المحرر موضوع: ذكريات - الدراسة الحزبية في الخارج (1ــ 5)  (زيارة 1933 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل جاسم الحلوائي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 99
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ذكريات
الدراسة الحزبية في الخارج
(1ــ 5)
جاسم الحلوائي                                     
jasem8@maktoob.com
الإهتمام برفع مستوى الوعي السياسي والثقافي نهج بارز وثابت في نشاط الأحزاب الشيوعية والعمالية، كما هو الحال بالنسبة لجميع القوى التقدمية في العالم. وقد إقترن ذلك، في الدول الإشتراكية المبكرة ـ الشمولية، وإنطلاقا من مبدأ المساواة، بإزالة الأمية ونشر التعليم على مختلف المستويات وإعتباره إلزاميا للسنوات التسع الأولى منذ منتصف القرن الماضي . وهذا الإهتمام ظاهرة إيجابية بصرف النظر عما إعتراها من تحكم أيديولوجي وجمود عقائدي. وبإعتقادي أن ذلك المستوى من الوعي والثقافة لعب دورا هاما ، الى جانب عوامل هامة أخرى، في تحول أكثرية الأنظمة الشمولية الى أنظمة ديمقراطية بطريقة سلمية. وحيثما أستخدم العنف فقد كان ذلك محدودا. وإهتمام الحزب الشيوعي العراقي بارز في هذا الميدان. وقد وضعت تقاليد ذلك قيادة الرفيق فهد التي حولت السجن الى مدرسة للتثقيف. ورافق العملية ولازمها لاحقا ، حتى بداية التسعينات من القرن الماضي ، النواقص ذاتها التي شابتها في الحركة الشيوعية العالمية.

وتكتسب قضية رفع الوعي ونشرالثقافة العلميين في الوقت الحاضر أهمية إستثنائية وخطيرة لتتحول الى قضية وطنية ينبغي التصدي لها  من قبل جميع القوى الديمقراطية والتقدمية ، لأن قوى الإسلام السياسي، المهيمنة على الساحة السياسية ، تستهدف تجهيل الشعب ونشرالخرافات والخزعبلات وإستغلال مقدسات الناس البسطاء أبشع إستغلال بدفعها الى ممارسات متطرفة ، ففي ذلك مصدر حياة تلك القوى وديمومتها. فلا غرو أن لا نجد  كلمة تثقيف في مسودة الدستور التي كتبوها ، فهم يجدون في رفع الوعي والتثقيف عدوهم اللدود. ولكنهم يسبحون ضد التيار وضد قوانين الحياة. فالناس تبقى تحب الحياة وتحب أن تعيشها بأمان ورفاه وسعادة ، مهما دجّل الدجّالون ، الذين سينعزلون ، لا محال ، مع تطور الحياة الإقتصادية والإجتماعية ورفع الوعي ونشر الثقافة العلمية والإنسانية. 

في حياة الحزب اسلوبان للتثقيف أحدهما ذاتي والآخر جماعي . الذاتي هو قراءة الكتب ذاتيا ، تبادلها بين أفراد الخلية واصدقائها، وذكر ما أنجز في التقارير الشهرية التي يقدمها الرفيق  أو الخلية والهيئات الحزبية الأخرى. وإنشاء مكتبات صغيرة لدى وحدات تنظيمية معينة. وإتبعت بعض المنظمات المستقرة إسلوبا أرقى،  في هذا المجال ، وهوأن يقوم أحد أعضاء الهيئة دوريا بتقديم خلاصة للكتاب الذي قرأه مع إستفساراته أو آرائه وتناقش من قبل الهيئة. وكانت تنظم قائمة مركزية بالكتب التي ينبغي الإختيار منها للتثقيف.

أما التثقيف الجماعي ، فأشكاله متنوعة جدا، وحدها الأدنى هو تخصيص وقت محدد من إجتماع الخلية أو اللجنة للتثقيف ، أو تخصيص بعض إجتماعات الهيئات لهذا الغرض. تشكيل حلقات من هيئات مختلفة لمادة محددة. دورات تخصصية ، الدورا ت الصحفية مثلا. دورات التثقيف الطويلة الأمد في المحافظات وأعلى أشكال التثقيف الجماعي هو المدرسة الحزبية التي يتفرغ فيها الطالب لهذه المهمة على مدى أشهر معينة، ويكون لديها قسم داخلي. وكان للحزب مثل هذه المدرسة ثلاث مرات في تاريخه الأولى: في كردستان ـ  درﮔلة في الأعوام 1971 ـ 1973، وقد تطرقت لذلك في المسلسل المعنون " الإفلات من قبضة ناظم كزار". الثانية: أيضا في كردستان ـ  بشت آشان  مماثلة للأولى دامت حوالي عام وذلك من ربيع 1982 حتى ربيع 1983 تقريبا. وكان مديرها [ لفترة معينة]  د. كاظم حبيب. والثالثة في  بغداد  طوال النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي.

الدراسة في المدرسة الحزبية في بغداد كانت منتظمة ، ومختلطة بطبيعة الحال، وكانت دوراتها تضم بإستمرار طلبة عرب من دول الخليج ومن الجنسين ، بما في ذلك من العربية السعودية،( ودورات التثقيف في البصرة ضمت ايضا خليجيين). وبالإضافة الى الكلاسيك الماركسي كانت تلقى في المدرسة محاضرات متنوعة في مختلف الميادين من قبل كوادر الحزب أو الرفاق المتخصصين. وأذكر أني القيت فيها محاضرة حول الحركة الفلاحية والمسألة الزراعية. تولى إدارة المدرسة في البدء الرفيق أحمد كريم ( نوري)  ومن ثم الرفيق خضير عباس السماوي. وكان المحاضرون فيها د.سعاد خيري ود. نمير العاني والرفيق بهاء الدين نوري  و الشهيد علي الحاج حسن والرفيق أحمد حبيب.
 
قبل ثورة 14 تموز لم يدرس في الخارج دراسة حزبية أو دراسة الماركسيةـ اللينينية  سوى الرفيق فهد. خلال الثورة كان الشهيد محمد صالح العبلي  يدرس في موسكو. وبعد الثورة بسنة واحدة وحتى إنهيارالإشتراكية المبكرة ـ الشمولية درس، في تقديري، أكثر من الفي كادر حزبي من كوادر الحزب الشيوعي العراقي . في هذه المدارس. وهي بالأساس مدرستين الأولى في موسكو ـ  معهد العلوم الإجتماعية، معهد لينين. والثانية في صوفيا ـ  المدرسة الحزبية العليا.  وقد درس البعض في الجمهوريات السوفيتية أو دول أخرى كالمانيا الشرقية ورومانيا وجيكوسلوفاكيا.
 كانت الدراسة في كلتا المدرستين ( موسكو وصوفيا ) في البدء ثلاث سنوات. سنة واحدة للغة وسنتان للمنهاج ، الذي كان عبارة عن: الإقتصاد السياسي والفلسفة المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية وتاريخ الحركة العمالية وتاريخ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي. ويضاف لها في صوفيا تاريخ الحزب الشيوعي البلغاري. بعد توفر المترجمين وكذلك أساتذة يجيدون اللغة العربية، الغيت سنة اللغة في موسكو وباتت  تدرس كمادة ثانوية وبساعات محددة. وأستحدثت دورة لمدة سنة واحدة تدرس نفس المنهاج بشكل مكثف. وساعات قليلة جدا للغة الروسية. وبدون البحث (حوالي عشرين صفحة) الذي يتفرغ لها الدارسون في الأشهر الستة الأخيرة في الدورة الطويلة. وقد أضيف الى المنهج الدراسي في موسكو مادة جديدة، شيقة ومفيدة ، منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وهي علم النفس الإجتماعي. وكانت هناك دورات طوعية مختلفة قصيرة الأمد مثل الصحافة والتصوير و،،، الخ وقد دخلت الدورتين المذكورتين عند دراستي في موسكو.

درست في الخارج مرتين، في المرة الأولى في صوفيا ولم أكملها، والثانية في موسكو أكملتها تقريبا ؟! وسفرتي الأولى للدراسة، وهي الأولى في حياتي خارج الوطن، كانت دراماتيكية لذلك بقيت عالقة في ذاكرتي.

في نهاية  1962، بلغت بقرار سفري للدراسة في الخارج لمدة ثلاث سنوات في بلغاريا. لقد فوجئت بالقرار لأني لم أكن قد سمعت بالدراسة الحزبية في الخارج أصلا. كنت محكوما غيابيا لمدة ثلاث سنوات. و حصلت على جواز سفربمساعدة أحد المحامين وكان بمعيتي الرفيق اكرم حسين دفعنا للمحامي مبلغ 30 دينارا بعد إجراء تغيير في لقبي في الوثيقة الوحيدة التي كانت مطلوبة وهي دفتر الخدمة العسكرية. كان هذا المحامي يستحصل توقيع نائب مدير التحقيقات الجنائية على القوائم بمبلغ مقطوع عن كل جواز!

منحت مبلغا من المال من قبل الحزب لشراء بعض الملابس ولتغطية أجور سفري الى صوفيا عبر بيروت. فقد كان السفر من العراق الى البلدان الإشتركية بدون وثائق تبرر القصد من السفر أمرا متعذرا، وكانت الدراسة الحزبية سرية للغاية.  زودني مسؤولي الحزبي الرفيق باقر إبراهيم، والذي لم يكن قد سافر الى خارج العراق ولا مرة واحدة بعدُ، برسالة وقال لي:

ـ هذه الرسالة امانة الحزب عندك، إتضمها أوما تطلعها إلا من توصل صوفيا وتسلمها للرفاق البلغار.

عمل لي أخي حميد حفلة توديع متواضعة عشية السفر ورافقني في اليوم التالي الى المطار، لأطير، لأول مرة في حياتي بالطائرة ، الى بيروت. إندهشت لجمال بيروت ، وإستغربت الإنحناءات في شوارعها قبل أن استوعب ما تضفيه تلك الإنحناءات من جمال على بنية المدينة.

في مكتب الطيران في بيروت طلب مني الموظف فيزا، لم أسمع بهذه الكلمة من قبل، وعندما عرفت بأنها تأشيرة سماح ينبغي الحصول عليها من سفارة الدولة المقصودة، لدخول حاملها الى البلد؛ اخبرته لاتوجد عندي مشكلة في دخول البلد ، لدي أخ يدرس هناك ووعدني بأنه سيتدبر الأمر عند وصولي مطار صوفيا. حصلت على تذكرة سفر جراء إلحاحي ، على أول طاْئرة، وشكك الموظف بالسماح لي بالخروج من المطار، ووعدني بإستعادة التذكرة بدون خصم في حالة عدم سفري.

وفعلا، لم يسمحوا لي في مطار بيروت بالطيران. ولعدم وجود سفارة  بلغارية في لبنان إقترح مكتب الطيران إرسال جوازي الى دمشق للحصول على فيزا بعد الحصول على  حجز لمدة ثلاثة أيام في فندق بلكان ـ خمس نجوم في صوفيا! تريثت في الأمر وذهبت الى مكتب صحيفة " النداء " لسان حال الحزب الشيوعي اللبناني. أرشدوني في المكتب الى الملحقية التجارية البلغارية في بيروت. إلتقيت بالملحق التجاري البلغاري وكشفت له هويتي ومهمتي في بلغاريا و أخبرته بأني إحمل رسالة الى حزبهم من قيادة حزبنا وبإمكانه الإطلاع عليها، ومددت يدي الى جيبي لأخرجها فرفض الإطلاع عليها رفضا قاطعا. وأرشدني الى نفس مكتب الطيران ، الذي تعاملت معه، لمساعدتي !

أخبرني مكتب الطيران بأن إرسال الجواز الى دمشق لإنجاز المعاملة يستغرق ثلاثة أيام وهناك طائرة بعد يومين من عودة الجواز واخذ مني مبلغا محترما لإنجاز المعاملة. رصيدي من النقود لم يعد يكفيني إلا لثمن التذكرة، بعت بعض ملابسي الجديدة ، بعد أن قلبتها مرارا بين يدي ، فقد كنت أحلم بالوصول الى بلغاريا لأرتديها. بعت بنطرون سرج وبلوز وشال وإنتقلت الى أرخص فندق في مركز المدينة . وأخذت أستغني عن وجبة العشاء!
هطلت أمطار غزيرة منذ أن وصل جوازي الى دمشق ، وكنا في نهاية كانون الأول ، فإنقطع الطريق بين دمشق وبيروت ، ولم يعد الجواز إلا بعد خمسة أيام ، أي بعد مغادرة الطائرة التي حجزت عليها! حمّلت مكتب السفريات مسؤولية تأخري. أخبرتهم بأن ثمن التذكرة قد تآكل. كان موظف المكتب طيبا ويرغب بمساعدتي. إقترح علي السفر بعد بضعة أيام  من بيروت الى إسطنبول بالطائرة ومنها، بعد ثلاثة أيام ، الى صوفيا بالباخرة بسعر ملائم جدا، وافقت على الفور. بعت القفازات الجلدية و ثاني بنطرون جديد، وأشتريت بعض الليرات التركية ، وسافرت الى إسطنبول. عند وصولي الى إسطنبول لم أجد حقيبتي مع حقائب المسافرين. بعد التحري ظهر بأنها ذهبت الى القدس! وأخبروني بأنها ستعاد الى إسطنبول وأستلمها بعد يومين ولم أستلمها الا قبل ساعتين من موعد توجهي للميناء!
 تحركت الباخرة في الموعد المحدد. بين خليط  من الأجناس على متن الباخرة كان هناك مجموعة من الطلبة العراقيين العائدين الى موسكو عبر فارنا، بعد قضاء العطلة الشتوية في العراق. تعرفت على احدهم وكان شيوعيا وأبدى إستعداده لمساعدتي بالترجمة عند وصولنا. كنت العب الشطرنج مع رجل يوغسلافي عندما أصبت بدوار البحر. أعطوني حبة تناولتها ونمت، ولم أفق إلا بعد وصولنا ميناء فارنا.
قدمت جوازي لضباط الجوازات، وكانوا مجموعة جالسين على شكل نصف دائرة في قاعة على ظهر الباخرة، وقدمت لهم رسالة قيادة الحزب الموجهة الى حزبهم. وشرحت لهم عبر المترجم العراقي بإختصار، أسباب وصولي الى الميناء وليس الي المطار. كنت أظن بأنهم ما أن يقراوا رسالة قيادة الحزب سينجلي لهم الوضع ويرحبون بي، وإذا بي أجدهم في حيرة من أمرهم يقلبون الجواز والرسالة في أيديهم. إستفسرت عن أسباب حيرتهم  ، أليس كل شيء واضح في الرسالة ؟ أجابوا مستفسرين: أية رسالة؟ أشرت الى الرسالة التى سلمني إياها مسؤولي وقال لي:
ـ هذه أمانة الحزب ما إتسلمها إلا للرفاق البلغار من توصل.
نظر الضباط  جميعهم دفعة واحدة الي عندما قال لي كبيرهم: " هذه فيزا وليست رسالة... فيزا منفصلة " !؟ لم تعد قدماي تحملني وجدت كرسيا فارغا وجلست عليه ورميت رأسي بين كفي وتساءلت مع نفسي أحقا كان من الممكن تجاوز كل هذه المتاعب لو كان قد قيل لي:
ـ هذه فيزا بلغارية إخفيها في بغداد وإبرزها في مطار بيروت. ؟!
 بعد فترة ليست بالقصيرة أخبروني بأن صوفيا أعلمتهم بأن هناك شخص بنفس الإسم كان يجب أن يصل قبل حوالي عشرين يوما الى مطار صوفيا وليس الى ميناء فارنا. وتركوني على ظهر الباخرة. قال لي المترجم:
ـ لا تستبعد بإن البلغار قد يشكون في أمرك. قد يذهب تفكيرهم الى أن  إحدى مخابرات دولة عدوة قد إختطفتك وإستبدلتك بآخر وأنت الشبيه المدرب...!
ــ معقولة؟!
ــ ليش ما معقولة... ماسامع بالستار الحديدي
ـ طيب، إذا إنطلت مثل هذه الحيلة عليهم فكيف تنطلي على الرفاق العراقيين، فبإمكان البلغار التأكد من ذلك بسهولة عن طريقهم.
ــ طبعا طبعا...
يتبع[/b][/size][/font]