المحرر موضوع: اديرة عبر التاريخ ( دير الجاثليق )  (زيارة 3335 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل ashor_albazi

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 55
    • مشاهدة الملف الشخصي
دير الجاثليق أو دير كليليشوع

الراهب اشور ياقو البازي
[b]المقدمة [/b]
تختلف الديارات باختلاف مواضعها، فمنها ما تسنَّم قمم الجبال، أو ما توّسد ضفاف الانهار، ومنها ما اقترب من المدن والأرياف، أو ما انفرد في البراري والقفار. وكان الرهبان في بغداد يختارون المواقع الجميلة قرب الانهار لبناء أديرتهم، ويزرعون الاشجار المثمرة في بساتينهم التي أطنب الادباء والشعراء في وصفها، حتى ان الناس كانوا يهرعون إلى تلك الاماكن في مختلف المناسبات للترويح عن النفس. كانت هناك أديرة كثيرة منتشرة على جانبي نهر دجلة، وفي مختلف الجهات وفي مواقع جميلة وقريبة عادة من ضفاف النهر الخالد، أو ضفاف الانهر المتعددة التي كانت تخترق مدينة بغداد، وكان الرهبان بعملهم وجدهم يزيدون على جمال الطبيعة جمالاً، وبقيت تلك الاديار ردحاً طويلاً من الزمن، وازدهرت في العهد العباسي، ثم افل نجمها تدريجياً بعد الغزو المغولي حتى زالت من الوجود وانقطعت اخبارها. ومن هذه الاديرة دير الجاثليق أو دير كليليشوع.

دير الجاثليق  أو دير كليليشوع

في عهد الساسانيين بنى المسيحيون دير كليليشوع في الجانب الغربي من بغداد الحالية، ثم شادوا حوله الدور والقصور حتى صارت على تمادي الاعوام محلة سميت باسم الدير، وقد أدخل الخليفة ابو جعفر المنصور مباني هذه المحلة في بناء مدينة السلام . يقع هذا الدير عند باب الحديد  قرب دير الثعالب  في وسط العمارة بغربي بغداد أما موقعه اليوم فيقرب من مقبرة الشيخ معروف الكرخي.
كان دير الجاثليق (كليليشوع) دير كبير حسن نزه تحدق به البساتين والاشجار والرياحين وهو يوازي دير الثعالب في النـزهة والطيب وعمارة الموضع لانهما في بقعة واحدة، وهو مقصود مطروق لا يخلو من المتنزهين والقاصدين له، وفيه رهبانه وفتيانه وعماراته الواسعة وساحاته الرحبة، وقد عرف أيضاً بالدير الكبير.
 كان دير كليليشوع في أول أمره كنيسة مع أبنية متواضعة ملحقة بها، فلما علا شأن بغداد، وبدأ الجثالقة يترددون عليها لقضاء أشغالهم في دواوين الدولة فيمكثون فيها بعض الوقت ثم يعودون إلى مقرهم في المدائن، واثناء مكوثهم في بغداد كانوا يحلون في احدى الكنائس العديدة الموجودة فيها، أو في أحد الاديرة، وكان مار طيمثاوس الأول مقيماً في قطيعة ام جعفر، ثم اختار هذا المكان ليسكن فيه، فهو في الجانب الغربي، أي حيث قامت المدينة المدورة، وموقعه حسن، وأرضه واسعة، فمار طيمثاوس بنى قسماً مستقلاً عن الكنيسة الاصلية يليق بسكناه مع حاشيته . وكان هذا الدير ذا مكانة خاصة بين ديارات بغداد، بدليل ان ثمانية من الاباء الجثالقة لكنيسة المشرق دفنوا فيه  ولو هناك شك بالنسبة إلى مار ابراهيم إذ من المحتمل انه دفن في دير يزدفنة في الحيرة على قول صليبا. وقد عاش هؤلاء الآباء في المائة التاسعة للميلاد، وهذا يعني ان دير كليليشوع بلغ اوج مجده في هذه الفترة من الزمن، لانه حيث يحل الجاثليق، وهو رئيس كنيسته الاعلى، يزدهر ذلك المكان بالمؤلفين والمعلمين وغيرهم.
كان لدير كليليشوع مدرسة تقدمت تقدماً مطرداً وسارت في سبيل النجاح ولا سيما في أيام الجاثليق سبريشوع الثاني إذ ذاع في سنة 835م بيانين حرض بهما ابناء طائفته وعلى الاخص الرهبان على الجد في الدرس ومطالعة الكتب والمحافظة على العلوم الكنسية، وكان يتعلم في هذه المدرسة الرهبان ومن كان ينهي دروسه في مكاتب الكنائس ليتقلدوا منصباً دينياً، أو ليختصوا في القضايا اللاهوتية لان لتلاميذها حقاً ونفوذاً في انتخاب الجثالقة والقيام بالاحتفالات العائدة لهم. ولسوء الطالع لم تصل إلينا اسماء من نبغ في صفوف هذا المعهد الكهنوتي.
وقد ورد ذكر دير الجاثليق في قصيدة للشاعر محمد بن ابي امية الكاتب 

تذكرت ديــر الجاثــليق وفتيةً
بهم طابت الدنيا وتم ســـرورها
ألا ربّ يوم قـد نعمــت بظله
أغازل فيه أدعــج الطرف أهيفا
فسقياً لأيام مضـــت لي بقربهم
وتعساً لأيام رمتـــني ببينهم
      بهم تمَّ لي السـرور وأسعــــــفا
وسالمني صــرف الزمان وأنصـــفا
أبادر من لذات عـيشي ما صــــفا
وأُسقى به مسكيــة الطعم  قرقــفا 
لقد أوسعتني رأفــةً وتعطـــــفا
ودهرٍ تقاضاني الذي كــان أسلـــفا

اصابت دير الجاثليق (كليليشوع) نكبات كثيرة ومحن عديدة، فقد هدمه العامة مرتين في أيام الجاثليق يوحنا  بن نرسي 884-892م، ونهبوا كل ما فيه فنقل كرسيه إلى دير واسط ، وبعد خمس سنوات رجع إلى بغداد الشرقية وسكن دار الروم. أي ان الجاثليق يوحنا بن نرسي فضل الابتعاد عن مركزه في بغداد إلى واسط وبقى هناك نحو خمس سنوات ويظهر ان الامور كانت في تدهور والقلاقل في ازدياد في المنطقة التي كان يقوم عليها دير كليليشوع فلم يطق الجاثليق العيش هناك، وعلى قول المؤرخ ماري: (لم يطب نفساً بالمقام فيه، وسكن دار الروم في كنيسة اصبغ العبادي). أي انتقل من الجانب الغربي بؤرة الفتن المحلية إلى الجانب الاخر من المدينة. قال ماري بن سليمان: (هدم دير الجاثليق دفعتين في أيام الجاثليق يوحنا بن نرسي واتصلت الفتن وبني دفعتين وهدم)  وحكى الطبري في حوادث سنة (271 هجرية = 884م): (وفيها خربت العامة دير كليليشوع الذي وراء نهر عيسى ونهبوا كل ما كان له من متاع وقلعوا الابواب وغير ذلك وهدموا بعض حيطانه وسقوفه، فصار إليهم الحسين بن اسماعيل صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن ظاهر يمنعهم من هدم ما بقي فيه، وكان تردد إليه أياماً هو والعامة حتى كاد يكون بين اصحاب السلطان وبينهم قتال. ثم بنى ما كانت العامة هدمته بعد ايام وكانت اعادة بنائه فيما ذكر بقوة عبدون بن مخلد اخي صاعد بن مخلد) .
نقرأ عند ابن العبري خبراً: (هو ان شيخاً عربياً، كان مؤذن المسجد القريب من دير كليليشوع -ولم يذكر اسمه مع الاسف- اعتاد ان يمر على القلاية فينال معونة أو صدقة على عهد آنوش، ولكن بعد تسنم يوحنا بن نرسي الرئاسة منع هذه الصلة كي لا يعتاد الشيخ على المطالبة بها. فلما جاء على جاري عادته ارسلوه فارغ اليدين فغضب واتفق مع بعض جماعته على الانتقام. وفي احد الايام، اذ كان الناس يشيعون ميتاً واذ دنوا من الدير سقط حجر على التابوت فادعى احدهم ان الحجر القي من الدير فهاج الناس وماجوا، وبعد ان دفنوا الميت هجموا على الدير) .
ان المؤرخ ايليا برشينايا  أخذ هذا النص وادخله في تاريخه ذاكراً صراحة مصدره وهو الطبري ومؤكداً ان الحادث يخص دير كليليشوع، اذ يقول: (في يوم الجمعة 18 حزيران عام 885م. فيها افتنوا اهل بغداد وضجوا على النصارى لاجل ركوبهم الخيل، ومضوا إلى دير كليليشوع ونهبوا جميع ما كان فيه وأخذوا اواني الذهب والفضة الذي كان فيه)  في هذين النصين نجد تفسيرين لاسباب الحوادث المؤسفة التي جرت على هذا الدير العريق: 1- ايليا برشينايا يعزيها إلى ركوب المسيحيين الخيل، وهو ما كان ممنوعاً عليهم، ومحصوراً بالمسلمين، فبتجاوزهم اثاروا الضغينة ثم الفتنة. 2- أما ابن العبري، فاذ يسرد قصة الشيخ المؤذن الذي كان يتردد على الدير، حيث الجاثليق طالباً المعونة، ويلخص سبب الفتنة بقوله ان بخل الجاثليق يوحنا بن نرسي . بعد انتقال الجاثليق يوحنا بن نرسي إلى الجانب الاخر من نهر دجلة وحلوله في دار الروم، لم يهمل دير كليليشوع بل جرى ترميمه المرة تلو الاخرى، واحتفظ بمكاننه وكرامته بين ديارات بغداد العريقة اذ ان الجثالقة كانوا يزورونه الزيارة الرسمية بعد انتخابهم، فإن مار يوحنا الثالث  893- 899م ذهب إليه لكنه لم يسكن فيه. ويفهم من نص المؤرخ ماري ان يوحنا بن عيسى  (900-905م) انتخب في هذا الدير اذ يقول: (واتوا على الجاثليق... وعمل الرازين ...)
ان دير كليليشوع كان عامراً في عهد الجاثليق سبريشوع الرابع  ابن المسيحي المتوفي سنة 1256م. إذ قُرأ يوم وفاته القريان  الأول قسيس دير كليليشوع وذكر المؤرخ صليوا القرن الرابع عشر للميلاد في ترجمة الجاثليق المذكور ان في بغداد بيعة سوق الثلاثاء  وبيعة درب القراطيس  وبيعة دير كليليشوع. وبقي هذا الدير قائماً إلى أيام صفي الدين بن عبد الحق المتوفي سنة (739 هجرية = 1339 ميلادية، وقد ذكره في كتابه مراصد الاطلاع، أما بعد هذا التاريخ فلا نعرف عن هذا الدير شيئاً فقد زالت اثاره عن الانظار في اواخر القرن الرابع عشر للميلاد.
الخاتمة
كان دير الجاثليق (كليليشوع) عامراً آهلاً برهبانه خلال الحقبة الممتدة بين سنة 823 – 1256م وهي مدة تبلغ 433سنة ومن الواضح ان سنة 823م لم تكن سنة تأسيس هذا الدير، بل سنة تجديد عمارته، وما من شك في انه مرّت عليه مئات السنين كان فيها قائماً الى أن آل أمره إلى الخراب، ثم لا ندري كم كانت المدة بين خرابه الأول وتجديده، فالمراجع بيدنا لا تشير إلى ذلك. وإذا علمنا ان الدير كان لا يزال قائماً في زمن ابن عبد الحق صاحب كتاب المراصد (المتوفى سنة 479 هجرية = 1338م) أدركنا ان هذا الدير ظل عامراً بعد تجديده مدة تربو على خمسمائة وثلاثين سنة في أقل تقدير، أعني طوال حياة الدولة العباسية ومن بعدها بمائة عام ، وقد زالت آثاره عن الانظار في اواخر القرن الرابع عشر للميلاد .