المحرر موضوع: حكمة  (زيارة 1873 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل صميم

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 226
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
حكمة
« في: 01:28 15/11/2005 »
حكمة
على طريق الزمن

 ( هذه احدى التأملات التي كتبتها واود مشاركنكم بها، آملا أن تنال رضاكم ..
( صميم يوسف باليوس - روما)
sameem_hermit@yahoo.com

   اجتمع المعلم بتلاميذه على جبل عال جدا، وقد الفاهم يلهثون في نهاية طريق التسلق، وقد نال منهم التعب الى درجة تقوس ظهورهم. بدأ بالحملقة في محيا كل تلميذ مبتسماً، ثم سكت فجأة ونظر الى الاسفل وقال، لننزل من جديد ! نظر التلاميذ الى بعضهم البعض مستغربين من هكذا قرار. فنزلوا الى الاسفل، ولم يعد يُسمَع أي حس من أنفاسهم المختنقة. كل منهم كان يمسك  بخاصرته المتثاقلة وكأنها في الطريق الى الانفجار. فسكت مبتسماً من جديد. ونظر الى الاعلى، وقال: " لنصعد من جديد ! فصعدوا ولم يتفوه اي تلميذ بشيء، وحين وصلوا الى القمة، تطلب منهم وقتا اطول لانهم اصبحوا جد متعبين. ثم على عادته ، نظر المعلم الى الاسفل مبتسماً، وقال :" لننزل من جديد ! ولكن أحد التلامبذ قد لملم شجاعته المترامية الاطراف وقال :" يا معلم، لماذا ترغب في رمينا باحضان الانهاك ، فقد نال مني التعب مأخذه، ولا يمكنني النزول الان، فما الجدوى من ذلك؟". فأجاب المعلم باشراقة تلتمع وجهه، وكأنه كان يبحث عن شيء قد وجده بعد عناء طويل، قائلاً :" طوبى للذين يطيعون بعيون مفتوحة وعقول متساءلة. تزودوا حين تطيعون بـ :" لماذا وكيف ؟ كي لا يحولكم " الفتور" في الطاعة الى حشرات تحركها مباديء غريزية. اياكم واقتفاء آثار " وهم المفاهيم" حين تغدو انسانيتكم انعكاس من الخارج نحو الداخل وليس العكس. فتختبرون بالتالي " عفة وهمية" و " طاعة وهمية" و" فقر وهمي".

الصداقة   

   ثم أجلسهم على قمة الجبل، وبدا يفسر لهم كل شيء على طريقته المعهودة. فسأله أحد التلاميذ: يا معلم كلمنا عن الصداقة؛
فقال:" لا يمكنكم عيش الصداقة مع الاخرين ان لم تختبروها مع ذواتكم. إذ تتعظم حياتكم حين تحتضن صداقات مشرقة، سليمة - حين التقيت زميل لي في " مدرسة الحكمة" كان يخبرني قائلا             :" لا تسِرْ أمامي، فلن ألحق بك، ولا تسِرْ خلفي، فلن أقودك، بل سِرْ بجنبي، فأكون صديقك" - انها تتغذى على التفهم، وتستقي من نبع العفوية حين يصدر من جوف الكيان الحر. تعشق تقادم الزمن كأنه بوتقة تتمحن معدنها، بل كالخمر الجيد كلما عتق كلما أضجع الحس في خدر الأخدار.
    تنادي بتوحد الروح في الاجساد، منطلقها ومؤداها خيِّر، ما فتأت تشطر الشر لتدب الوهن في جسده الضخم ، وتلاشيه في قلب العدم. انها كالصحة الجيدة، لا يمكننا تثمينها الا حين نفقدها بالتدريج.
   لا تحب الخطط والمشاريع المسبقة فهي حرة ومشاعرها صادقة عفوية لا تندرج ضمن برامجيات العقل. تحوم في سماء اللاتوقع، حيث الفضاءات الرحبة. لكنكم مطالبون بخلق فضاءات مناسبة لطائركم هذا.
  مهما وطأتم اراض مقدسة من العقلانية، مهما بلغتم من قوة نفسية، الا انكم تبقون في حاجة ماسة الى الصداقة.
   اياكم والاصدقاء الذين يقطر لسانهم عسلاً، ويغدو حضورهم بمثابة مرآة تعكس جمال سطحيتكم. بل اسعوا نحو من ينقدكم ويحطم اوهامكم واصنامكم!
    لا تهبوا الثقة لمن يطلبها بسرعة، ولا تبخلوا بها لمن وهبكم تضامنا عميقا مع ذواتكم!
   لا تحلقوا في سماء المثالية والرسمية مع اصدقاءكم، فإن بات أحدهم لقمة سائغة لعاديات الدهر المحطِمة، لا تقولوا له : هل بامكاننا مساعدتك" بل هبوا لمساعدته قبل ان ينطق بصرخة النجدة.
   لا تقدسوا ما يعرفه الصديق عنكم بل قدسوا حبه اياكم.
   
الصداقة مرآة تكشف مواطن ضعفكم قبل قوتكم. نبيلة التوجه والمنطلق؛ ما فتأت تغدو  شعور بالامان في الحضور الأخروي. لا يمكن تصويرها بكلمات محدوده بل يمكن تلخيصها في موقف ما كونها لا تقوم على مَنطَقَة الافكار أو قياس الكلمات وابعادها.
تقصد حوار القلب للقلب. ممتلئة بالمعنى الصامت، ذاك الذي يُفجِّر كل ايجابية تعتمل العمق. فلا حاجة اذن لعقاقير تخدر اعماقكم ان كانت الصداقة تتربع على عرش عقلكم. انها علاج لامراض ذواتكم.  والاصدقاء الجيدون افضل اطباء لاجسادكم وارواحكم.
   مبدأها لا يتشح الكلمات لباساً بل يتجذر في الحس تجذراً.
   لا تهوى مبدأ السعادة الوقتية، تناضل لدرأ البؤس عبر مضاعفة المحبة وتبدبد الاحزان.
   طوبى لمن حصر سر الصداقة في فعلية المواقف، وجعل من الصديق صخرة يُبنى عليها أعظم هيكل يمكن للروح سكناه.
   ملعون من عدَّ الصداقة فرصة، ولم يستلذ بطعم مسؤوليتها الطيب.   
   تبنوا عقيدتها الحقة، التي تنص على " حضور مَلَكَتَي الفهم والتفهم.
   لا تخافوا إنْ أحسستم أنكم أرض يابسة لا يمكن احتواء بذور الصداقة، إذ يمكنها الازدهار والتكيف مع كل الترب، لكنها قد تحتاج الى تبادل بعض الهدايا السخيفة لتحفظ التربة من الجفاف الكلي.
    كي تكونوا قادرين على صون الصداقة من الاضمحلال، تحلوا بـ" طيبة القلب" و" قوة العقل"، فالاولى تجعلكم صادقين دوماً، والثانية تطلق العنان لافكارككم في الصراخ بصوت عال. بهذا تصونون صداقتكم.
   لا تحكموا على معدن صداقتكم بأيام الوفرة والفرح، فالكثير سيلتف حولكم، بل انتظروا اياماً سوداء حين يغربلكم القحط والعوز وتمزقكم انياب الزمن المتقلب، حينها من يبقى معكم للمنتهى هو المعزي بصداقته.
    عاملوا الصداقة بعناية ورقة، فهي هشة من الخارج وقد تُكسَر باقل سقطة. بل انها كالمال، قد تكون سهلة الحصول لكن صعبة الحفظ,
    كونوا حكماء في صداقتكم، فقد قيل من ثمارهم تعرفونهم، فمن يزرع مجاملة يحصد عطفاً، ومن يزرع صداقة يحصد حباً. 
    لا تولد الصداقة بشهادة ميلاد، لانها لا تُلمَس. بل تهبكم شعورا بأن مجمل حياتكم ماض في اختلاف وتغير. تُعِّد لكم مخططا متنامياً لمعدل اتساع قلبكم بعد ولوجها فيه، حيث اتساع قدرتكم على الحب والاعتناء؛ عجائبية المنشأ والتفعيل؛ اشبه بتأجير بيت صغير بغرفة واحدة ً، وهناك شخص يعيش معكم فيها، وبدل أن تصبح الحياة فيها مزدحمة ومقرفة، تصبح ممتدة الفضاء، بحيث تكتشفون غرفاً لم تكونوا  على علم بها، هذا اذا كان هناك صديق واحد فكيف اذا كان هناك أصدقاء ؟ 
   الا تتصوروا أن نعمة الوجود تكمن في أن تُحِبوا وتُحَبوا؟ فطوبى لكم إن وصلتم هذه المرحلة من الصداقة. اعظم صداقة تلك التي يتوقع فيها الاصدقاء الكثير من بعضهم البعض ولكنهم لا يطالبون بها. 
    ملعون من يسلك وكأنه صديق الكل، لانه لا ينطوي على أي موقف حياتي، فصداقته دوما مؤسسة على الرمال، فهو لا يريد الصداقة بل أن يُفَكَر به كصديق.
مافتأ الصديق يكشف عما يمكننا فعله، والعدو عما يجب فعله. لا تثقوا بكل من يعجن الصداقة بخميرة الزمن المتراكض، إذ يأتي اليوم الذي تنفذ فيه كل مؤنته في طريق الحب، ويشرع باحثا عن سراب البقاء.   
لا تلبسوا الاقنعة مع اصدقاءكم، بل الطريق الامثل لأكتسابهم  أن تكونوا انفسكم في كل المواقف.
حين تحاربون اعداءكم، تشعرون بمفخرة عظيمة، وحين تحاربون اصدقاءكم فانكم تعدّون نجوم السماء لمللكم وضيقكم، بل تظطرون الى طرق شوارع الزمن كالبلهاء.
إن ابتغيتم تعلم الصداقة، عيشوا العزلة أولاً، فما أعز " الصداقة على قلب " المتوحد " و " المنفي".   
لا تطلبوا من الصديق شيئا سوى الوقوف بصمت جنبكم حين تلفكم نائبة الحياة، لا تبغوا منه علاجا فهو قد لا يوفر لكم سوى اذن للاصغاء، وقلب للاحتضان، وروح  للاستبطان.إن كان لديكم خوف من الحياة، فلاشوه بالصداقة.
لا تتوقعوا ان تُفرَش الارض ورداً في الصداقة، بل بالاحرى توقعوا ليال سوداء حالكة، فخطاب الانسانية خطاب مؤسس على عنصر "التغير"، ولربما تصادفون صديق البارحة ليس كصديق اليوم. لا تمرغوه بتراب الاهانة، بل ادخلوا الى مقدسه واشعلوا شمعة تنير اسودادات نظرته، ليراكم من جديد.
إن كانت صداقتكم هربا من العزلة، فباطل سعيكم، وإن كانت صداقتكم طمعا بتعزيز اعتباركم تجاه انفسكم، فباطل سعيكم، وإن ترعرت في احضان برمجتكم ومنطقكم، فباطل سعيكم، بينما لو عشتم اختلاء الروح في قلب الصداقة، فمبارك سعيكم، وإن كانت طمعاً بجعل الاخر مدركا لمدى قيمته أمام نفسه، فمبارك سعيكم، وإن كانت عفوية وتحترم واقع الزمن، فمبارك سعيكم.
كرروا في قرارة أنفسكم "انكم تستحقون اعداءكم ولكن لا تستحقون اصدقاءكم"، كي تثمنوا حضورهم في حياتكم..
كونوا حكماء متمهلين في ارساء دعائمها، لكن إنْ أحسستم أنها أمست ضرورية كضرورة الماء في الحياة، فلا تخافوا من التورط بها، فلربما تبدو أجمل ورطة تمرون بها.
ان فقدان الصديق كفقدان عضو من اعضاء الجسم، فالزمن كفيل بشفاء الم الجرح، لكن الخسارة خسارة ولا يمكن أن تُعَوَّض.
ليكن لديكم لسان طيب وليس مرا، وجه مبتسم وليس متجهما، وقلب فيه غرف كثيرة، وليس غرفة واحدة. فهي تحترم شرعة التعددية، ولا تقدسوا الوحدوية المريضة، فالصديق كتاب مفتوح، يفلت من أي خنّاق له تصنعون.
الصداقة اكتشاف وليس اختراع. فحياتنا ليست سوى شطرين، شطر نحن من جبله، والاخر جبلته أيدي اصدقاءنا.

 ثم نظر الى السماء متحسرا وصوت التنهدات يتعالى ويخفت وكأنه مقياس يشير الى اظطراب في التوازن، وإنباء يكارثة قادمة. ثم  قال: اسالوا الطيور لماذا تريد الطيران، هل لانها تحتاج الى الطيران أم انها مجبولة على الطيران. إنْ كان الاول صحيحاً، فانكم تحتاجون بالمثل الى الصداقة لتعيشوا انسانيتكم الضائعة، وإنْ كان الثاني صائبا، فانكم مجبولون على عيشها ولهذا من ينكر الصداقة ينكر جبلته ومن ينكر جبلته، ينكر خالقه، ومن ينكر خالقه، ينكر أعظم شيء في حياته؛ وهو " الكون محبوبا رغم عيوبه"



الطموح

    وحالما انتهى من حديثه، نظر الى أحد تلاميذه، وقد كان شارد الذهن، عيونه تتراقص اندهاشاً امام سير اللحظة وكأنه أما حلبة التاريخ المجتر، بل ما فتات نظرته تقدس النار التي  تذيب الحاضر في الوهة المستقبل، وترذل بلا بد الماضي بحجارة الرجعية والتخلف. قام المعلم بهمة وقصد الذهاب نحوه مباشرة، فقد أحسّه كمن علق في شباك لذة الرغبة وانخطاف الـ" آن"، ربت على ظهره بحركة اردت التلميذ ارض الواقع بعد ان كان طائرا في سماء الاحلام الملونة التي لا عد لها ولا احصاء.
 قال له : لربما ستسأل في قرارة نفسك أني سأسلك بماذا تفكر ؟
أجاب التلميذ : نعم، صدقت ايها المعلم.
ثم ابتسم المعلم قائلاً : بل سأسلك: ما الشيء الذي لم تفكر به ؟
فرد التلميذ وكأنه قد تلقى إهانة من المعلم : لكن يا معلم، أنا شاب طموح ؟
أجاب المعلم : 
قد قيل لك :" حاول أن تتحدى كي تكون وتصير في المساقبل"، ولكن الا ترى هنا احتقارا للحاضر،  ولهذا أقول لك:" عليك باحترام نموك في الحاضر، كي تكون في المستقبل، فاحترام النمو يقوم على تقديس الخطأ ( الماضي)، وهذا ما يقود الى تعلم الكون انساناً ( الحاضر والمستقبل).   
ثم نظر للجمع قائلاً:
إنْ لجأتم لله لطلب المعونة فحسب فلن ترونه ولن تتلقونها، فهو يتملص من كل خطاب نفعية أو طموح يعتمل مرجل أفكاركم ورغباتكم. بل اعهدوا لله ارواء ارضكم العطشى وذر بذار انقلاب الذاخل، ولكن أنتم من تثورون، من تسعون، من تتغيرون.. طالبوا ذواتكم اذن بالنمو وابعدوا الله عن مخطط رغباتكم، حينئذ  تقدسونه وتقدسون ما تنطوون عليه.
اياكم والانبياء الكذبة الذين يرذلون الطموح بحجة انها تضادد توجههم الروحي. فهم لا ينطوون على شيء يُذكَر سوى عقد النقص وكآبة تستدر خلف تقوية مرة. فما من انسان الا ويطمح، متمنياً التحليق باجنحة الخيال نحو مراسي الحرية. ففي الصلاة طموح ، في العلاقة طموح، في الطبيعة طموح بل حتى في الموت طموح.
طوبى لمن يطمح الى مزاوجة الروح بالعقل في عالم يعيش احتضار الروح وسيادة العقل. فالعالمَ يَتحرّكُ بسرعة عجيبة ، فبينما يشرع شخص بالقول : "أنا لا استطيع فعل ذلك الا اذا ..."، الا ويتفاجأ بظهور شخص أنجز الفعل وانتهى منه. بينما الاول ما زال يتمنطق. 
كونوا كمن لا يعرف متى تأتي ساعة السَحَر، لذا يظطر لفتح كل الابواب استعدادا لاستقباله. كونوا سارقي الزمن في مجهوليته.  ليكن هكذا طموحكم، انفتاح وخيال ملتهب بالانتظار.
اياكم أن تحرقوا الحاضر بشعلة المستقبل. بل أن تنيرونه. فنعمة " العينين" لم تُعطَ جزافاً، بعين واحدة تنظر "الان وهنا"، والاخرى تنظر "ما بعد الان وهناك." فالحياة ليست سوى قنديل صغير ينير لفترة وجيزة وينفذ زيته. طموحكم هو زيت حياتكم. فالزيت نافذ لكن القنديل باقٍ. لهذا عيشوا حياتكم بطموح الحاضر، ولا تخافوا على الاجيال القادمة فلها زيتها الخاص بها، لكن حافظوا على القنديل وهذا الاهم.
من لا يعرف معنى الفشل لن يتذوق لذة الطموح، فالاخير ليس سوى صلاة تنطلق من محراب الفشل نحو العلى.
أحبوا وافعلوا كل ما تخشون القيام به. فهي أولى خطوات الطموح. إذ ليس كل ما نواجهه يمكن أن نغيّره، لكن ليس من شيء يمكن أن نغيره دون أن نواجهه. ففي الجرأة يكمن كل السحر والعبقرية والقوة . 
كونوا حكماء في تحقيق طموحكم، فليس بمستطاعكم تَغيير إتّجاهِ الريحِ، لكن بمقدوركم تعديل أشرعتَكم وفق هبوبها، والوصول الى غايتكم الاخيرة.
إنْ اضجعكم الطموح على فراش الخمول وخيبة الحاضر: فحاربوه بقناعة الذات، ورددوا كل يوم :" كنت أبغي أن أكون، والان أنا كائن .. وكفى". وليكن في معلومكم مهما حققتم من طموحات، فأنتم أنتم، لن تتحركوا قيد انملة. فقد يمسي تافها كل ما فعلتموه أو تفعلونه في عيون الكون الهائل. لكن المهم في الأمرأنكم تفعلون " شيئاً".
إنْ كان طموحكم يقتصر على تغيير العالم نحو الاحسن، فكونوا انتم أول البادئين به. وإن كان طموحكم بقتصر على تغيير ذواتكم، فحاولوا ان تغيروا نظرة العالم عنكم.
لا تجالسوا اقزام العصر ممن يحاول تحضيض مساعيكم نحو التطور. بل جالسوا حكماء عصركم وانبياءه ممن تتسربل في نظرتهم غبطة الحياة وفرص البقاء وثقل اللحظة.
 إنْ أردتم طموحا جوهريا يطرز انسانيتكم، اسعوا لامتلاك قلب ممتلئ النعمة وروح مولود من رحم الحب واذن تصغي لصوت الداخل.
ولا تفعموا عقول الناس بسير امجادكم أو معاناتكم التي كابدتموها لتحقيق اهدافكم فانكم تسحقون بذلك اندهاشكم أمام ذواتكم، بل اجعلوا الناس فضوليين في معرفتها، فالصمت ابلغ تعبير عن الخبرة المندهشة.
ليس الشيء العظيم أن نقف بلا حركة  أو أن نعرف وجهتنا، بل تكمن العظمة في أن نبحر أحيانا مع الريح، واحيانا ضده. لكنّا يجب أن نبحر، لا ننجرف مع التيار، لكن لا ننكص في الوقت نفسه فنُنْزِل المرساة خوفاً من هبوب العاصفة.
تأملوا دائماً، أن هناك عقبتان تصادفكم، الاولى يضعها الزمن أمامكم، والاخرى تضعونها أنتم أمام نفسكم، بطموحكم تتحملون الاولى، وتحطمون الثانية.
قد قيل لكم:" ابحثوا تجدوا" أما انا اقول لكم، ليس في كل الامور، فغالبا ما يخنق البحث خطاب العفوية ويبخسه، ويبدو طريقاً يؤدي للتكلف وضياع الهدف. بل ابحثوا حين تدفعكم الحقيقة، وكفوا عن البحث حين يدفعكم الكبرياء والتنافس البغيض.
قد سمعتم :" ان الطموح طريق يؤدي الى الامتلاء" أما أنا فأقول لكم:" اطمحوا في اكتشاف الفراغ، قدسوا معبده الخفي، فلطالما امسينا عَبَدَة صنم " الامتلاء"، نأكل ولا نشبع، نرغب ولا نكتفي، نفكر ولا نفعل، نعيش ولا نقنع. فكيف نسعى للامتلاء ونحن من غرق في خضمه؟!
احرصوا على ابقاء نار الحماسة متقدةً في مرجل طموحكم، فليس من شيء عظيم قد أُنجِز بدونها. ففي انطفاءها تضعف الدهشة، ويلفي المرء نفسه كمستنقع مياه آسنة، حيث تتجمع الحشرات والاوساخ.
أتعلمون كيف يتولد الطموح:" حين تمرون في طريقكم، قد ترون اشياءً وتتساءلون: لماذا هذه الاشياء موجودة هنا. حاولوا بالاحرى أن تروا اشياء غير موجودة، حينها تقولون:" لماذا هذه الاشياء غير موجودة هنا ؟"   
لا تبرروا فشلكم بصعوبة الامور بل بعدم جرأتكم على الاعتراف بصعوبتها. فقد تنتفخون بالكبرياء الى درجة عجزكم عن النظر أبعد من أنوفكم. 
يسير الطموح برجلين : الفكر والفعل، في الاول يُمسي عجينة هلامية في حيز الحدس، لها وجه كياني وكوني شامل، وفي الثاني يحدث التجسد الفعلي في حيز المادة، يلبس وجهاً معنوي ، ويفقد تسميته ومجهولية مستقبله اللامتحقق لانه قد وُلِد الآن. لكن بين الفكر والفعل تتصير الانسانية. ولهذا اقول لكم، لا يمكن للطموح وجود بلا فعل. إذ تتضاعف الفرص حين تُنتَهَز.
في الطموح، لا تحشدوا قواتكم وتخططوا لاستنزاف طاقاتكم قبل استنزافها في العدو، بل افعلوا ما يمكنكم فعله، بما عندكم من طاقة، وحيثما كنتم. وإنْ هُزِمتُم ، اياكم الجلوس في منتصف الطريق نادبين حظكم، فقد تفقدون البداية والنهاية.
إنْ ابتغيتم أن تعرفوا مصيركم، عليكم ان تزرعوا " ميزاتكم" في أرض خصبة، وإن أردتم حصد           "ميزات تغير وجه الكون، عليكم بزرع " عاداتكم" لان بتكرارها تنمو الميزة. وإن اردتم حصد عادات عظيمة ما عليكم الا زرع " افعالكم " في ارض الزمن الايجابي، فهو بذار العادة.
حين تطمحون، تأكدوا أنكم في أحضان الهكم وليس في أحضان أصنامكم التي قد تحقق كل أمانيكم بمجرد تخليكم عن أبيكم السماوي.
أياكم أن تكشفوا اوراقكم للطموح، فانه يملك وجهاً قاسياً، عديم الرحمة، كل استحقاق لا يُدرَج ضمن مخططه، يعده حقيراً. وغالباً ما يكسر روابط الدم، ويُنسيكم حتى العرفان بالجميل.
لا تخافوا ان تطرقوا دهاليز رغباتكم، فكل غاية عظيمة تفترض درباً متعرجا مليء الحفر، حافظوا على الطريق مهما بلغت صعوبته.
قد قيل لكم :" متى ما حققتم انجازا عظيما، حفرتم اسماءكم في سجل التاريخ"، أما أنا أقول لكم :" متى ما أفلحتم بالامور الصغيرة، فانكم تطرقون باب العظمة الاكيد، فهو باب صغير وضيق. بل انه خفي على من يحاول امتلاك العظمة كحرفة، فهو يناغم ذاته مع مُثُل تحتقر انسانيته. فالعظمة تكمن في جسد الرغبة المتواضعة. 
أوصيكم أن لا تحققوا طموحاتكم على حساب تعاسة وسذاجة الاخر. إذ يمسي الطموح  رذيلة بحد ذاته، لكنه طريق أكيد نحو الفضائل إن رأى طريق النور. فبلا الطموح نفقد "اندهاش الزمن أمام نفسه" في ذواتنا. فطوبى لمن يطمح بانسانيته، ولا يطمع بكبرياءه.

   انتهى المعلم من حديثه وقد لاحت على سيماءه بوادر الاندهاش لما انطوى عليه تلاميذه من نعاس دب عيونهم وعقولهم، فقال لهم بلهجة تنم عن صرامة:"
انكم بهذا تضيعون فرصة التحرر، ما الفرق بينكم وبين الأموات، فكلاكما يبحث عن ركن يضع رأسه عليه، ويسلم ذاته الى فراغ الزمن، حيث يغرق في خضم الاشكال الشاردة من مخيلة الواقع. في اذانكم يستدر ثقب كبير، يسرب وقود الكلمة، ويوما بعد يوم، يُعلَن فقدان المعنى بلا ادراك. كيف يمكنكم ادراك معنى التحرر إنْ لم تُسجَنوا خلف قضبان معناكم. فالمعنى سجن الحرية لكن مفاتيحه في يد السجين لا السجان.
تعلموا أن المعنى مغلف بقشرة صلدة لا يكسرها الا الصبر والرغبة المتقدة.

    ثم طفق أحد تلاميذه يقترب منه حاملا بيده حجارة كبيرة، نحتتها عوامل التعرية الى درجة انها بدت تعكس وجه شخص متألم لكنه يولد انطباعاً بصلادة الداخل. ثم نظر المعلم الى وجه التلميذ قائلاً :" هناك بون شاسع يا بني بين وجهك الناعم، العاري والمبرقَع في الوقت نفسه، وبين وجه هذه الصخرة. فلو وهبها الخالق لغة بشرية لنطقت بخبرة تهز الكيان وترطم البشرية بخساسة معناها.

ثم قال التلميذ:" لكن يا معلم، ما هو الطريق للمعنى ؟"
أجاب المعلم :" في الصبر ".
ثم أضاف التلميذ :" كلمنا عن الصبر !".


الصبر

    أوصيكم بالصبر، فهو كلمة السر التي أودعها الله كيان الزمن، من يفك رموزها يفتح جميع ابواب الحياة الموصدة، فحين تزاوجون الصبر بالزمن، ستقعون على كنز يقطن اعماقكم. فبالوقت والصبر تصبح ورقة التوت رداء حريرياً. بل حين يتحدان سيفوقا القوة والعاطفة انجازا. انهما المحاربان الأكثر قوة وبأساً.
أما حين تزاوجون الصبر بالحب، فلن يكون هناك فراغ في العمق يقض مضجعكم، بل ليس من خطاب للمستحيل. اسألوا الام حين يلتهم المرض جسد وليدها. انها تحتضنه بذراع الزمن، وبعيون صبورة.
حين تزاوجون الصبر بالمثابرة، فستُعِّدون خلطة سحرية لحياتكم، بل تميمة لتذليل أي صعوبة تواجهكم.
لا تطالبوا ذواتكم بصبر عظيم لنيل قوة أعظم، بل تتحدر اعظم قوة من صبر بسيط. وحين ترون شخصا عبقريا لا تنطلقوا في تحليل عبقريته الا من مبدأ الصبر.
إنْ لم تُمتَحَن أفكاركم وأفعالكم في بوتقة الصبر الشجاع فلا جدوى منها. بل الأجدر بكم حرقها وذر رمادها في بحر النسيان.
كونوا حذرين من أن لا يقودكم صبركم الى الجبانة، بل تأملوا كل لحظة صابرة وهي تحتضن الاصرار على تغيير الواقع. فالصبر رفيق الحكمة، والحكمة لا تعالج الامور الا باصرار يعشق الصمت.
اصبروا لتمتلكوا الصبر، فليس سهل على المرء تجاوز حدود ذاته والولوج في جحيم الذات حين تعاني قوة ترطم رغباتها وامانيها بحائط مسنن.
إياكم أن تذوبوا في جسد الصبر، وتصبحوا اناسا صلدين الى حد انعدام الحس ، بل أذيبوا الصبر في مادة حياتكم الهلامية، وارسموا له حدودا وطاقة ونتائج.
ما لا يمكنكم علاجه، اعهدوه للصبر كي يتولى تليينه مع صيرورة الزمن. فالصبر يسوس الزمن.   
ان التحمل أعظم من التجاسر؛ امتلكوه كي تقضوا على عدائيتكم مع الاخرين؛
كي لا تكونوا مرتعبين امام أي صعوبة من شأنها اذلالكم؛
 كي تُبقوا قلوبكم نابضة بين أموات المجتمع ؛
 كي تعيشوا اثارة نقية في قلب فساد البشرية؛
 كي تتخلوا حتى عن الطموح المهلك، بل تقنعون بما حصلتم عليه
إذن من قال انها ليست عظمة بحد ذاتها .
كي تكونوا مستعدين لمواجهة مجهولية الزمن وما أعده لكم، تحتاجون الى الصبر كسلاح فعال. فالصبر كفيل بأن يخلق من ألمكم إكسير الشفاء.   
حين تصبرون فانكم تستدعون الى ارض الواقع قوة مجهولة المصدر كانت مختفية في اعماقكم، ولم تستدلوا عليها يوماً. فاغلب الاكتشافات العظيمة تحدسها افكار الالم.
أصبروا على بلاياكم بثبات، إذ قد يحمل لكم هذا الصبر بشرى الازدهار والمصالحة بين الجسد والروح، فكلاهما يقود الاخر.
إن كنتم بصحبة قساة الزمن، ممن يحوّلون البشر الى أدوات لتحقيق مآربهم وتثبيت كراسيهم، لا تتركونهم فهم بحاجة لحضوركم، بل كونوا في مجلسهم كطُرُش يسمعون، كعميان ينظرون، كخُرُس يتكلمون.
حين كنت مع معلمي الأعظم، ذات مرة، جاء شخص وأهانه أمامي، فطلبت منه قائلاً :" اتركني لاعاقبه يا معلم" فقال لي المعلم :" ليس حكيم من يسمح بعمل الخطأ، فاصبر لربما صمتك هذا ابلغ دافع لاهتداءه". 
اعلموا ان الصبر يعلمكم السيطرة على ذواتكم، ومن وصل بينكم الى سواحل هذا الصبر، فطوبى له لانه سيتعلم الولوج الى اعماق الاخرين الهزيلة.

أنهى المعلم الشيخ حديثه وقد بدا منهكا لعمره الكبير الذي ناهز التسعينات، فابتسم امام أصغر تلميذ عنده، وقد تجمعت في هذه الابتسامة كل دلائل الثقة والائتمان على الرسالة التي سيحملها تلاميذه بعد حين. وأطرد قائلاً :" أوصيكم بالمثابرة التي تجبر الصخر أن يؤسس بيتاً، الجائع للالبحث عن لقمة يسد بها رمقه".   
فقال له هذا التلميذ: إذاً..  كلمنا يا معلم عن المثابرة  ..
المثابرة
     
اياكم أن تنظروا لفشلكم كعدو لدود، بل انْ طرق ابوابكم، افتحوا له. فهو ضيف مُرحَب به شئتم أم أبيتم. لكن لا تسمحوا له بالاقامة لفترة طويلة. فهو كفيل بأن يهدم اسس بنيانكم غداً.           انه يغلق عيونكم حتى على رؤية ما قد فعلتموه بشكل سليم أو تقدمتم به في مجمل حياتكم.        انه ضيف لأيام معدودة، وما زاد عن ذلك فمن الشرير.
اعلموا أن المثابرة تسبح في بحر المحاولة، ومن لم يحاول لا يمكنه ان يثابر. فكروا لتسعة وتسعين مرة، لانكم في المرة المئة ستفلحون. فالمثابرة تعشق اجترار الزمن.
 المثابرة لا تعرف خطاب الحتمية والمستحيل، بل تغمض عيونها عما يفعله الاخرين، وتسد آذانها  عما يقولونه، وتغلق فمها عن أي تصريح الى أن تحين النتيجة. حينها هي من ستتكلم، ويمسي الاخرون بأفواه مغلقة، وإذان موصدة، وعيون مغمَضَة.   
لا يبرز التاريخ اولئك الذين أمسوا أجنة الفشل، بلا نمو يُذكَر، ما فتأوا يتربعون على عرش القزمية، كونهم باتوا تحت إمرة الفشل العملاق. ولكن بالمقابل، يخر التاريخ ساجداً أمام من يحطم قشرة الفشل الصلدة ويطحنها كي يحولها الى علاج ناجع لأمراض الذات. وهكذا ثابروا على الخروج، فمن خلاله تكتشفون الأشياء. لا تستلموا الى الفشل، فهذا لا ينفعكم بشيء، لانه سيعود لكم بوجه آخر، ويسألكم على الاستسلام,, وهكذا دواليك، الى أن إمَعّة الوجود في زمن الحكمة.
لا تنطلقوا في مشوار حياتكم من اليقظة او المهارة، بل اشرعوا من المثابرة، فهي تحتضن روح الفعل. وعبر تمسككم بالرؤية،، ستلد أرحام أفكاركم أولى اجنة الامجاد. ولكن تنبهوا ! فكل فعل عظيم يواجه في البدء احباطاً وفشلا. فإنْ اجتزتوهما، فانكم بالفعل أبناء النور.  وإنْ لم تصادفوا هاتين العقبتين في الطريق، فهذا يعني أن أهدافكم لا تقوم على أي معنى.
ضعوا في مخيلتكم قصة " الارنب والسلحفاة" ، فالاخيرة كانت تحمل روح المثابرة، أما الأول فكان يحمل غرورا بقوته الممتزجة بالمستقبل الأكيد. فالمثابرة لا تبغي ضمان المستقبل بل يكمن موطن رغبتها في قلب الحاضر. يتغذى جسدها على رؤية المستقبل اللامعاش وليس ضمانه أو الإمساك به في قلب الحاضر. انها لا تحرق مراحل الحاضر لتلج عمق المستقبل، إذ يتحول الأخير الى حاضر حال ولوجه.
إن تأملتم حياتكم فستجدون انها سلسلة من التجارب، واحدة منها تجعلكم تنمون بشكل أكبر حتى لو بدا ذلك صعب الادراك. قد خُلِق العالم لتطوروا فيه انفسكم ، وعليكم أن لا تنسوا أن النكسات والاحزان التي تتحملونها قد تساعدكم على الزحف الى الأمام. 
ليست الحياة سهلة لأي واحد منا ولكن ما هذا ؟ علينا ان نمتلك المثابرة وقبل كل شيء الثقة بانفسنا. علينا أن نؤمن اننا خُلِقْنا  لفعل شيء ما ، وهذا الشيء يحتاج التحقق.
لتكن شجاعتكم رهن اشارة مثابرتكم. فمهما فعلتم، فانكم بحاجة الى الشجاعة. ومهما بلغ عملكم أوج الدقة والمهارة، سيظهر شخص ما ليقول لكم :" لقد أخطأتم هنا ". لكن تنبهوا لأولئك الذين ينقدون لغرض النقد وتحطيم الآخر، فبمثابرتكم ستكشفون معدن نقدكم وناقديكم.   
النجاح ليس نهائياً والفشل ليس قاتلا : انها الشجاعة للاستمرار. لذا اجعلوا الفشل رقيب غروركم، والنجاح رقيب فشلكم.   
حين تقومون بفعل يوغلكم في لجة الملل والكراهية، حاولوا أن تقولوا في قرارة أنفسكم                  :" أن المكسب الأعظم هو اكتساب الثقة بانجاز عمل مقرف، فكيف بالأحرى لو كان عملاً مُحَبَذاً . وهذا هو الأهم. فالطريق الى النجاح يحتاج الى مثابرة مُرَكَزة وليس السير بسبعة أحذية، بل خطوة خطوة، حتى طرق ابواب الحكمة والمجد.

   ثم تأمل المعلم وجوه تلاميذه، فوجدها تنطق بالألم والعزلة، تصدر خطاباً يطمس الحقيقة في سعير النار، بل تعكس خبرة الألفة مع ارواح الذات الشريرة. فقال :" ما بالكم ؟ أني أحس بكرب يمتص رحيق كيانكم. انكم كسجناء الحقيقة؛ اولئك الذين ينادون في الطرقات: " انّا اصحاب الحقيقة، اسجدوا لنا، والا أسقطنا ما يقبع داخلنا من شر على رؤوسكم". انكم مكتئبون. فباطل خطاب حقيقتكم أن لم يكن منبعها منفتحاً على فرح الكلمة. اياكم أن تحملوا وجوها مكتئبة لكونكم تشعرون بمسؤولية أو تملكون معرفة ما. لأنكم ستبدون أطفالا يستجدون الانتباه والاعتناء.     
أجاب أحد التلاميذ، وقد لاحت على محياه بوادر التجلد الناضج، ومعالم الحكمة المستقبلية:                   :" يا معلم، انك تخاطب كياننا المغترب. اننا مكتئبون، كأننا اقترفنا ذنباً عظيماً تجاه ذواتنا والآخر. بل أن حياتنا أمست " الخوف من الوقوع بالخطأ " لكوننا تلاميذك.
ثم قال المعلم :" ومن قال لكم، أن لا تقعوا في الخطأ. فلكل خطأ هناك مغفرة، ونحن البشر، كائنات تقوم على " تغير التغير "، لهذا لا يمكننا الحفاظ على أي وعد نلتزم به في الزمن بشكل كامل. ولكن لا تقامروا على المغفرة، فهي لا توهب لمن يدرجها في مخططاته، بل انها لصيقة القصد الدفين. فكلما كنتم أغبياء في الخطيئة، تحدّرت المغفرة بشكل انسيابي.
إن مشكلتكم تكمن في المغفرة. فطوبى لمن يغفر لنفسه وللآخر.

ثم طفق تلميذ آخر، وقد بدت على سيماءه، ملامح الأنانية والإستحواذ، وإباء النفس، قائلاً : لكن يا معلم، الى الآن لم أقع على معنى المغفرة  الصحيح، فقد تناهت الى مسمعي افكارا لا عد لها ولا احصاء عن المغفرة . هل لك أن تخصص واحدة بامكاني اتباعها؟     

المغفرة

   قد قيل لكم " اغفروا بشكل مطلق، دون النظر لمن انتم بغافرين". أما انا فأقول لكم :" أغفروا للآخر بمطلقية انسانيتكم المحدودة. لكن إياكم أن يمسي غفرانكم نقطة ضعف توصم جباهكم أو تبدو جبانة في عين الآخربل دعوة لإهتداءه. فالغفران مجاني لمن يدرك قيمته.
وقد قيل لكم :" الغفران يعني أن  ننسى الماضي " أما أنا فأقول لكم، ان الغفران ليس سوى  تذكير بالماضي بل لا يغير من الماضي شيئاً لكنه بالمقابل يحافظ على توازن مستقبل بدون جروح مضاعفة،  فلطالما يترك الجرح ندبة في الجسم، وقد تمسي هذه الندبة في يوم ما أجمل ذكرى إذا اقترنت باهتداء او إنقلاب .
إن جُرِحتُم من قبل الآخر، انتقموا منه.. لكن بغفرانكم، فهو أجمل انتقام. بل ليس من انتقام كامل كالغفران.
عليكم أن تصونوا قدرتكم على الغفران. فمن لا يغفر لا يمكنه أن يحب، بل تذكروا دوماً ان هناك اشياء جيدة في أسوأنا ، واشياء سيئة في أحسننا.   
حين تغفرون للآخر فانكم تبلغون ميناء النضوج الروحي، وحين تغفرون لذواتكم فانكم تبحرون بسفينة الحكمة. ولكن إنْ لم تحضروا الى الميناء لن تركبوا السفينة بتاتاً. فافهموا !   
حاولوا أن تفهموا معنى الغفران قبل أن تغفروا أو يُغفَر لكم، فمن يفهم، يستطيع أن يغفر.
كونوا متهاونين مع الآخر، في عيوبه وتشوهات ردود افعاله تجاهكم، ولكن مع ذواتكم فاياكم، لأن نضوجكم دعوة للآخر كي يحتضن نضجكم.
بغفرانكم تجلون لذواتكم قوة ونبل فحواكم، ففي تجاوزكم لعقبات جروحكم، تصلون الى نقطة شفاءكم. فالجرح قد  يُشفى بالكي. ومن يكوي نفسه، فهو قوي، والغفران هو سمة الاقوياء وليس الضعفاء.   
لا تبحثوا عن مقياس غفرانكم في الخارج، بل ارتحلوا نحو العمق، وهناك ستجدون المقياس يقطن موطنكم العميق، انه الحب لا غير. وفي الحب لا يمكنكم ان تجدوا سوى الفعل والحرية.
حين تبخلون بغفرانكم وكأنكم تحطمون الجسر الذي عليكم عبوره للوصول الى بيتكم.   
تغلبوا بمكل ما وُهِبتم من قوة على خطاب سذاجتكم، فحين تغفرون  لا تقومون بفعل عرضي بل تتخذون موقفاً حاسماً .
قد قيل لكم " اغفروا لأعداءكم " أما أنا فأقول لكم " اغفروا لأصدقاءكم قبل أعداءكم ". فمن السهل أن تغفروا لعدوكم ولكن من الصعب لصديقكم.
حين تخطأون فانكم مُبَرَرين بالخطاب الانساني الطبيعي، وحين تغفرون فانكم تنطقون بالخطاب الإلهي الذي يتمتمه الخالق على شفاهكم ويداعب فكركم.

   ثم انتهى المعلم من طرح لآلئه التي امتنحنتها خبرة الزمن القاسي، واحتضنتها سماوات الانسانية، معبرا عن حكمة لم تولد الا من رحم المعنى المتسامي الذي يسير نحو الاقتران بالجوهر الالهي ، فكلاهما ينطوي على " معنى كوني ".
   لكنه نظر الى تلاميذه من جديد، وبابتسامة معهودة باتت كشبكة يمكن أن تصيد حزانى القلب في العمق؛ فهي ابتسامة تطلق سراح الذات من خوفها. قائلاً : أتعلمون ما الذي ينقصكم ؟
أجاب التلاميذ : نعم... الكثير .
لكنه حدق به قائلا : بل شيء واحد لا غير .
اندهش التلاميذ قائلين : كيف يمكن هذا.. شيء واحد... ما هو يا ترى ؟
قال المعلم : الثقة .

الثقة

    اعلموا أن زمنكم جعل الثقة تخون نفسها. في السابق، كانت تُمنَح في آخر المطاف بعد خبرات وامتحانات يلقيها الزمن في احضان العلاقة، واليوم توهب في أول المطاف جُزافاً. يا لسخرية الاقدار حين تمسي الثقة رخيصة المعدن، ما فتات تتحول عند البعض اداة لجذب الاخرين.
    قد قيل لكم :" ان الثقة موقف تجاه الاخر" أما انا أقول لكم :" ان منبع ومصب الثقة هو الأنا، وليس الاخر سوى رافد من روافده". إياكم أن تهبوا الاخر ثقة لم تحظوها مع ذواتكم، فانكم كمن يحاول حفظ الماء في الغربال. ولهذا أقول لكم : ثقوا بذواتكم فانه اول الطريق نحو اختبار معنى الثقة حقيقة.
   طوبى لكم إنْ امتلكتم صديقاً يمسي كالروح التي كانت ترفرف على وجه المياه في الخلقة. فهناك البحث عن ارض للارتكاز وتوطيد الوجود في الذات. هكذا في الصديق تجدون مركز ثقل الثقة، لا سيما حين يفهم ما تنطوون عليه من سلبية وايجابية ، فهو  لا يرغب الا ان "يكون" معكم. لمَ لا تثقون ببعضكم البعض إنْ كنتم قد خُلِقتم وفي رحم فكركم جنين الثقة حيث كل القوة الكامنة والغير معروفة في الداخل، تدفعكم نحو التسامي عن حدود اخرويتكم المنغلقة الى ارض الذات المفقودة.
    قد قيل لكم : كونوا واثقين من ذواتكم حتى لو كنتم على خطأ " أما أنا أقول لكم :" أن تعانوا الخطأ خير بألف مرة من القيام به، وأن تكونوا مخدوعين لانكم تثقون اكثر من اللازم خير بالفي مرة من عدم الثقة بأحد".
   لو تأملتم سر الله في الحياة ولمساته العظيمة، وآمنتم وبجوده وفاعليته دون الاعتماد على فاعليتكم بل على مفعوليتكم، وأنه صيّر الكون لتفعيلكم وتفاعلكم، فلن تشعروا بالخوف من المجهول بعد الآن! فقط أعطوا للثقة وجها تخاطب به العالم المتساءل والمتضاءل في شهيقكم وزفيركم، هناك يتم الخلق الجديد حين تنظر الثقة الى كينونتها في مرآة عمقكم؛ فهي ليست سوى عروس الانسانية العذراء. 
    اياكم ان تغدوا صناع كلام، فلن تُمسِ كلماتكم سوى:

 جرس خشبي يصدر صوتاً مكتوما...
أو معبد مهجور لإله حاضر...
أو أمٌ حبلى بطفل ميت...     
لكن حين تشهد كلماتكم اقتران سرّ وجودها العجيب بمصداقية انطلاقها ومرساها المتجوهر في الثقة، فانكم ستهبون الحياة :
لتماثيلكم العميقة التي لا تحتاج الاّ نفخة الثقة كي تُخلَق.
لصوت الجرس المكتوم الذي لن ينقلب الى جرس حديدي بل يبقى خشبياً لكن صوته سيدوي في الداخل.
لهيكل بعد أن هجره الناس وبقى الإله في عزلة، أما الآن الناس حاضرة والإله حاضر، أما الأرواح الشريرة هي التي تعلن هجر الهيكل. ولكن قد يكون مستقرها القادم في محراب الانسانية نفسها.   
لرحم الحبلى التي ستخصب جوفها كي يختبر حياة وافرة بعد موت ماضٍ.
   لا تفرطوا في الثقة بذواتكم، لأنكم ستتحدرون شيئا فشيئا نحو حضيض الفكر الطوباوي عن انفسكم. بل تمسون صدى لألوهة كاذبة تصيرونها بافكار متخفية  تتوجس من حضور سيد الألوهة الأوحد. السبيل الأوحد لدرأ تأليهكم هذا هو اللجوء الى الآخر، قدسوا ما يقدسه في عمقه، فلربما الذي يقدسه ويسجد له يحطم كل أصنامكم بفرادته وقدرته. حينها تختبرون معنى الإهتداء لسيد الإلوهة الأوحد. 
    كونوا واثقين من حدوسكم، فهي ليست سوى تنغيم الكيان مع موجة الطاقة المنبعثة من الروح، تتحسسونها متغلغلة أحشاؤكم حين تضربون صفحاً عن تحسس الخارج. طاقة الروح هي التي ستقودكم الى مجالكم المنسي، الى تساؤل الوجود عن سر صيرورتكم في رحْمِه الخصب، الى الشعور بانكم تنتجون الأفكار كما ينتج الذباب بيضه. فالفكر ألق الوجود ومنافسه في الوقت نفسه. فكيف العيش اذن بدون الحدوس أنْ أمست سر الوجود ؟!
قد قيل لكم :" طوبى لمن يتحدث بالخير عن كل الناس " أما أنا فأقول لكم :" إياكم ان تثقوا بكل من يفعل ذلك، فهو لا يقول الخير للخير نفسه بل انه عرض بطولي لشخصية مهزوزة، يستخدم الآخر كـ" مادة " للظهور. لا ينطوي على موقف واضح تجاه الاخر المختلف لأنه يريد " الوصول ". احذروا كل الحذر منهم، فقد قيل عنهم :" يأتونكم لابسين ثياب الحملان ". حاولوا التمييز بين من يحمل نظرة مشرقة للحياة والاخرين، ويعرض سلبياتهم ويقرنها بسلبيته، ويحاول ايجاد البديل، ثقوا بهذا ، اما من ترونه يتحدث بالخير في خطاب رخيص ، إياكم منه!   
   لا تثقوا بمن يحبونكم بشكل عارم بعد معرفة قليلة، فالمحبة العميقة لا تظهر الى السطح الا بعد السير في طريق الخبرة والمعاناة. انها تصريح عميق بالالتزام الواعي والناضج وليس التعلق المريض بحضور الجسد. فالثقة ليست سوى غروب الحضور الجسدي في شروق الحضور الروحي. فطوبى للقلب الذي يحب في ظلام الجسد؛ فهنا تكمن قمة الثقة والحكمة.
   اياكم ان تأخذوا النصيحة من شخص يعاني الصعوبات،  فمهما بلغت حكمته، فهو لن ينطق الا بكلمات الوهن والصعوبة والمعاناة بل حاولوا أن تجانبوا من يرى الصعوبات خطوة لا بد منها نحو نهل معنى الوجود، أو من يعترف بوجودها لكنه لا يؤمن بتأثيرها المدمِّر.
في كل ثقة هناك درس خفي لا يمكنكم الوقوع عليه الا حين يمتحنكم الزمن في بودقته، وهناك معلم عظيم، أعطاكم الثقة في مواقف وكلمات غنية، لا يمكنكم الوقوع عليه الا حين يهجركم في بُعْد انضاجي، الا وهو الصديق، وهناك فعل مدهش يستدر خلف مونولوجكم الكياني في العلاقة، لا يمكنم الوقوع عليه الا حين ينعكس جذلا بعفوية ودهشة من ذواتكم، الا وهو " الكون محبوباً ". وحين لا تجد هؤلاء مجتمعين لا يمكنك ان تختبر معنى الثقة.   

     نظر المعلم الى السماء وقال:" ثقوا بالعلي الذي يغدقكم ذاته حين تضطجعون في أحضان الثقة كالطفل الصغير الذي لا يرغب الا ان يختبر حضن الفرادة الدافئة؛ حضن الأمومة الخلاق. فما أطيبه حنان اليد الملساء وهي تخضعك لايقاعها المخدر، وعنف اليد الخشنة التي تربت ظهرك بايقاع يكشف لك النقاب عن درب الالام غداً.

    انهى المعلم حديثه، قائلاً :" لقد غابت شمس الأصيل وبات على شمسكم الانبلاج في قلب الظلام؛ فهي تستدر القلوب لا السماوات. فانطلقوا صوب من إظلّمت حياته وباتت نيراً معلقاً على رقبته. وهبوا لنجدة ذواتكم حين تعلن في لجة كسلها مزاوجة ظل الظلام. اسهروا وابقوا مصابيحكم مشتعلة ..               



غير متصل نادين

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 88
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: حكمة
« رد #1 في: 06:51 15/11/2005 »
لا املك اي تعليق على حكمة بل حكم؟؟ كلمات نثرتها على هذه الصفحة ففاقت

 الذهب بغناها وجمال معناها سلمت يدك على كل ما كتبت لانك وبكل اتقان في

الطرح وفي التعبير والشرح... للقلوب المعاني اوصلت

بانتظار المزيد من هذا التواصل الغني عن الوصف مع تحياتي

نادين_امريكا