مزيج من الملوحة والمرارة وكلما يشرب المرء منه يزداد عطشا ويتسبب انتفاخ في الامعاء من كثرة الغازات الكريهة، وغالبا مايصاب السجناء بامراض المعدة والامعاء والكلوتين.. اكتض السجن في اعوام 1963 ـ 1964  حيث قارب العدد 2000 سجين سياسي وبذلك تعذر النوم في الليل ولو بقليل من الحرية. البطانيات السوداء تغطي الاجسام المرصوفة بصفين متقابلين في القاعة. ومن شدة العفونة وكثرة الروائح الكريهة مــن التنفس والتدخين والغازات الاخرى تفتح الابواب على مصراعيها ليلا ونهارا لتبدل الهواء الفاسد. وعندما يخرج سجين ما من قاعته ليلا لقضاء حاجة يوّد ان لايدخل اليها ثانية... اتخذت الهيئة الادارية وهي هيئة تقوم بتنظيم الحياة بالسجن، قرارا بان لايزيد عرض فراش الواحد من السجناء على خمسة واربعين سنتمترا ونفذت هذا القرار ورشة الخياطة التابعة للسجناء انفسهم، ويقوم النداف ( ابو هلكان ) كما يسميه السجناء تحببا بندف القطن وعمل المطارح وغالبا مايزيد القطن عن الحد المقرر او يصير المطرح كاالمصران المنفوخ. لم تعالج المشكلة، مشكلة الازدحام بهذا الاجراء ولابنصب الخيام بين القاعات لامتصاص القادمين الجدد الى السجن حيث المجالس العرفية تضخ باستمرار... درست الهيئة الادارية واللجنة الحزبية للسجناء هذا الموضوع واتخذتا قرارا ايده كل السجناء وهو مفاتحة ادارة السجن بعدم قبول اي سجين اخر جديد كما قدمت مذكرات الى اعلى المستويات الحكومية توضح عدم عدالة الاحكام وتطالب باطلاق سراح السجناء السياسيين وقـد تقيدت ادارة السجن بعدم قبول سجناء جدد." وانا كنت من ضمن الوجبة الاخيرة التي دخلت سجن نقرة السلمان "..
  لم يكن سجن نقرة السلمان هو الوحيد في العراق بل كان اشهرها لغاية افتتاح سجن ابو غريب ( الانجاز البعثي الكبير؟!) اذ توجد سجون ومعتقلات اخرى في كل مدن العراق.

الشيوعيون يحولون السجون الى مدارس

   عندما تفتقد حرية التعبير عن الرأي وتزداد الهوة اتساعا بين الجماهير الواسعة وبين الحفنة الحاكمة، تكتظ السجون بخيرة ابناء الشعب واكثرهم وعيا وادراكا واللذين يتميزون بالحس الوطني والطبقي والقدرة على التضحية والاستعداد لها... فالسجن قيد دامي وسوط يلهب به ظهور اصحاب المعتقد وهو اسهل وسيلة لابعاد المناضلين وعزلهم عن جماهيرهم والضغط عليهم بغية تبليدهم وليّ عريكتهم... في العهد الملكي تتنوع الاحكام وتزداد قسوة من السجن الى السجن الشديد  بالاشغال الشاقة حيث توضع سلاسل الحديد في اليدين والرجلين ويكون وزنها تبعا لمدة الحكم ونوعه، وفي احيانا اخرى تضاف الى السلاسل مايسمى ( الخطام ) وهو حديدة بطول معين يباعد الرجلين فتكون اكثر ايذاء للسجين. الغي وضع الحديد بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958، اثر الاطاحة بالنظام الملكي واعلان الجمهورية وبذك صارت السجون اخف وطأه لغاية بناء سجن ابو غريب ( الانجاز البعثي العظيم كما يدعون ) حيث صار للسجون الوانا اخرى من التعذيب والقتل والاعدامات السرية والتغييب لعقود من السنين. وسجون سرية تحت الارض بمواصفات يصعب وصفها كل ذلك للتخلص من الخصوم السياسيين ولحماية الكرسي.
  في اواخر عقد الاربعينات وعقد الخمسينات كان السجناء يشاركون ابناء شعبهم في النضال في الارهاصات الثورية فيقدمون المذكرات والاحتجاجات ويعلنون الاضراب عن الطعام ويعتصمون وعندما تعجز ادارة السجن عن اخضاعهم تستعين بقوات الشرطة وبالجيش ولم تتهيب الحكومة من اطلاق الرصاص على السجناء العزل ألّذين لايملكون غير ايمانهم بعدالة قضيتهم وشموخهم الذي لايذل، ففي اوائل عقد الخمسينات{ 1953} اطلقت القوات الحكومية النار على السجناء السياسيين الشيوعيين في سجن بغداد المركزي وقتلت 13 سجينا شيوعيا عدا الكثير من الجرحى،  وفي نفس العام ايضا  " 1953 " حدثت مجزرة اخرى في سجن الكوت المركزي اذ قامت ادارة السجن بقطع التيار الكهربائي والماء عن السجناء المضربين عن الطعام. ولقد اضربوا عن الطعام بعد ان اصرّت الادارة على عدم تلبية مطالبهم في تحسين ظروف السجن. ولما حاول السجناء المضربون حفر بئر داخل السجن لاستخراج الماء ، عمدت ادارة السجن الى  قذفهم بالزجاجات الحارقة ومن ثم اطلقت قوات الشرطة عليهم الرصاص بأمر من وزير الداخلية ( عبد الجبار ايوب) فاستشهد العديد من السجناء.. قدم عبد الجبار ايوب الى محكمة الشعب بعد اعلان الجمهورية وحكم عليه بالاعدام واعدم.. وفي سجن نقرة السلمان الصحراوي بعد انقلاب شباط الاسود عام 1963 اطلق الحرس القومي الرصاص على السجناء بشكل عشوائي بقصد الارهاب وقد احتمى السجناء بالقاعات تفاديا الرصاص.
  ولكن مهما اشتدت أو سهلت ظروف السجون فقد حولها الشيوعيون الى مدارس وتصليب واصرار لمواصلة النضال. يقول يوسف سلمان يوسف ( فهد ) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي وواضع برنامجه ونظامه الداخلي الاول:
   على عكس مايريده اعداؤنا الطبقيون من عزلنا عن شعبنا واهلنا وساحاتنا النضالية ومحاولة تبليدنا، لنحول السجون الى محطات راحة وتثقيف وتصليب للمناضل، حتى ينطلق بعد خروجه من السجن بعزيمة اقوى وعود اصلب مستنيرا بما تعلمه من افكار يفيد بها مجتمعه وطبقته العاملة، وبذلك فان فهد اول من ارسى الحياة الجماعية المنضبطة للسجناء الشيوعيين وتحويلها الى الشكل العملي، فصارت السجون السياسية مدارس للتصليب والتوعية والتثقيف، فالبرنامج اليومي للسجناء الشيوعيين يبدأ بالنهوض المبكر وممارسة الرياضة الصباحية رغم وجود قيود الحديد في ايدي وارجل البعض، وموعد محدد للفطور وموعد للقراءة الذاتية وموعد للراحة ومواعيد للمحاضرات السياسية والادبية والفنية والعلمية.. وفي الزيارات المحددة حيث يأتي ذوو السجناء حاملين معهم الاغذية والالبسة والنقود وغيرها من الحاجيات، تسلم كلها الى المخزن العام للسجناء ويعاد توزيعها عليهم حسب الحاجة، وحتى النقود تسلم كذلك الى اللجنة الادارية وتتم الاستفادة منها بشكل جماعي. ان الشيوعيين يقرنون النظرية بالتطبيق فالحياة الجماعية والتجرد من الانانية والذاتية هو من الصفات التي يتربون عليها.
  وتتميز المناسبات الوطنية والطبقية والاممية، حيث تستمر الاحتفالات، حسب اهميتها، لعدة ايام وتشهد نشاطات منوعة فالخطابية مثلا تلزم كل سجين بكتابة كلمة بالمناسبة يلقيها امام رفاقه قراءة وفي يوم اخر يخصص للخطابة الشفاهية المباشرة وبذلك يتم التدريب على القاء الخطابات امام الجمهور مستقبلا... وللمحاضرات الفكرية حصتها الكبيرة تلك التي لا تخلو من التأثيرات الفكرية السائدة انذاك. ثم يأتي دور الحفل الترفيهي، المسرح والتمثيل، وللرسم والشعر والقصة والنقد الادبي حصتها المميزة سواء في المناسبات ام في غيرها. كذلك يجري الاهتمام بسلامة الاجسام بشكل استثنائي. بذلك تمكن الشيوعيون من تحويل السهم الى راميه اذ صارت السجون مدارس حقيقية... كما تمكن السجناء الشيوعيون من كسب العديد من افراد السجانين الى جانبهم واستفادوا من خدمات كبيرة قدمها لهم السجانون ولا شك ان الموقع الطبقي لهؤلاء يقع ضمن ما يناضل من اجله الحزب الشيوعي ...
  تأثر الكثير من السجناء غير السياسيين من مرتكبي الجرائم كالقتل والسرقة والاعتداء وغيرها، بالشيوعيين وتربوا على افكارهم واخلاقهم فخرجوا من السجن والتحقـوا بصفـوف الحزب وصاروا قادة حزبيين ونقابيين اسشهد عدد منهم ببطولات نادرة في النضال الوطني والطبقي... ان تلك التربية الصارمة للمناضلين جاءت انسجاما مع الانظمة الداخلية والبرامج السياسية للحزب ووفقا للظروف المعاشة. ومن هنا سر صمود الحزب وبقاءه واستمراره، رغم كل الضربات الموجعة التي حلت به قيادة وقواعدا...
  وللنساء السياسيات سجنهن الخاص وطاقم كامل من السجانات لادارته وحراسته.. يقع سجن النساء المركزي في بغداد في منطقة باب المعظم ويلاصق سجن بغداد المركزي والموقف العام. يتكون سجن النساء عدا غرفة الادارة وغرفة استقبال الزوار.. من قسمين، الاول لسجينات الجرائم الاعتيادية وفيه ثلاث قاعات يفصله عن القسم الاخر المخصص للسجينات السياسيات باب حديدي يقفـل بمزلاج كبير. اما قسم السياسيات فيتكون من خمس غرف بجزئين منعزلين يطلان على ساحة صغيرة... الاسرّة قليلة جدا في الغرف وكانت تعطى لكبيرات السن والمريضات منهن اما البقية من السجينات فينمـن على الارض. لقد امضت بعض السجينات السياسيات عشر سنوات او اكثر في هذا السجن اذ منهن من دخلت السجن في عام 1948 " وثبة كانون الثاني " واطلق سراحهن بعـد ثورة الرابع عشر من تموز/1958 ، ثم عاد السجن وامتلأ ثانية في عام 1960 وما بعده لغاية فتح سجن ابو غريـب، ولا يقل تنظيم السجينات الشيوعيات انفسهن في سجن النساء عن تنظيم رفاقهن الرجال في السجون الاخرى .

انتكاسة ثورة 14 / تموز/1958؛ السجون تمتلئ ثانية بالشيوعيين " في عهد الزعيم الاوحد" !!

   بدأت مسيرة الرابع عشر من تموز بالارتداد عن نهجها السليم وعادت السجون تفتح ابوابها ثانية لاستيعاب ما تضخه المجالس العرفية الحاقدة على اي نفس تقدمي فامتلأت السجون حتى التخمة وصار الكم اكثر من الكيف اذ ادخل السجون اناس لا ارتباط لهم بالسياسة، فضعف ذلك الانضباط والالتزام الواعي الصارم وتخلخلت الحياة الجماعية ونمت الذاتية والليبرالية لكن هيكل البناء السابق بقي من حيث التنظيم، اذ هناك لجنة حزبية تقود السجناء وتهتم بالامور الفكرية والسياسية والاتصال بالحزب وتحدد شكل العلاقة مع ادارة السجن قدر المستطاع.. والى جانبها لجنة ادارية تهتم بتدبير وتمشية الامور اليومية، خفارات المطبخ وفرن الخبز واستلام الارزاق من المقاول والاهتمام بالنظافة وغيرها من الامور الاخرى...
  لم تكن ادارة السجن راضية عن ان ينظم السجناء انفسهم فهي تعمد وبمختلف الاساليب تخريب علاقاتهم مع بعضهم وزرع عملائها وعيونها داخل صفوفهم وتتبع شتى الطرق للسيطرة عليهم لكنها غالبا ما تجابه بوحدة السجناء وقوة تنظيمهم، اذ هناك امور هامة يناضل السجناء السياسيون من اجل تحقيقها كالاعتراف بممثل لهم ينظم علاقتهم مع ادارة السجن  واستلام المطبخ والمواد الغذائية من المقاول مباشرة واجراء التعداد اليومي للسجناء وهم في داخل الغرف وليس في ساحة السجن  وكذلك ادخال العوائل الى الغرف في اوقات الزيارات.. وعلى كل حال فكلما كان السجناء موحدين ويمتلكون قيادة جيدة مدركة وارتباطهم بمنظماتهم خارج السجن جيدة، ويجب الاّ ننسى الوضع السياسي العام في البلد، يحققون مكاسب هامة ويفرضون التعاون على ادارة السـجن .

  لشدما تحارب ادارة السجن الثقافة وحصول السجناء على الاخبار، فهي تمنع الراديو والكتب والمجلات وتحاول ان تفرض على السجناء عزلة تامة عن العالم الخارجي وبين فترة واخرى يجري تفتيش السجن بشكل مفاجئ، ومع ذلك فاجهزة الراديو والكتب الماركسية وكتب الادب الثوري يتم الحصول عليها سرا ولو بشكل محـدود... ومن ذكرياتي في السجون، اتذكرعندما كنت في سجن العمارة المركزي، في ذلك الصيف القائض من عام 1960، كنا ننام في الساحة المعبدة بالقار المليئة بالحفر لقدم التعبيد، والتي لا تنخفض حرارتها الا ما بعد الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وفي فجر احد الايام استيقضنا على صوت جلبة عالية وحركة غير اعتيادية ففاجئتنا قوات من الجيش والشرطة والشرطة السرية، تحتل السجن وتصوب فوهات البنادق نحونا ونحن لانزال في افرشتنا. امرونا الآّ نتحرك وجرى تفتيش الغرف وكل حاجياتنا بدقة كبيرة فأخذوا ما اخذوه من مقتنياتنا الشخصية، ولكن اهم شيْ اخذوه هو الكتب وجهاز راديو صغير، ثم نقلوا خمسة من رفاقنا بضمنهم ثلاثة من الضباط الى سجن نقرة السلمان، وهم [ الرئيس اول ركن عربي فرحان والرئيس مشاة كاظم ابو سنّة،وقد اعدم في شباط 1963 والرئيس دروع ناجي نهر]. وبعد اقل من شهر تكفل احد السجناء من غير السياسيين "صابر حنش" وكان يدخل غرفة مدير السجن وغرفة مأمور السجن لفحص التيار الكهربائي، تكفل باعادة كتبنا فزودناه بكتب ومجلات غير ممنوعة، مثل، النظرات للمنفلوطي، عنترة بن شداد، مجلات الهلال... فكان يبدل الغلاف بالكتاب الذي نريد، وهكذا صارت قصة عنترة بن شداد تحمل غلاف رأس المال لكارل ماركس وغلاف كتاب الام لمكسيم غوركي يغلف كتاب المنفلوطي وهكذا.. ان مدير السجن ومعاونوه لا يقلبون الكتب ولا يهتمون بها بل تبقى الكتب فوق الرفوف يعلوها التراب......
  ومن ذكرياتي ايضا، في السجن العسكري رقم واحد في معسكر الرشيد حيث امضيت فيه اكثر من سنة اثر فشلنا في انتفاضة معسكر الرشيد والمسمات احيانا بـ "  ا نتفاضة الشهيد حسن سريع "، كان كل شئ ممنوع ومحرم علينا: الكتاب، المجلة، الجريدة، حتى الورق والقلم وكان آمر السجن، لقبه "الخيّال" يقول :
  " ليس لدي اوادم في السجن ، بل مخزون من البضائع اتصرف فيها ما اشاء "، وبجهود شخصية تمكنت من الحصول على راديو صغير عمدت الى تكسير غلافه الخارجي وسماعته ووضعت ماكنته الصغيرة في علبة سجائر اما البطارية " 9 " فولت فكان المرحوم سيد حرز يخفيها تحت طاقيته في النهار واستعيدها منه في الليل واستعمل سماعة الاذن الصغيرة في التقاط الاخبار وكانت تلك وسيلتنا الوحيدة في سماع الاخبار ..
  وفي سجن نقرة السلمان والسجون الاخرى المستقرة تقريبا كان الاهتمام بالاخبار والتعليقات السياسية والتحليلات كبير جدا حيث يوجد جهاز التقاط للاخبار وتحرير نشرة اخبارية يومية بشكل سري ويقوم بتلك المهمة عناصر مدركة ومنضبطة من السجناء ،وكان لي شرف المساهمة في تحريرها واستنساخها لفترة ليست قليلة، بالتعاون مع بعض رفاقي في السجن .
  احيانا يعمد افراد الشرطة الى اخذ الكتب التي يستولون عليها الى بيوتهم وبذلك تصير خير وسيلة لتثقيف ابنائهم من حيث لا يدرون.. ففي مدينة العمارة في العهد الملكي، كان مفوض الشرطة المدعو " زبير " وهو من الد اعداء الحزب الشيوعي، عندما كان يقوم بعملية تحري للبيوت ويعثر على كتب سياسية ماركسية يرسلها الى بيته، وكان اولاده "محمد طلحة واخوانه" طلاب في المدرسة المتوسطة انذاك فاخذوا يقرأون تلك الكتب بنهم سرا وقد تأثروا بها كثيرا ثم صاروا اعضاء نشطاء في صفوف الحزب الشيوعي وتحملوا التعذيب والسجون ....
   
  لم تفرض ادارات السجون اعمالا على السجناء وبالاخص السياسيين منهم لعدم وجود اعمال، فالسجون بدائية والانظمة الحاكمة بدائية ايضا وكل وسائل الانتاج والقوى المنتجة لم ترق الى تطور كبير يحتاج الى استغلال ايادي عاملة تطول حتى السجناء... انهم فقط يمارسون بعض هواياتهم التي لا تزعج ادارة السجن فالبعض منهم يتسلى بالتطريز على القماش والحياكة وبالاخص في سجن النساء المركزي....
  فــي انقلاب تشرين الثاني /1963 استولى القوميون على السلطة بقيادة عبد السلام محمد عارف وطردوا حلفاءهم من البعثيين واطاحوا بالحرس القومي وتقاربوا كثيرا مع الجمهورية العربية المتحدة انذاك، ومن جانب آخر فانه بعد حمامات الدم واستهتار انقلابيو شباط وصبيان حرسهم القومي وتكرر المقاومة بأشكال متعددة في كل انحاء العراق، فمن اجل فك عزلة الحكام على النطاقين الشعبي والدولي ومحاولة  تبييض وجوههم السوداء، ولضعف الحكومة ايضا وهذا سبب رئيس ايضا، خفف الضغط على الشعب واخذ بعض المتنفس  فانعكس هذا بدوره على تخفيف الضغط على السجناء فسمح بالزيارات بشكل اعتيادي وتعاونت ادارات السجون مع السجناء السياسيين وبالاخص سجناء نقرة السلمان وسجن الحلة، ويجب الاننكر هنا ارتفاع وعي السجناء وتركيبتهم الطبقية فالكثير منهم من رجال الفكر والادب والاطباء والمهندسين والضباط والمعلمين  وغيرهـم.....
  في السجون مارس السجناء بعض الهوايات في النحت والرسم وحياكة الخرز الملون بالشكل الذي تسمح فيه الظروف. وفي صيف 1965 كان المقرر انعقاد مؤتمر الشبيبة العالمي في الجزائر فعمل سجناء نقرة السلمان لوحة رائعة من خرز الكرستال الملوّن تمثل السجن، لكن التغيرات التي حدثت في الجزائر انذاك والغاء انعقاد المؤتمر في الجزائر حال دون ارسال اللوحة... برزت هواية النجارة ايضا فعمل البعض آلة العود وعمل اخرون اشكالا جميلة من المصابيح المنضدية، وللرسم والنحت حضور ايضا حيث تفتتح معارض بسيطة لها وافتتحت دورات للاقتصاد السياسي والفلسفة الماركسية بشكل محدود وكذلك دورات للتمريض. وبالرغم من ان السجناء السياسيين هم من المتعلمين، الا ان ذلك لاينفي وجود سجناء أميين بينهم وهنا يجري التعليم الالزامي للقراءة والكتابة ويحتفل بتشييع اخر جنازة للاميّة في السجن.
  وتقام الامسيات الادبية والشعرية والقصة والنقد بين الحين والاخر. وتلح الذاكرة، ففي عام 1964  كان التحضير للاحتفال بمناسبة ثورة اكتوبر الروسية على مستوى رفيع فكان حفل ادبي جميل، وفي اليوم الثاني اقيم حفل رياضي ممتع ثم جاء الحفل الفني فقدمت الفرقة الفنية للسجناء مسرحية (( أفول القمر)) واستعملت المصابيح النفطية للاضاءة الملونة باستعمال الورق الملون... والى جانب تلك الفرقة شكلت فرقة شعبية أطلقت على نفسها فرقة (( شبيّشة )) وشبيّشة كلمة شعبية تعني الخليط غير المتجانس، قدمت فولكلورا شعبيا رائعا مستوفى من اعماق الريف العراقي في الجنوب، وعلى نغم الموال الريفي قدمت الفرقة اغنية ( يسوادي الخالات طلعن غرايب) وبذلك شقت هذه الفرقة الفولكلورية طريقها حتى طغت على اعمال اللجنة الفنية واخذت مكانها...
  حدث تبدل وزاري في العراق وتولى " صبحي عبد الحميد " القومي، وزارة الداخلية فشكل لجنة زارت كل السجون ومنها سجن نقرة السلمان. واخذت تستجوب السجناء واحدا واحدا واشترطت على السجين ان يعطي البراءة من الحزب الشيوعي العراقي او التعهد بعدم الاشتغال بالسياسة مقابل نقله الى سجن اخر، فبرزت فرقة شبيّشة باغنية:

علـى يامـال يـردونـه                    نوقـع على البـراءة
حزبنـا الابـي منعوفـه                     ولانرضـى بدنـاءة
حزبنـا ورمـز قـوتنـا                    وثبت  حبـه بكلبنـه
علـى الطيبـات  ربانـه                    ولانـرضى  بخيانـه
رفيق انخاك دوم اصمـد                     ولاتحنـي الهامــة
يمـوت اللـي  يعادينـا                     ونظـل احنه النشامه

  كان لتلك الاغنية اثر بالغ في شد لحمة السجناء واثارة حميتهم وحماسهم ورفضهم الخنوع والتبرئ من الحزب اذ من بين مايقارب 2000 سجين لم يتبرأ من الحزب سوى واحد فقط... ان مثل تلك الاغنية كان كمثل قصيدة الشاعر الشيوعي مظفر النواب المسماة براءة تلك التي قالها في سجن الموقف القلعة الخامسة ببغداد والتي اوقفت المترددين من المعتقلين والسجناء من اعطاء البراءة، وتغنى بتلك القصيدة الشيوعيون وغير الشيوعيين، ولنا ان نقول ان السجن مهما زوق له وقلل الضغط فيه على السجناء فانه قفص يحبس حرية الانسان ويبعده عن اقرب الناس اليه ويصفده. فالقيد يظل قيد  حتى لو كان من الذهــب                                                 
يتبع
[/b][/size][/font]