المحرر موضوع: قصة نفق سجن الحلة المركزي (الحلقة الثامنة والأخيرة )  (زيارة 1547 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Naeem Alzuheyri

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 11
    • مشاهدة الملف الشخصي
القيـــــــــــد و أناشيــد البطولـــــة
قصة نفق سجن الحلة المركزي
الحلقة الثامنة
نعيم الزهيري
الفصـل الرابـع   :  مـأساة جديدة

ظل النفق فاغرا فاه مستسلما للقدر، ويتم تفقده بين فترة واخرى. وكعادتنا كنا نتابع الاخبار عبر الراديوات الصغيرة شبه العلنية، يوميا، ويجري اهتمامنا الاكثر باذاعتنا من الخارج (( صوت الشعب العراقي )) رغم التشويش الكبير عليها.
في 25/9/1967 صعقنا لدى سماعنا بيان حزبنا الذي يدين فيه انشقاق الرفيق ( رمزي ) عضو المكتب السياسي للحزب ومجموعة كبيرة من الكادر الحزبي معه وسطوهم على قيادة الحزب ومطبعته وبعض ممتلكاته. انه الانشقاق مرة اخرى فكم كابد حزبنا من هذه الانشقاقات منذ اوائل عقد الاربعينات وكم كان ضررها كبيرا على وحدته وجماهيره، كان المنا اكثر من الالم الذي كابدناه في حرب الخامس من حزيران. اصابنا الدوار وفقدنا اخر امل قريب في الانعتاق من السجن والقيود... من هو هذا الرمزي اللعين، من منا يعرفه، اننا لانعرف اسماء الرفاق القياديين فهذا سر من اسرار الحزب... ومن هو الرفيق جندل عضو المكتب السياسي الذي اعتقلته مجموعة رمزي المنشق وتمكن من التخلص..؟ لقد تبين فيما بعد ان رمزي هو عزيز الحاج وجندل هو زكي خيري.
في اليوم التالي عقد اجتماع عام للسجناء وتم تحرير برقية الى قيادة الحزب يعلن فيها السجناء السياسيون في سجن الحلة ادانة الانشقاق والوقوف الى جانب اللجنة المركزية، وصرنا ننتظر اخبارا اخرى ومعلومات اخرى في الزيارة الاعتيادية التي ستتم في اوائل كل شهر. وفي اليوم الاول من شهر تشرين الاول جاءت بيانات اللجنة المركزية تدين الانشقاق وتصفه بالسطو على قيادة الحزب وبيانات اخرى من مجموعة رمزي التي اتخذت لنفسها اسم ( القيادة المركزية المؤقته للحزب الشيوعي العراقي) تدعي فيها، لقد تم عقد اجتماع لقياديي وكوادر الحزب وتم اتخاذ قرارا بطرد العناصر اليمينية التي عشعشت في الحزب وخانته وعرضته للنكسات. وهنا انحاز اكثرية السجناء السياسيين الى القيادة المركزية المؤقته وبقي مع اللجنة المركزية فقط عشرون رفيقا لكنهم من النوعيات الافضل تثقيفا والاهم من بين الجميع وهذا لايعني بالطبع ان رفاقا" هامين وفعالين انحازوا الى القيادة المؤقته كمظفر النواب وحافظ رسن وحسين ياسين وغيرهم.
هللت ادارة السجن لهذا التفكك في وحدة السجناء وخططت للاجهاز على المكاسب التي حققوها بنضالهم وتضحياتهم، لكننا استفدنا من التجارب المرّة للماضي وبالاخص انشقاق راية الشغيلة 1953ـ 1956 وبقينا موحدين امام ادارة السجن،رغم بعض المماحكات البسيطة هنا وهناك وتنتهي بسرعة ..وبعد مداولات مستفيضة تم تشكيل  لجنتين للتنظيم بدلا من لجنة واحدة وتم عقد اجتماعات لكل الهيئات والحلقات الحزبية وغير الحزبية وحدد السجناء اختياراتهم بكل حرية وبذلك تم فصلهم في قاعات مختلفة ( جرت العملية بين السجناء انفسهم) ثم شكلت هيئة ادارية من ثمانية انفار، خمسة منهم من مجموعة القيادة، كما صارممثل السجناء بشير زعرو من القيادة المركزية ونائبه سعيد تقي من اللجنة المركزية. وهناك اشخاصا لم يحددوا مواقفهم وبقوا على الحياد وانيط لهم حق الاختيار بالسكن. اصبحت القاعة رقم 7 من نصيب اللجنة المركزية وكنت فيها والقاعة رقم 13 من نصيب مجموعة القيادة المركزية. اما الحفارون فباستثناء الشيخ وجدّو، انحازوا الى مجموعة القيادة المركزية. ظل االنفق على حاله معطلا وكان الخوف من تهدم جدرانه وتلفها كبيرا، وبعد مداولات بين الطرفين تم الاتفاق على الاستمرار بالحفر على ان يخرج ستة من رفاق اللجنة المركزية وثمانية عشر من القيادة المركزية وتترك الحرية بعد ذلك الى من يريد الهروب على مسؤوليته... وحدد حافظ رسن كأدات ارتباط عن مجموعة القيادة المركزية والشيخ عن مجموعة اللجنة المركزية. ومن هنا عرفت عناصر اخرى بقضية النفق.
وفي احدى الجلسات التي استمرت بين الحفارين وكأن شيئا لم يحدث من الانفصال الفكري، عثر على اللقيا الهامة خيط النور الذي يفضي لانقاذ النفق من المأزق... كلّف سعيد تقي ان يطلب من ادارة السجن السماح للسجناء ببناء جناح مؤقت من الخشب عل شكل غرفتين ويسقف بالصفيح وتكون احدى الغرفتين لعمل الشاي والثانية لكوى الملابس على أن يتكفل السجناء أنفسهم المصاريف فوافقت الادراة على ذلك وبالفعل تم بناء جناحا ملاصقا لغرفتي المستشفى من جهة الغرفـة رقم "7" وبعد ذلك طلب من الادارة السماح بأدخال كمية من التراب لاكساء سطح الغرفتين فوافقت الادارة ايضا وجئ بقلاب من التراب فاخذت منه كمية قليلة واستغني عن الباقي... جن الليل وساد الهدوء وخلد كل الى مضجعه فنقلت كميات كبيرة جدا من تراب النفق ووضعت مع التراب والتبن الذي سمحت بهما الادارة وهنا تمت تغطية كل شئ وبهدوء تام فتم التخلص من التراب الزائد وحلت اعقد العقد ا لتي اعترضت العمل.
عاود الحفارون عملهم يحدوهم الامل المؤكد في الخروج الى الحرية وكل حسب قناعاته أ للعمل الحزبي ام لغيره، المهم التخلص من السجن... وفي اوائل تشرين الثاني اصبح النفق كاملا فقط ازالة الطبقة الخفيفة من الارض ويفتح بابه الاخر... كان طول النفق 25 مترا وعرضه 75 سنتمترا وكذلك ارتفاعه 75 سنتمترا. ولم يكن مستقيما بل يتكسر في زوايا وتعرجات لسلامة سطحه وجدرانه من الانهيار وكان من المؤمل والمتفق عليه ان تحضّر هويات وملابس مدنية للمقرر هروبهم وان تتواجد سيارات لنقلهم، واحترازات اخرى مثل معالجة حارس المرآب وغيرها...
يومي 2، 3/11 كانتا زيارات اعتيادية للسجناء وقد جرى كل شيء بشكل طبيعي، عدا الاخبار الواردة من القيادتين والبيانات الاخرى... وفي يوم 7 / 11 /1967 تحديدا في الساعة الثالثة بعد الظهر جيء بالرفيق محمود وهو معلّم من الناصرية، كان قـد استدعي للمحاكمة في بغداد، وبعد مجيئه بساعتين عقدت مجموعة القيادة المؤقتة اجتماعا تحدث فيه نفر منهم عن الثورة والكفاح المسلح والاطاحة بالسلطة، وقرروا فتح النفق والخروج منه وحدهم أي فقط مجموعة القيادة، وفي الساعة السابعة مساء اطفئ الضوء في السجن من قبلهم وتواجدوا في القاعة رقم 13 وهي القاعة المخصصة لهم والتي يمكن فتحها على غرفة النفق. لقد كانت حركة غير طبيعية جلبت الانتباه فارسل الشيخ  جدّو لاستكشاف الامر، لكنهم اهانوه وطردوه وكأنه غريب عنهم وتنكروا لجهوده معهم في حفر النفق... استشاط الشيخ غضبا وتناول قضيب الحديد وكسر القفل المتدلي على باب غرفة النفق، وصاح بهم: خوّنة، سفلة، لقد خنتم الحزب بكامله فكيف لا تخونوننا كأفراد؟ لن اسمح بخروج أي واحد منكم ينظم الى جوقة المخربين، ان لم تلتزموا بالاتفاق فسوف اكشف النفق وذلك أهوّن عليّ من تخريباتكم في خارج السجن!!
كان لكلماته واصراره وقع الصاعقة عليهم، ورجع الى غرفته متحديا ايّ منهم في الخروج، استل احدهم خنجرا وحاول طعن الشيخ ولكن حال دون ذلك بعض الحاضرين، جاءه مظفر النواب الى غرفته فطرده، ثم جاء حافظ فطرده ايضا وبكلمات قاسية تحملها حافظ، لقد كان الشيخ مهتاجا جدا... لحظات لاهبة تتطلب سرعة فائقة في حسم الموقف؛ انشق السجناء الى جبهتين وانكشف امر النفق الى جميع السجناء تقريبا،فيما عدا السجناء غير السياسيين لانهم معزولين في جناح خاص،كما ذكرنا، الجميع في حالة من الهياج والتوتر وكانت اقل مماحكة تؤدي حتما الى شجار ومعركة لايحمد عقباها... التيار الكهربائي لايزال مقطوعا والوقت يحسب بالثواني وليس بالدقائق... توسط حافظ الذي بلع اهانته مرة اخرى وتعهد بتنفيذ كل شئ يطلب منهم فأجيب بالرفض؛ لانثـق بكم، كلكم خونة وغير صادقين قال ذلك الشيخ وبهياج اكثر... توسط صاحب الحميّري وهو على ملاك اللجنة المركزية للحزب كان كادرا متقدما هرب الى ايران بعد انقلاب شباط وسلمته حكومة الشاه الى الحكومة العراقية فحكم عليه بالسجن عشرون عاما. وبتوسط صاحب تم تنفيذ الاتفاق السابق بالهروب ...
فرش النفق بالبطانيات السوداء وسقفه بالجرائد، فتحت فوهته من خلف السيارة الكبيرة العاطله عن العمل في المرآب الملاصق للسجن من الناحية الجنوبية كما اسلفنا...عيّنت مجموعة اللجنة المركزية الرفيق سعيد تقي مشرفا على خروج رفاقه المعينين من اللجنة المركزية وانسحب بعد اتمام مهمته ، أما الاخرون من القيادة المركزية فلم يقوموا بعمل مماثل... لقد كان ترتيب الخروج هو ان يخرج واحد من مجموعة اللجنةالمركزية يليه آخر من مجموعة القيادة وهكذا ... خرج الشيخ ببدلة ورباط وتلاه اخرون فكانت وجهته النجف؛ وفي الشارع وجد سيارة اجرة تريد التوجه الى النجف وتحتاج الى راكبين اثنين لاكمال العدد... دخل الشيخ في السيارة وطلب من السائق انه سيدفع اجرة الراكب الاخر لانه على عجلة من امره لوجود جنازة احد اقاربه المتوفى ويريد اللحاق بها قبل الدفن، لكن السائق اخذ يماطل ويقول لماذا تخسر اجرة راكب ياعمي، تمهل قليلا وسيأتي الراكب وبعد مماطلة والحاح والنار تتقد في القلب وفي الذهن المشوّش؛ والخطر المحدق يتوثب للقبض عليه وضياع الجهود، تمت الصفقة واقتنع السائق وانطلقت السيارة وقبل وصولها مدينة الكفل ترجل الشيخ تاركا السيارة والركاب... توالى الخروج من النفق الذي عبّ في جوفه مااستطاع وتقيأه في الجانب الاخر كدلو يمتلىء ويفرغ ولكن من الاجساد البشرية المختلفة الحجم واللون والفكر. كل مشغول بشأنه ويجاهد لأخفاء انفعالاته وتوتره... جاء دور " ابو سامان " في الهروب.
ابو سامان من مدينة كركوك كان رئيس عرفاء في الجيش بدينا جدا يزن اكثر من 120 كيلوغرام له شاربان طويلان كثّان يلامسان شحمتي اذنيه وقد تميز هذا الوزن والضخامة بالهدوء والاتزان فكان محبوبا من قبل كل السجناء وحتى اللذين ينامون معه في الغرفة الصغيرة كانوا يتحملون شخيره الصاخب في الليل، بل اعتادوا على ذلك اعتزازا به وبدماثة خلقه وطيبته... جَلَبَ ابو سامان صرّه تحتوي على بعض حاجياته وانزل رجليه في النفق لكن فوهة النفق لم تكن تتسع جسده الضخم، نزل حتى ابطيه وبقية يداه فوق النفق. فلم يتمكن من النزول ولا من الخروج، لقد سدت الفوهة بهذه الكتلة الكبيرة من اللحم وبعد جهد كبير تم سحب الرجل فرجع مع صرته وسنوات سجنه العشرين.
 
اثناء عملية الهروب قمنا،نحن الّذين على ملاك اللجنة اللجنة المركزية، بأتلاف كل مالدينا من الوثائق الحزبية واخفينا مااستطعنا اخفاءه تحسبا لاي هجوم مباغت تقوم به السلطة ضدنا وشكلنا لجنة تنظيم جديدة واصدرنا تعليمات الاجوبة في حالة التحقيق وبضرورة الاناة والهدوء وعدم الانجرار للاستفزاز تفاديا لأي اصطدام مع قوات السلطة. اما مجموعة القيادة فلم تعمل ما عملناه ففقدوا كل شئ للاسف... توالى الهروب حتى صارت الحركة في السجن وفي النفق والمرآب والشارع حركة غير طبيعية... شعر حارس المرآب الذي كان يجلس على كرسي في الباب ويرد التحية على كل من يخرج من " الافندية " بالقول عليكم السلام اهلا استاد؛ تلك كانت كلمته التي يرددها ببغاويا... شعر مؤخرا ان شيئا غريبا يحدث اذ لم تدخل المرآب سيارة واحدة ولاشخص واحد، فمن اين جاء هذا العدد الكبير من الاشخاص الذين يخرجون من الباب او يتقافزون فوق السياج ثم يهروّلون صوب البستان المقابل.؟ ياللعنة؛ لم يجرأ الحارس بدخول المرآب والتحقق بنفسه، وتحت تأثير هذا الذهول والاستغراب والفضول لمعرفة السبب، ذهب الى شرطي المرور في الكابينة المقابلة وسأله:
ـ عمّي لاسيارة ولا واحد دخل المرآب منذ الظهر ولحد الان ولكن أرى ان اناسا كثيرين يخرجون منه فمن اين جاؤا؟ الله وحده يعلم بذلك... انتبه الشرطي ورأى بعينيه اشخاصا يتراكضون ويتقافزون فوق سياج المدرسة او يهروّلون في الشارع فنادى على السجّان الموجود فوق سطح السجن ان يلاحظ ماذا يحدث! اصيب السجّان بالذهول عندما راى اناسا يخرجون من حفرة خلف جدارالسجن فاطلق عيارا ناريا في الهواء من بندقيته الطويلة... وبهذه الاطلاقة انتهى عمر النفق بهروب السجين الثالث والاربعين. انسحب كل من كان في الغرف الصغيرة على جانبي الممر المؤدي الى غرفة النفق ومن كان في النفق وساد ارتباك كبير ووجوم. البعض واجم وكأن على رؤسهم الطير والبعض الاخر مسرور لهذا العمل الثوري المتحدي. واخر يقف صامتا هازئا واخر خائف مما سيحدث لاحقا... ادارة السجن في ارتباك وفوضى، جاء مأمور السجن ( آيدن ) حاسر الرأس شاهرا مسدسه يتقدم ثلة من السجانين يجأر بتلعثم وريق يابس: أين هم، اين ذهبوا؟ فلم يرد عليه احد سوى نظرات الازدراء والاحتقار والشماته... صادف ذلك اليوم ذكرى ثورة اكتوبر الاشتراكية، اجتمعنا جميعا وقوفا بنسق في القاعة الكبيرة رقم 2 والقى الرفيق سميع داود الكلمه المشتركة التي اتفقنا عليها مؤكدين في الوقت نفسه تقييمنا للانتصار الذي تحقق وكذلك تاكيدا على وحدتنا ضد عدونا المشترك ادارة السجن... كان ذلك اجمل احتفال قدمنا فيه هدية كبيرة لحركتنا الثورية ( المنشقة على نفسها ) وكان النفق اوجع لطمة على وجه سلطة عبدالرحمن عارف ولكن ( مالجرح بميّت ايلام ) وفي نفس الليلة اذيع خبر نفق سجن الحلة من راديو اسرائيل وراديو لندن!!؟
كان لانتشار الخبر في مدينة الحلة سرعة البرق الذي يخطف الابصار وعاجلا اصدرت لجنة الفرات الاوسط للحزب الشيوعي توجيها فوريا لكل الشيوعيين واصدقائهم وجماهيرهم ومعارفهم بضرورة احتضان الهاربين ايّ كان اتجاههم دون مناقشتهم فنشط الشيوعيون والناس في البحث عن الهاربين وأيوائهم ومساعدتهم على التخفي أو ايصالهم الى بغداد او اية محافظة يرغبون... لم ننم تلك الليلة الفريـدة من نوعها، ليكن الطوفان غدا فالمهم حققنا عملا ثوريا رائعا رغم نواقصه... وضعت ادارة السجن حراسة مشددة على مدخل النفق فاغلقت الغرف المحيطة به، وقدمنا بعضا من الطعام والشاي للسجانين الذين يحرسون النفق وبأحاديث وديّة معهم انتهت تلك الليلة. وفي الصباح جاء المسؤولون يعاينون النفق وفي المقدمة منهم محافظ الحلة ( شاكر مدحت السعود) سئ الصيت، الذي كان رئيسا للمجلس العرفي العسكري الثاني في زمن حكومة عبد الكريم قاسم ومن ثم رئيسا لمحكمة أمن الدولة الثانية في عهد شباط الاسود... شاكر مدحت الذي اعرفه ويعرفني تمام المعرفة رغم انه لم يتذكر اسمي فلقد حاكمني ثلاث مرات، الاولى اصدر عليّ حكما بالسجن ثلاث سنوات وتحت مراقبة الشرطة سنة واحدة بتهمة مزيفة تافهة هي أنني نقلت السلاح من مدينة العمارة الى ريف المشرح للقيام بحركة انقلابية ضد عبد الكريم قاسم كان ذلك في23/تموز/ 1960، والمرة الثانية اصدر عليّ حكما مماثلا غيابيا لأنني لم احضر المحاكمة،في خريف /1962 والمرة الثالثة اصدر عليّ حكما بالسجن ثمان سنوات رغم شهادة شخص واحد ضدي وقد انكر افادته في التحقيق ثانية وكانت التهمة الموجهة لي هذه المرة الاشتراك في انتفاضة معسكر الرشيد ( انتفاضة حسن سريع ) في 3/7/1963 ... قال لي هل لاتزال حيا؟ وصك على اسنانه، قلت له مستهزئا شامتا: اولا سدوا الجحر الذي فتحناه بكم!! لن نترككم بسلام، وكان مدير سجن الحلة وثلة من الجنود والسجانين يقفون الى جانبه.
 
 احكمت السيطرة على السجن تماما اذ تم احتلاله بقوة عسكرية وجهت فوهات البنادق الالية علينا من فوق سطح السجن كما احتشد الجنود في ممرات السجن شاهرين اسلحتهم. ودخلت مجموعة كبيرة يتقدمها ضابطان احدهما برتبة ملازم اول وتم اخراجنا جميعا الى الساحة في القلعة الجديدة ومنعونا من دخول القاعات وصدرت الاوامر القاسية بتقييدنا دون السماح لنا باصطحاب اي شئ حتى ملابسنا ووضعونا في سيارات مقفلة مشبّكة صنعت لنقل السجناء والقيود تحز معاصمنا، الى اين...!؟ لاندري.
احتشدت جماهير الحلة في الشارع المقابل لباب السجن طلاب مدارس ونساء واطفال، حشد كبير جدا من الناس سدّ الشارع العام الذي يقع عليه السجن؛ أقفلت المحلات والدكاكين ولاندري كيف كانت النقاشات تدور وما هو وقع الحادث على النفوس. اذ كلما رايناه هو حشود الناس امام مبنى السجن يتدافعون كي يروا من خلف الشرطة والعسكرالذين شكلوا حاجزا بشريا لمنعهم من الاقتراب منـا؛ حشرنا في السيارات الكبيرة واقفلت ابوابها باقفـال كبيرة وصرنا كحيوانات خطرة يراد نقلها الى مكان اخر. اخذنـا نكتب بعض الشعارات ونلفها اسطوانيا ونرميها للناس... بدأنا ننشد أناشيدنا الثورية المألوفة ؛

                           سنمضي سنمضي الى مانريـد
                           وطـن حـر وشعـب  سعيـد

وكانت هتافاتنا تشق السماء عارضين فيها شعاراتنا ومطاليبنا واحيانا تصفق الناس المحتشدة، وتقابلنا النساء بالزغاريد والبكاء والدموع. لقد كان عرس في مدينة الحلة مهره الثمين نفق السجن.
لقد ماجت المدينة في ذلك اليوم والايام اللاحقة، وصار حديث النفق وهروب السجناء على كل لسان لكن اللغز الذي لم يحلّ وبقي عصيا على الفهم هو اين وضع تراب النفق؟ واختلفت التصورات والتحليلات، والاطرف فيها انه في مدرسة حمورابي الابتدائية وهي اكبر واقدم مدرسة في الحلة، لم يتوصل المعلمون الى جواب في نقاشهم حول تراب النفق الا بعد ان حسم مدير المدرسة النقاش بقوله: الامر سهل ولايحتاج الى تفكير؛ السجناء حفروا حفرة كبيرة ووضعوا فيها تراب النفق!! بالطبع هو نفس المدير الذي رسم دجاجة باربعة ارجل فهمس احد المعلمين باذن زميله عندما لاحظ ذلك ( اسكت لايسمعون ويعيّنوه مديرا للمعارف).
تحركت السيارات في مساء 8/11/1967 باتجاه لانعرفه، هل ثانية الى سجن نقرة السلمان أم الى سجن اخر، أم سيدفنوننا احياء أم يرموننا في الرصاص..؟ كل شئ جائز في ظل الحكومات الرجعية، ليكن مايكن. وفي كل مدينة تمر بها السيارات تتعالى اصواتنا باناشيدنا ومطاليبنا وتعريف الناس بنا. وعبثا حاول مسؤلو القافلـة من اسكـات اصواتنا... وفي الساعة الواحدة ليلا حط بنا الرحال في باب سجن الرمادي المركزي سئ الصيت، وهو من السجون العراقية القديمة جدا وقد بني على نمط مماثل للسجون في المحافظات الاخرى كسجن مدينة العمارة وسجن مدينة الكوت وغيرها عدا سجن بعقوبة ويعتبر احدث بل واقسى من نظيراته... وبعد تلك الرحلة الطويلة المتعبة في الجو الشتوي حيث المطر يبلل اجسامنا التي لاتسترها غير الملابس الخفيفة؛ والريح تصفر كأنها السهام ينفذ في الاجسام لكننا لم نبالِ لذلك البرد القارس ولا بالمستقبل المجهول، فحرارة التحدي توقد اجسامنا نارا وليس دفئـا. لقد وصلنا سجن الرمادي واصواتنا مبحوحة من الهتافات والاناشيد صـفّ السجانون والشرطة الذين تم استقدامهم وهم مسلحين بالهراوات الغليظة، بصفيّن بغيّة ضربنا اثناء مرورنا بين الصفيــّن. ولكن اوامر محافظ الرمادي بعدم الضرب حال دون التنفيـذ، فقط كانت الاستفزازات والشتائم...
هيأت ادارة سجن الرمادي السجناء الاعتياديين لضربنا في داخل السجن كما فعلت في شباط 1963 لكن السجناء انقسموا على بعضهم فالسجناء من المناطق الجنوبية تكتلوا بطرف واحد وهددوا بعمل مذبحة حقيقية، حسب تعبيرهم اذا اعتديّ على اي سجين من القادمين، اضافة الى ان السجناء من ابناء الرمادي والفلوجة لم يجنوا شيئا من اعتداءاتهم السابقة على السجناء الشيوعيين ابّان انقلاب شباط الاسود... اشارت الساعة الى مابعد الثانية بعد منتصف الليل وكان الجو ممطرا فادخلت مجموعتنا وهي الاكثر في القلعة الكبيرة للسجن وكان السجناء محتشدون امام بابها الكبير المصنوع من القضبان الحديدية الغليظة، طلبت من بعض الرفاق ان يحملونني ، فحملوني على اكتافهم وبكلمات بسيطة مركزة قلت:
 ((نحن سجناء مثلكم نحن الشيوعيين ننظر اليكم بأنكم أناس طيبين وليس مجرمين كما تنظر لكم الحكومة. الحكومـة جعلت منكم سراق ومعتدين لانها لم تهتم بابناء شعبنا لم توفر لهم العمل والامان ولا تساعدهم حتى يعيشوا بكرامة... ومن هنا نذكركم بالبيان الذي اردنا اذاعته في انتفاضة معسكر الرشيد وهو البيان رقم ثمانية القاضي بأطلاق سراحكم جميعا وتبييض السجون، الاتتذكرون؟)) اضيف هذا الموقف الى التهديد الذي قام به السجناء من المناطق الجنوبية سيّما وأن السجناء من أبناء الرمادي والفلوجة كانوا منقسمين على انفسهم، وبذلك انقلب الموقف لصالحنا فادخلونا الغرف وقاموا بطهي الرز وتقديم وجبة طعام، ونمنا في افرشتهم في تلك الليلة.
ان هروب قياديي مجموعة القيادة المركزية المؤقتة من السجن بما فيهم مسؤول العلاقات مع الادارة ( بشير زعرو ) وارتباكهم وعدم تعيين قيادة احتياط، اصاب رفاقهم بالاحباط والياس ومما زاد في الطين بلّه هو تصريح احد قيادييهم        ( لأخرج وليحترق السجن والسجناء من بعدي ) كل ذلك ادى الى هبوط  المعنويات والى النظرة السوداوية للمستقبل، القيادة تفكر بنفسها... وأثر ذلك قدم 25 سجينا من المحسوبين على القيادة المركزية المؤقتة، صك البراءة المشين وتم نقلهم الى سجون اخرى. اما الفترة اللاحقة فقد شهدت صراعا حادا منوعا مع الادارة والسجناء او مع رفاق الامس المتياسريـن المتواجدين معنا في سجن الرمادي ومن بعده في سجن الموصل كما عشته أنا... لم تتمكن كميات الاسمنت التي سدوا بها فوهة النفق ولا نقل السجناء ولا الستار الذي ارادوا اسداله عليه ان يلغي ذكرياته... لقد صار نفق سجن الحلة شاهدا حيا ابد الدهر يحكي بطولات الشيوعيين العراقيين وروح التحدي لديهم الاصرار على مواصلة طريق النضال فمنهم من استشهد ببطولة نادرة تحت التعذيب كالرفيق عبد الامير سعيد ومنهم من واصل الكفاح في مختلف اشكاله ومنهم من جلس على التل... لقد تمكنت السلطة من القاء القبض على ثلاثة عشر سجينا من الهاربين وارجعتهم الى  السجون مرة اخرى.//// وقد التقيت احدهم وهو محفوظ يونس في سجن الموصل بعد ابعادي اليه بعد ان انتهت محكوميتي في 19/4/1968 وانا في سجن الرمادي ولم اساوم السلطة او اتبرأ من الحزب فارسلوني محجوزا الى سجن الموصل؛ ومحفوظ اعرفه منذ سنة 1960 عندما كنا سوية في سجن العمارة المركزي انذاك.
واني وان لم يكن لي الشرف في المساهمة في الحفر او الهروب وذلك لمرضي الشديد انذاك ولقرب انتهاء محكوميتي إذ لم يكن هناك قرار بهروبي. ولكن موقعي في التنظيم وعلاقاتي الرفاقية بالحفارين وبمسؤول النفق نفسه ( الشيخ، حسين سلطان صبّي ) قبل النفق في السجن وبعده خارج السجن، وكذلك لقاءاتي مع بعض الحفارين خارج السجن دوّنت هذه الذكريات لابنائنا وأجيالنا القادمة وعبرتي من هذا العمل البطولي المتحدي هو التعاون والابتعاد عن روح الاستئثار وقطف الثمره قبل نضجها، فلو كان الخروج من النفق قد جرى بتعاون مدروس ومخطط مثلما صار في حفره لأفرغ السجن تماما، وربما لم يتم القبض على

عودة الى سجن الرمادي
كان سجن الرمادي المركزي متعبا كثيرا بالنسبة لنا، فالسجن قديم جدا، ويبدو إنه بني في العهد العثماني وبنفس الطراز الذي بني فيه سجن العمارة. في اليوم الثاني لوصولنا، نقلوا السجناء من المنطقة الجنوبية وبذلك فقدنا ركيزة هامة لنا ،لانهم يتعاطفون مع الشيوعيين كثيرا .. أسكنونا مع السجناء غير السياسيين في نفس القاعات ،وبالطبع وحدة بين السجناء غير السياسيين فهم قوي وضعيف وشلل.. في كل قاعة يوجد شخص يسمى" عنقرجي" لانعرف مصدر الكلمة، لعلها تركية، على كل حال فهـو يخدم نزلاء القاعة ويقوم بالتنظيف وجلب الطعام وتوزيعه وغيرها من الخدمات لقاء " 100" فلسا من كل نزيل. كل الباقين من السجناء هـم من أهل المنطقة ، فلوجة ، رمادي، هيت، عنه..الخ وكذلك طاقم ادارة السجن والسجانين. وللعنصرية والعشيرة مكان كبير في نفوسهم..
لقد فقدنا كل مكاسبنا التي حصلنا عليها في سجن الحلة فلم تعترف ادارة السجن بممثل لنا ولم نستلم المواد الغذائية بما فيها فرن الخبز ، يجري التعداد الصباحي والمسائي في الساحة وحتى تحت المطر او الشمس المحرقة في الصيف ،الاكل سيء للغاية، في كل قاعات السجن فتحات مزججة في السقوف لمراقبة السجناء، و غالبا مايدخل منها المطر اما الساحة فهي ضيقة وتكثر فيها الحفر وتعبيدها قديم جدا، في منتصفها خزان كبير للماء مثبته فيه الصنابير. هذه صورة السجن في القلعة الكبيرة، اما في جناحي الموقف والمحجر التابعين للسجن فلا يقلان سوء منه والانكى من ذلك عدم وجود مكتبة او كتب. بين بابي الحديد لمدخل القلعة يوجد حانوت تابع لادارة السجن.. في احد الايام جاء سجينان من موقف السجن الى الحانوت يصاحبهما سجان وبيد احدهما رسالة صغيرة جدا، من مجموعة القيادة المركزية الى رفاقهم في القلعة، وقعت تلك الرسالة بيد السجان ( لانعرف محتوى الرسالة) فساد جو غير طبيعي في ادارة السجن والسجناء العاديين فدخل القلعة احد السجانين (محمد) يحمل هراوة غليضة واخذ يهزها ويصرخ ويشتم: ادخلوا القاعات، لااريد اي نفر يبقى في الساحة، طبعا مع السباب والكلام البذيء، تراكض كل السجناء في الساحة نحو الغرف ولم يبقى سوى عبد الوهاب الرحبي ( ابو فرقد ) يتمشى في الساحة وانا وكان السجان ( محمد ) في عربدته، تقدمت من عبدالوهاب الرحبي وسألته عن السبب، ولماذا دخل السياسيون كذلك فاشار بكف يده " شوف هاي الثورية بعينك!!" فقلت؛ سترى يا "ابو فرقد" صعدت على خزان الماء وناديت على كل السجناء السياسيين ان يخرجوا الى الساحة، واذا دخل سجان وبيده عصا فتكسر على رأسه وتوضع ب(...) خرج جميع السجناء بما فيهم السجناء العاديين، وهرب السجان محمد، وساد جو من التوتر، فارسل مأمور السجن يطلب منا، عبر احد العاديين، احدا للتفاوض فارسلنا سعيد تقي. واثرت تلك الحادثة، اضافة الى خوف الادارة من تأثيرنا على السجناء غير السياسيين فكريا، تحقق عزلنا في ثلاث غرف مستقلة واحدة لنا والاخرتين لجماعة القيادة المركزية المؤقته...
اهتمت مجموعتنا بالجانب الفكري، وتاريخ حزبنا عبر بعض الندوات وكانت مفيدة على قلّتها، سيما وان معنا رفاق لديهم الامكانية والمعايشة، كالرفيق ابو فرقد وحمدي ايوب، وقرب احدى المواجهات وهي مرة واحدة في الشهر طرحت علينا جماعة القيادة المركزية القيام باضراب عن الطعام وبعد دراسة المقترح وجدناه غير مناسب لعدم توفر مستلزماته، واهمها انه بلا اسناد جماهيري، لكنهم قالوا: اذا لم تشتركوا معنا فسنقوم نحن وحدنا بالاضراب، وللمحافظة على وحدتنا امام الادارة، اضربنا معهم لمدة 48 ساعة، ولم يحقق الاضراب شيئا، مما زاد من نقمة رفاقهم عليهم.
بعد قرار وزير الداخلية صبحي عبد الحميد باطلاق سراح المحجوزين السياسيين من الشيوعيين والديمقراطيين ( طبعا لايوجد غيرهم ) نقل الاغلبية العظمى من سجناء نقرة السلمان الى السجون الاخرى، صار توجه اخر لدى حكومة عبد الرحمن عارف هو (( لايطلق سراح اي سجين شيوعي ينهي محكوميته، الا اذا تبرأ من الحزب ا اعطى تعهدا بعدم الاشتغال بالسياسة!!)) سرى مفعول هذا التوجه بقوة.
في 19/4/1968  انتهت محكوميتي وانا في سجن الرمادي كما ذكرت فاقام رفاقي لي ( جلسة توديعيه ) تخللتها الاغاني الثورية التراثية الكلمات المؤثر والتمنيات باطلاق سراحي ومواصل العمل.... وجددت امامهم عهدي على مواصلة النضال، رافعا كفي الايمن الذي اقسمت به لبعض رفاق الانتفاضة ليلة اعدامهم في 2/10/1963 ، أن أسير في نفس الطريق الذي استشهدوا فيه، طريق النضال، طريق الكرامة والتضحية في سبيل مستقبل افضل لشعبنا وطبقتنا العاملة. في صباح اليوم الثاني نقلت الى مديرية الامن العامة في بغداد. ومديرية الامن معروفة لدى ممن اعتقلوا فيها. لم يكن لدي من متاع الدنيا غير بطانيتين قديمتين ووسادة كيس قماش فيه بعض الحاجيات، وانتعل نعالا من الاسفنج، لانني لم اكن امتلك حذاء". ادخلوني في احدى الزنزانات. كان في الزنزانة شاب فارع الطول، يتكلم بهدوء، اتضح فيما بعد انه عزيز ( استشهد تحت التعذيب ) ابن المناضل الفلاحي المعروف مللا فِعِل ضُمَد الشرشاحي (  فِعِل من شيوعيي العمارة منذ اواسط الاربعينات، من اهالي كميت ) كنت قد التقيت الملا فِعِل عندما كنت في العمل السري، التقيته في الريف قد جاء من بغداد خصيصا لزيارة معارفه هناك.، وقد عقد اجتماعات عِدّة في المضايف هاجم فيها فتوى ( الشيوعية كفر والحاد!!).
ارسلوا عليّ في الليل وطلبوا مني اعطاء البرائة من الحزب الشيوعي، فرفضت ذلك او اعطاء تعهد بعدم الاشتغال بالسياسة فرفضت ايضا، هددوني بارسالي الى سجن نقرة السلمان فقلت لقد امضيت فيه ثلاث سنوات ونصف السنة واني غير متزوج، السياسة ليست حكرا على احد...الخ، جرى تعذيبي في تلك الليلة وبالطبع لم يكن بشدة التعذيب الذي لاقيته بعد فشل الانتفاضة، فاعادوني الى الزنزانة في ساعة متاخرة من الليل... في اليوم الثاني، لدى اخراجنا الى المغاسل تعرفت على الشهيد امين حسين الخيون ـ ابو جماهير، وكذلك على الرفيق ابو هشام ـ نوري المبارك... امضيت اسبوعين في تلك الزنزانة، الى ان اصدر امر بحجزي وارسالي الى سجن الموصل، ففي ذلك الصباح قابلني ثانيا نفس معاون الامن الذي حقق معي وقال: سنرسلك الى سجن الموصل وستبقى في السجن الى ان تموت وتتفسخ هناك. لارحمة لكم ايها الشيوعيين الخوّنة والعملاء. والفاظ اخرى، يأنف اي شريف من التلفظ بها... بهدوء قلت له: الان توقع حجزي وارسالي الى سجن الموصل واعدك، غدا ستوقع على اطلاق سراحي، وبدون براءة ولاتعهد، وضحكت، فقام وصفعني، وصاح بهيستيريا: خذوا هذا ال (...).
مرة اخرى في السيارة الخضراء المشبكة نقلني الى موقف التسفير، موقف السراي، لم ارى احدا يعرفني في الطريق حتى يخبر اقاربي، كنت محتاجا جدا الى بعض الملابس والنقود وحذاء، أو على الاقل يعرفون الى اين، ليلتان في موقف التسفير في ذلك الموقف التقيت رفيقان من الفرات الاوسط  ناحية المدحتية، وبعدها الى قطار الموصل، حشروني في العربة المخصصة للسجناء مباشرة"، اعاد لي ذلك الموقف الذكرى عندما سجنت في تموز 1960 وفي نفس المحطة حيث جاء لتوديعي خالى فاضل وهو شيوعي مفصول من الخدمة العسكرية، وخالتي الرابطية المعروفة زكية جابر، وابنتها وكانت في العمر انذاك (( عملت معي لاحقا في التحضير لانتفاضة الرشيد التي اخذت على عاتقها تزويدي باخبار الحزب عندما كنت في السجن العسكري رقم (1) سجنت مع والديها في حركة الثوريين ـ جماعة سليم الفخري )) واليوم في نفس المحطة لم اجد من يودعني او يعرف عني شيئا سوى الشرطي، والقيود البيضاء تحز معصمي.

في ذلك الزمان كنت شابا" قوي البنية، أجد اللذه في المصاعب، وركوب الاهوال، اما الان فقد اصابني الهزال والتعب وانخفض وزني الى 39 كغم، وصرت اجد صعوبة في التمشي مع اقراني في الساحة في سجن الحلة واذكر بالطيب الاخ جبار ( الموظف الصحي ) اذ كان يراقب وضعي الصحي يوميا تقريبا، ويرفع من نشاط جسمي بالمقويات المختلفة، صور حزينة وحزينة جدا، تعقبها صور اخرى، تشد من عزيمتي وايماني بالطريق الذي انا سائر فيه، الليل طويل، ولايوجد من اسامره غير افكاري والذكريات. وفي صباح اليوم التالي حط بنا القطار في الموصل فارسلوني الى مديرية الشرطة، ووفي الليل ارسلوني الى موقف باب البيض وكان منخفضا عن مستوى  سطح الارض، رطب وبارد ومظلم. وقبل دخولي الموقف رأيت الاخ محفوظ يونس وهو من المقبوض عليهم من الذين هربوا من نفق سجن الحلة المركزي، وكما ذكرت فأنه سجين منذ 1960،  قال لي: اذهب للمغاسل قبل الدخول، ففعلت، استقبلني محفوظ وفرش فراشي بقربه واعطاني بطانية اضافية، فنمت تلك الليلة الى ان نقلوني الى سجن الموصل في اليوم الثاني، وهناك التقيت السجناء وقد انقسموا ايضا"الى مجموعتين، مجموعة اللجنة المركزية ومجموعة القيادة المركزية، وكانوا يطلبون من القادم تحديد مكان اقامته اي مع مَنْ مِنَ المجموعتين فاخذت طريقي الى مجموعة اللجنة المركزية دون سؤال او جواب...
كان ذلك الجناح من سجن الموصل صغيرا نوعا ما ، إذ لا يحتوي على اكثر من ثلاث غرف للسكن ومطبخ صغير وغرفة صغيرة اخرى نستعملها كصيدلية .كانت علاقاتنا طيبة تقريبا ، مع بعضنا ،وان اغلب السجناء من المجموعتين هم من معارفي ، وبالطبع صار لدينا اتصال بشكل ما مع الحزب ،واتصال آخر مع المحكومين بالاعدام ،ومنهم فخري بطرس ،وعدنان جلميران..وغيرهم .                   
فـي 17/تموز/1967 حدث انقلاب عسكري ضد حكومة عبد الرحمن عارف قام به " النايف و الداود "وسلموا المقاليد لجناح البكر ـ صدام من حزب البعث ثانية ،فاقدمت حكومتهم لاطلاق سراح المحجوزين السياسيين اولا ...فــي 10/8/1968 ارسلونا الى مديرية الامن العامة في بغداد ، في القطار بغية اطلاق سراحنا ،وهناك ويا للمصادفة ،وقع على اطلاق سراحي نفس معاون الامن فذكرته بقولي السابق له ،تلعثم وقال :أخي نحن مأمورين نطبق ما يصدر لنا من أوامر .
ـ وهل لديكم الاوامر بالتعذيب والاهانات حتى للذين انهو محكومياتهم ؟
ـ قال : نعم كل شيء ...
ـ قلت :هنيئا لكم ولاسيادكم ذلك التصرف الوحشي !!
إستأجرنا تاكسي ،احد الاشخاص من المطلق سراحهم وهو ،نائب عريف في الجيش ،وانا .اوصلناه مباشرة الى اهله في مدينة الثورة قطاع الجوادر ،اما أنا فبقيت مع السائق نفتش عن اقارب لي ،فلم نفلح في العثور على احد منهم،حتى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ،ولا توجد لدي ملابس غير البجامة ونعال اسفنج، ولا هوية حتى اذهب الى فندق ،لم يكن لدي سوى دينار وربع الدينار اعطيتها الى السائق..وعلى الذاكرة اشرت للسائق ان يوصلني الى منطقة الخندق في باب الشيخ عمر قرب الطاحونة ،اذ هناك بيت الرفيق خضير تقي ،وكان معي في نفس الدعوة " كان يعمل موسيقي في دار الاذاعة " وهو مكفوف البصر وقد تعارفنا في السجن العسكري رقم واحد وبعدها في سجن الحلة ؛ استقبلتني والدته ونمت باقي الليل عندهم ،وفي اليوم الثاني وجدت اقاربي وحملت حاجياتي المكونة من كيس قديم من القماش الاسمر وبطانيتين عفا عليهما الدهر ،وهذه الحاجيات اخذت طريقها الى التنور حيث احرقت كلها.
كل الطيور اوت لاعشاشها الا انا ،فاهلي في العمارة وانا مثقل بالدعاوى ،وفقا للمادة 31/آ من قانون العقوبات البغدادي ،بما فيها السجن الغيابي لمدة ثلاث سنوات وسنة اخرى تحت مراقبة الشرطة ،ولم اذهب الى مدينتي إلا بعد ان أسقطت الدعاوى وفقا لتلك المادة .
أحضرت لي اقاربي ماجدة " زوجتي حاليا " بيان اللجنة المركزية ،يحدد فيه المهام التي يجب على الحكومة ،اية حكومة ،ان تنفذها لكي تكسب ود الشعب وثقته فيها ،وتبيض صفحتها امامه . وبيان آخر من القيادة المؤقتة يدعو فيه الحكومة الجديدة الى التخلي عن الحكم وتسليمه للشعـب !؟
   
واخيرا أظن انني وفيت ولم أزل أوفي بعهدي في مواصلة الطريق...وانا إذ اكتب هذا الجانب من المسيرة ،كعضو في الحزب الشيوعي العراقي ،يحدوني الامل والتفاؤل الكبير بان المستقبل الزاهر هو لكادحي الشعب مهما طال الزمن وغلـت التضحيات...
                                     
تمت[/b]
[/size][/font]