المحرر موضوع: بغداد في زمن الباشوات  (زيارة 1892 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل جاسـم الولائي

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 26
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
بغداد في زمن الباشوات
« في: 10:49 03/02/2008 »
بغداد في زمن الباشوات

قراءة:جاسم الولائي
الكتاب: بغداد في العشرينات.
المؤلف: عباس بغدادي.
تقديم: عبد الرحمن منيف.
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.



من المؤكد أننا لن ننسى بغداد، بالرغم من أننا نخاف النسيان أن يلمس بعضاً من الأماكن والناس والأشياء التي هي توائم للروح، ومنها وفيها استمد العمر نكهته، وخوفاً من هذا النسيان ننشط الذاكرة على الدوام باستعادة الذكريات السعيدة والأيام الحلوة، ومن أجلها نستجلب بعض الأوقات المرة أيضاً، والأماكن التي سكنتها الروح، وتشتاق إليها العين. لكن عبارة (أيام غابرة) التي يستخدمها بقسوة العديد من الكتاب في وصف الماضي الجميل ترعبنا فنحن لا نرضى للغبار أن يغطي أشياءنا النفيسة وأماكننا الساحرة.
هل نجح عباس بغدادي العاني في الإمساك بالأيام والأماكن والذكريات أو بعضها وحفظها في كتابه (بغداد في العشرينات- 375 صفحة) الذي كتب مقدمته الروائي عبد الرحمن منيف، واحتلت الغلاف الأمامي منه صورة لسوق الصفافير عام 1931.
يقول عبد الرحمن منيف في مقدمة الكتاب:
"هذا الكتاب بالغ الأهمية، شديد الغنى، وهو من الكتب القليلة في هذا الموضوع، أنه ليس مذكرات شخصية ولا كتاباً في السياسة، كما أنه ليس من كتب (الخطط)، كما يطلق على بعض الكتب التاريخية- الجغرافية التي تتناول المدن، وليس كتاباً بحثياً، نتيجة الدراسة والتقصي لمدينة في مرحلة تاريخية معينة. إنه بالدرجة الأولى، كتاب صادر عن العقل والقلب معاً، وهو بمثابة شهادة قبل أن يكون كل الموضوعات التي أشرنا إليها وأخرى غيرها.
وبقدر أهمية هذا الكتاب في إعادة رسم مدينة خلال مرحلة محددة، بحيث يمكن على ضوء المعلومات التفصيلية الواردة فيه استعادة ملامح تلك المدينة، وبحيث يُذَكّر المسنين بالتالي ويطربهم، فإنه بالقدر نفسه بالغ الشأن للأجيال الحالية، لأن أكثر ما ورد فيه هو بمثابة ذاكرة ضافية تسند وتقدم العون لقراء الحاضر على ضوء المقدمات والأسباب التي كانت من قبل. ويؤكد الأستاذ عبد الرحمن منيف أن الكتاب يعد من المراجع المهمة حين يراد استعادة تاريخ بغداد بعد العشرات وربما المئات من السنين، كما يُرجع الآن إلى كتب بن إياس والجبرتي وعلي مبارك لقراءة أحوال مصر في القرون الثلاثة الأخيرة، أو كما يرجع إلى كتاب البديري، الحلاق الشامي الذي سجل حقبة من أحوال دمشق خلال القرن الثامن عشر"

صندوق للدنيا في كتاب.
ينغلق الكتاب على أربعين عنواناً داخلياً، إضافة إلى مقدمة الروائي منيف وسيرة ذاتية لبغدادي وهامش عنه. ما أن تقلب صفحاته حتى تنثال الأحداث والتفاصيل. حياة ثرية كاملة سرعان ما يكتشف القارئ أنها تجتذبه وتأخذه من نفسه. دنيا يحب أن يعيشها بكل تفاصيلها، بستان من بساتين ألف ليلة وليلة فيه ما يشتهي القلب من فاكهة الذكريات، يقدم عباس بغدادي حياته بكل ثرائها إلى القارئ، ولا يحس المرء بأن أكثر من تسعين سنة من عمر الكاتب كانت ثمرتها هذه الكتاب فقط كانت خسارة، فالكتاب هو معادل موضوعي لتلك السنين الطويلة الثرية، ويستحق هذه المسيرة الطويلة، ولو يمدّ الله في عمر المؤلف لكانت كل ساعة فيه جديرة بأن تُسجل ولاستحق القارئ أن يعيشها معه موثقة مكتنزة بالصور والأحداث والأفكار.
هذه العناوين تتحدث بالتفصيل عن أهم أحداث تلك الفترة، ووقائع درامية شهدها ذلك الزمان، وعن التقاليد والأماكن والمواقع والصروح والطقوس والاحتفالات الدينية والشعبية والمناسبات وأماكن الترفيه، وعن المهن في تلك الفترة، من مهنة التسول حتى الطب والتجارة والوزارة، وعن شخصيات لعبت أدواراً مختلفة وحظيت بشيء من الشهرة هي من الرجال والنساء، وعن الأحوال والمواقف والأطعمة والأشربة  والرياضة وتفاصيل أخرى كثيرة.
يستعرض الكاتب من الحوادث، أنباء الكوارث كغرق بغداد، غرق أحد المراكب في دجلة، انتحار السعدون، غزو الجراد النجدي، انتشار وباء الهيضة، نزاع اليهود، محاكمة الشيخ ضاري، ويسجل أيضاً وصول بعض الملوك واستقبالهم في بغداد كالملك فيصل الأول وشاه إيران، وأحداثاً سياسية كمظاهرات الطلبة والانتخابات ومنازعات الماء وغيرها. ويتحدث عن شخصيات بغداد الشعبية، وعن أطباء ومهندسين وصحفيين وشقاوات وأصحاب مقاه وفنانين ومعلمين ومتسولين ورجال دين وسياسة وتجارة. ويطوف عباس البغدادي في أماكن كثيرة في بغداد العشرينات والثلاثينات، فيمر بالأسواق ويدخل الخانات، ويعبر الجسور ويستعرض الشوارع والمستشفيات، الملاهي والمقاهي والمسارح ودور السينما وكراجات النقل، القصور والمغاني، مضامير سباق الخيل وملاعب كرة القدم والبولو، المقابر والمزارات،الدواوين، المطاعم، والحمامات، دوائر البلدية ومواقع أخرى عديدة.

شارع الرشيد
يوضح المؤلف أن خليل باشا، حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني حين قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعاً باسم (خليل باشا جادة سي). كانت هذه الجادة سبيلاً لعربات القناصل الأجانب الذين كانوا يسكنون في الباب الشرقي في قصور تطل على نهر دجلة، وكبار القوم في محلة باب الشيخ الذين كانوا يترددون على السرايا عابرين بعرباتهم هذه الجادة. لم يُحضر الباشا خارطة بغداد ولا مهندسين مختصين ويأمرهم بفتح شارع على أساس هندسي مع مراعاة استقامته، بل قام بتوسيع الطريق وتسويته وتعديل استقامته قدر المستطاع، وذلك لأسباب عسكرية ولتسهيل حركة الجيش العثماني وحركة عرباته، فتم العمل في هذه الجادة بصورة إرتجالية ومستعجلة. كان العمل يصطدم بمعارضة العلماء ورجال الدين عند ظهور عقبة تتمثل ببروز أحد المساجد على الطريق. وحين يصطدم امتداد الشارع بأملاك المتنفذين والأجانب المشمولين بالحماية وفق الامتيازات الأجنبية. ولقلة المال اللازم لعمليات الاستملاك وتعويض المالكين، تعرض الشارع لانحناءات تبعاً لتلك العراقيل. لكن الباشا تجرأ على أملاك الفقراء والغائبين ومن لا وارث ولا نفوذ لهم فأعمل فيها هدماً ومصادرة لصالح الجادة.

شخصيات شعبية:
يحرص عباس بغدادي على الإشارة إلى بعض الشخصيات البغدادية الشعبية التي كان لها دور ناشط في الحياة، لكنها ظُلمت وغُيبت ولم يكن لها حظ في الشهرة كما لغيرها من أمثال الزهاوي والكرملي وإبراهيم صالح شكر. ومن هؤلاء الذين يعيدهم مع أعمالهم إلى الذاكرة ويرفع بعض الظلم عنهم ويدعو للاهتمام بهم وإيلائهم بعض العناية.
•   المرحوم عبد الله ثنيان، الأديب الذي ألّف معجماً بمفردات اللغة العربية وكتاباً في الأدب العربي، حيث أرسلت مخطوطاتهما إلى مصر للطباعة، لكن لا الطبع تم ولا المسودات عادت إلى بغداد.
•   إبراهيم حلمي العمر، الصحافي البارع الذي كان ثرياً بموهبته، وظهر اسمه في العديد من مجلات ذلك الزمان. وقد دعا عباس بغدادي أولاد وأحفاد إبراهيم حلمي العمر إلى تعريف الناس به.
•   عبد الغفور البدري وقاسم العلوي اللذان كانا يصدران جريدة الاستقلال. ومن القصاصين يذكر عباس بغدادي كلا من السيد محمود أحمد، عبد الرحمن الفلاحي، عباس فضلي خماس، حسين الرحال، سليم الحريري، وعبد الله جدوع الذي ترجم العديد من نتاجات الآداب الغربية.
•   الصحافي ميخائيل تيسي، صاحب جريدة (كناس الشوارع). ذكّر المؤلف بما حصل لهذا الصحافي من مواقف ومشاكل.
•   ومن الشعراء، عبد الرحمن البناء، إبراهيم أدهم الزهاوي ورشيد الهاشمي، والأخير أدخلته السلطات وقتها مستشفى المجانين، بداعي أن قصائده في الحكومة وفي الإنكليز لا يقولها إلا مجنون. وتطول قائمة الصحفيين والأدباء وشخصيات الفكر، وكذلك الشخصيات الطريفة.

جسور بغداد.
يعبر الكاتب على جسرين رسميين فقط كانا في بغداد وجسر ثالث يقول الكاتب إنه لم يكن رسمياً. الجسران هما الجسر الصغير أو العتيق (جسر المأمون)، وكان من الخشب المركب على جنبات حديدية مكشوفة ذات صدر عريض وأسلاك حديدية أشبه بالحبال، تربط بالأناكر جمع (أنكر).
ويضيف أن الدواب والعربات العابرة كانت تثير قرقعة واضحة وهي تمر على الجسر، لأن ألواح الخشب لم تكن مثبتة على الجنائب، وكان العابرون يدفعون رسوماً للعبور إلى ملتزم رسوم الجسر. وكان آخر الملتزمين السيد حميد حنونة السامرائي.
أما الجسر الثاني فهو جسر مود (الأحرار)، ومود هو الجنرال البريطاني قائد الجيش الذي دخل بغداد عام 1917. وكان أحدث من جسر المأمون، وخطورة الفيضانات عليه أقل، وكان المرور فوقه يُنظم بالطريقة نفسها.
وفي عام 1924 أنشئ الجسر الثالت في منطقة الأعظمية، وبداية ذلك الجسر هي في الشارع المؤدي إلى المقبرة الملكية. وكان الجسر من الخشب ومن نفس الجنائب ذات المقدمة العريضة التي لا تستطيع مقاومة تيار دجلة إلا بوضع الأكياس المليئة بالتراب على الجانب الآخر لمنع غطسها، وكان جسراً ضعيفاً سيء الصنع وخطيراً على العابرين من الناس ومن العربات والدواب، وهناك رسم يدفع عند عبور الجسر.
يتحدث المؤلف أيضاً عن هروب الجسر العتيق حين كانت أسلاكه تنقطع فيهرب إلى الكرادة قبل تشييد جسر مود الذي صار يعترضه في طريقه إليها.

نبذة عن عباس بغدادي.
إن حياة عباس بغدادي أسطورة بحد ذاتها، فيها من الطرافة والغرابة ما يثري، ويصدق في الحال لمن اطلع على كتابه (موضوعنا). ولو رافق هذه الحياة قاص وتتبع مسيرة الكاتب خطوةً خطوة، لخرج بقصص ثرية. فالذي أتيح لهذا الرجل لم يتح لغيره من خبرات ومشاهدات وأماكن زارها ومهن تعلمها وشخصيات تعرف عليها وأناس عاشرها، فهو من امتهن أعمالاً لا تخطر على بال ولا يجمعها جامع إلا الحياة نفسها. وقد طلب العلم والعمل في كل مراحل حياته من الطفولة حتى الشيخوخة. يكتب عباس بغدادي سيرة ذاتية شخصية، أوجز منها ما أستطيع.
•   ولد في محلة جامع عطار في الكرخ بغداد عام 1913.
•   كانت أسرته تعمل في التجارة، وهي أسرة عريقة نشطت في عملها بين بغداد وعانة وحلب وبومباي.
•   في طفولته دخل الكتاتيب ودرس القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وقواعد حسن الخط، ثم دخل مدرسة تطبيق دار المعلمين الابتدائية، ثم مدرسة التفيض الأهلية فالثانوية المركزية، أشهر مدارس بغداد الثانوية وأكثرها عراقة. كانت مدة الدراسة فيها ثلاث سنوات.
•   مارس عشرات المهن والأعمال منذ طفولته. عمل خادماً في جامع، وهو عمل تشريفي للأطفال من أبناء الأسر البغدادية، عاملاً في محل الأسرة التجاري يومين في الأسبوع، صباغاً للملابس خمسة أيام وبائع تبغ وسكائر في أحد المحلات.
•   بعد التخرج من كلية الحقوق، شغل وظائف حكومية مختلفة، صغيرة وكبيرة. عمل محامياً، تاجر تصدير واستيراد، مزارعاً، صحفياً، شريكاً وبائعاً في محل حلويات الشكرجي، مجهزاً للأقمشة أيام التموين في مدينة المحمودية، محرراً في مجلة الوادي، صاحب امتياز مجلة الفلقة، شريكاً في مخبز، شاعراً بالعامية والفصحى، سائق تكسي، مضارباً في سوق السجاد، بائع نفط، وكيلاً عن شركة النفط، مديراً لمحلج القطن، مديراً لمعمل القطن الطبي، خبيراً في شركة للغزل والنسيج، مديراً لمكتب أنباء العالم العربي في بيروت ودمشق وعمان، خبيراً في الخطوط وفي تقدير الأملاك والمزارع في أمانة العاصمة والمحاكم المدنية، مربياً للأغنام ومالكاً لها، مالكاً لرؤوس الخيل، مديراً لتمور المنطقة الوسطى في جمعية التمور، مديراً لرواتب المتقاعدين، مدوناً قانونياً في وزارة العدل، مفتشاً عدلياً، وكيلاً للفنادق ومستخدماً فيها.
•   ويدرج عباس بغدادي ضمن أعماله أنه كان معتقلاً في سجون الفاو والعمارة ونقرة السلمان مدة ثلاثين شهراً.
•   زار سوريا ولبنان ومصر وإيران وتركيا والأردن والسعودية والكويت والبحرين وأوروبا.
ويذكر عباس بغدادي أن الكتاب كان مشروعاً قبل عشرين سنه من صدوره، وقد أنهاه وهو في الخامسة والثمانين من عمره.

كلمة أخيرة.
بغداد في العشرينات ليس كتاباً وحسب، إنما هو صندوق دنيا ممتع. يستطيع القارئ أن يشرع في قراءته من أية صفحة أو من أي عنوان يلفت نظره من عناوينه الأربعين. وكلما قرأ شيئاً ازداد فضوله للمزيد، والكتاب باب يفتحها عباس بغدادي على دنيا لا تُمل وتفاصيل حياة تثير العطش المعرفي والرغبة بالمزيد وهاجس البحث عن مصادر أخرى. ليس متحفاً وإنما تحفة تسجيلية معرفية رائعة. ليس متحفاً ولكن يمكن أن نبني متحفاً ونؤسس التفاصيل له لو أردنا من خلال الصور والملامح الدقيقة التي يرسمها المؤلف للشخصيات والأماكن والتقاليد والمهن والأزياء والصروح، وصور حية لو أردنا إبداع مادة أدبية أو درامية لأنه كتاب معد إبداعياً لا غنى عنه للفنان والأديب والتشكيلي رسماً ونحتاً وللباحث في التاريخ والتراث الشعبي، والباحث الاجتماعي، لكنه يبقى ناقصاً لأنه أولاً تأخر كثيراً ولابد هنا من أن المؤلف نسي خلال تأجيله المستمر لمشروع الكتاب تفاصيل مهمة ومفيدة أخرى، ولأن المؤلف ثانياً، حجب قاصداً تفاصيل أخرى كانت في ذاكرته عن بغداد لم يضمّنها كتابه، لأن كتاباً وأعمالاً درامية أخرى تحدثت عنها، كما يشير المؤلف نفسه. وقد ضيّع علينا صوراً جميلة مرة أخرى. لم يكن يتوقع أن صورة واحدة عن حدث ما أو موقع ما أو رجل ما في بغداد لا تكفي لإشباع العين والعقل والقلب. فالقارئ بحاجة ماسة إلى صور عديدة حتى لو كانت مكررة، ليرى ويقارن ويتعلم فيقرر، فصور الإبداع غالباً ما تكون غنية وتحمل ملامح مصورها.