تنين العزلة الباكية
بألم سأودع الحياة، وباجنحة الموت البيضاء سأطير، محلقا في سماء الحرية اللامدركَة ، وبدمعة ساحفر ذكرى وجودي في تاريخ الموت الصامت. وددت أن أسخر من بقائي؛ فأنا فريسة تجمعت حولها نسور كوّرها الجوع، وباتت تشبه الانسان حين يطرق ابواب الذات النائمة. نسور تمزق اشلائي بمناقير قدستها أزمنة التضور، تدعوني للقيامة حتى اختبر بصمت عذاب الجسد وهو يُمزَق.
هلموا لنجدتي، يا معشر حكماء العصر. انها ليست نسور بل اشعة شمس التنين الهائل، انه يلاحقني في وحدتي، يذيب وجودي كذوبان الحديد في سعير النار، يمتص رحيق نشوى الحياة من قلبي كامتصاص الارض القاحلة لرذاذ المطر. لا أقوى على المخاتلة. أنه يقترب ويبتعد في لحظة تُسرمِد التاريخ كلعبة في ايدي الكلاب؛ يقدس وحدتي ويمرغني بترابها. يوهمني بسعادة منخورة الاساس. لم يكن بوسعي الا أن اجرب خطط المناورات، وأطرق أبواب مُنظرّي الاوهام، ولكن بلا جدوى !!
التمست معونة سادة العصر والزمان، وليس من مفر، فهو قابع في ركن الحياة، يتربص انهيار صرح صيرورتي بعيون شاخت من النظر، كعيون التمساح. لم أتق يوماً الا للحظة فرح، وكأنها لحظة سبرت اغوار اللاوجود، وأمست حلماً لا تطأه سوى الافكار، يفوح بعبير أموات الاساطير، وابطال الشعوب المقهورة... شرعت أصلي صلاة الخطر، تلك التي علقت في ذهني كما يعلق الطفل في احشاء المقر. طلبت الانقاذ واحسست بصغري أمام ذاك الذي يسمع. شرعت انادي:" يا من أخاف عليه من نجاستي، يا من أدعوه ليصلب من جديد، لا تجبني، فانا لا استحق!
اطرق ابوابك في الخطر، وانت تطرق بابي كل لحظة تمر. ولكن ما العمل، فالتنين يقطن تلافيف مسمعي ليهمس في اذني أغنية العبودية، يستوطن ملكَة بصري مُلاشيا ملامحك ويرسم بدلا عنها بالوان زاهية ملامح الوهته، ما فتأت تخدش قلب البصر. انك أسد يزأر، صوته يهز كيانات اثخنتها جراح الاغتراب، لكن نار التنين تحرق وتُلاشي. يا ملك السموات، أنا جيش كامل، قسمه التنين الى ارتال. وبات كل رتل يحارب في جبهة الاستقلال. فكيف يمكن أن تزاوج الارواح المترامية في كيان واحد. بل كيف تبلج النهار في قلب الليل الحالك، وتعلن اتحادا بلا انفصال. أنا ضعيف، وسابقى حتى بزوغ شمس الاصيل، شمسك الخافتة الضوء ، الصامتة الحضور، العظيمة الحرارة، لا تدفأ الجسد بل الذات، وتخزن دفأها في ذاكرة صامتة ... ولكن اين صوتك يا ملك السموات، لماذا انا الوحيد الذي يتكلم .أسمعني صوتك يا رب .. يا رب .. أين أنت !!".
أيتها الوحدة فارقيني، فانك منصة يتمسرح عليها سيد الاقدار، هروبي مواجهة، بقائي فرار ، فهل من قرار ؟ مللت اللحن الحزين، حين تتناغم حشرجة الفراغ مع صوت الكرب، صوت الحروب مع صوت السلام الممسوخ، والفى نباح التاريخ اهزوجة تعظم انجراحاته، وتمجد محاسن مزيفيه.. أين أنت ايها الفرح، أرني وجهك، لم تحملك سوى كلمات ينطق بها حكماء جِهال، كلمات تسبح في الاوحال، بلا واقع، بل على رمال.. كلها لحظات منفردة تصدر نغماً متوحدا، كانغام الكمان حين يبكي في عزلة باكية:" أين أنت يا رب ، أين أنت" !!
قد قيل : " حين تحب لا تقل:" ان الله في قلبي"، بل قل :" أنا في قلب الله". ولكن يا معشر الحكماء، انكم تنطقون بما تجهلون، هل يسمح التنين أن تعبدوا الها آخر سواه، هل يسمح بشريك يعتلي عرشه، ويسرق مقتنياته بمرأى منه. انكم صنّاع كلام، تتراوحون من رحم الى رحم، تبحثون عمن يغذيكم، ويكسيكم. فمنذ أن قذفتكم أرحام امهاتكم في رحم الارض الكبير وانتم تلعنون يوم ولادتكم، ولم تعرفوا معنى الشبع قط. تبغون عبادة الله، وانتم تسجدون للتنين في غلسة الليل، تقدمون له قرابينا باهضة الثمن ليست كمثل قرابينكم لله.
سمعتم أنه قد قيل:" اذا اردت أن تصلي، ادخل غرفتك واغلق الباب وابوك السماوي في الخفية هو الذي يراك". نعم، نغلق الباب، ولكن ليس هناك الله بل تنين يحتضن اللحظة، يستر العيوب، يُلبس الوجوه البراقة، يُنشي الذات بخمر المحاسن. هكذا نحن البشر:
• نمجد البطولة ونوهم البطل انه فرادة العصر والزمان، وانه سيد الاكوان، حتى يختنق بكبرياءه ويموت بنرجسيته، وفي النهاية نكتب على قبره ( هنا يرقد انسان عظيم، قدّس أفكار مجتمع اعظم).
• نبني في سنين ونهدم في لحظات.
• نبرر عيوب من نهوى، وندين محاسن من لا نهوى.
• نبجل من لا يكترث لنا، ونتجاهل من يحرق نفسه لينير دربنا.
• نقدس الحلول الجاهزة والكليشهات، ونُسكِت كل محاولة للخروج من المألوف.
• نتظاهر بالتواضع، ونحن في الداخل نَئِد الايام التي لم تُجلِ اسماءنا كعظماء قد غيروا عجلة الزمن.
• نعشق المفاهيم ونحترفها لنُسكت أفواه الواقع المتساْءلة.
مساكين نحن البشر، نعاني، ونحن في قلب الجماعة، العزلة الباكية، فالتنين حقن دماءه في اجسادنا الفكرية، لتنتشر كسرطان هاديء: يُُتلف خلايا الفكر وهي تحتضن الله، في مجد شرع بالأفول أمام لاهوت التنين المؤنسَن، تتلف خلايا القلب، وهي تقلب مغارة الطفل المتسخة بفضلات الحيوانات الى قصر يليق بطفل التنين.
هل عرفتم من هو التنين؟
سؤال يطرح نفسه، ويحتاج الى تجسيد ..
أنه الــ( أنا ).. فطوبى لمن يعرف من يعبد !