المحرر موضوع: اللغة السريانية وأسباب نشوء لهجاتها  (زيارة 2682 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل ابن النهرين

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 142
    • مشاهدة الملف الشخصي


بقلم جميل حننا
من المعروف لدى المؤرخين ودارسي التاريخ أن اللغة السريانية هي اللغة الوحيدة في بلاد الرافدين التي ازدهرت ودامت أكثر من ألفي عام لغة العالم القديم مشرقاً ومغرباً، ويمكن مقارنتها باللغة الإنكليزية في عصرنا الحالي التي أصبحت لغة العلم والطب والاتصالات والتواصل الحضاري على امتداد العالم، ويعود سبب الانتشار الواسع للغة السريانية قديماً لعدة عوامل من أبرزها قوة وعظمة ورقي الإمبراطورية الآشورية وامتداد حدودها ونفوذها إلى الجهات الأربع في الشرق الأدنى القديم، وأيضاً غزارة إبداعاتها وابتكاراتها في شتى ميادين العلوم والفنون والتشريعات القانونية، وكونها لغة التجارة والمبادلات والمراسلات والعلاقات الاقتصادية والعسكرية بين الشرق الأقصى والغرب الأوربي، فقد كانت بلاد ما بين النهرين صلة الوصل والحلقة الأهم على الخط التجاري بين الهند والصين وبين أوربا وإفريقية وقد ساهمت قوة الآشوريين وجبروتهم وغنى علومهم وفلسفتهم وريادتهم المدنية في نشر لغتهم وتراثهم الحضاري وإرثهم التاريخي إلى بقاع الدنيا.

لقد أخذت اللغة السريانية تسميات متعددة عبر المراحل التاريخية المتعاقبة التي مرت بها الحضارة الآشورية وذلك تبعاً للمجموعة التي كانت تتولى السلطة من أبناء الأمة الواحدة فكانت في عهد الدولة البابلية تدعى اللغة البابلية وفي عهد الدولة الكلدانية تدعى اللغة الكلدانية وكذلك الآرامية والآشورية وجاء قبلهم السومرية والآكادية ومن يدرس هذه اللغات يلاحظ التشابه والتماثل  في نوعية ونمط الأحرف والخطوط والكتابة ويلاحظ التطور الذي حصل على اللغة عبر الحضارات المتعاقبة ورغم اختلاف تسمية الدولة والحكم واللغة نفسها فإن جوهرها بقي نفسه ومفرداتها هي ذاتها ويمكن تشبيه ذلك بمثال معاصر هو تركيا التي كانت دولة عثمانية ولغتها عثمانية بأحرف عربية وبعد قيام الدولة التركية تم تغيير التسمية إلى لغة تركية وقام مؤسسها كمال أتاتورك بتغيير الأحرف إلى اللاتينية ولكن ذلك لم يغير في جوهر اللغة ولا في انتماء الشعب فاللغة هي نفسها ولم يتعلم الشعب العثماني لغة جديدة بل تغيرت تسمية اللغة القديمة ونوعية أحرفها فقط.

فاللغات الحية تبقى حية بوجود الشعوب والأفراد الذين ينطقون ويتحادثون ويكتبون ويتعلمون بهذه اللغات، فالإنسان هو الذي يستطيع إحياء اللغة وجعلها معبرة عن ذاته وماضيه وحاضره ومستقبله وهو الذي بإهماله وتجاهله وإنكاره يستطيع جعل اللغة تموت وتنقرض.

إن ظاهرة تغيير تسمية اللغة بتغير السلالة أو الأسرة الحاكمة أو اسم الدولة كانت ظاهرة موجودة في العصور القديمة قبل ميلاد السيد المسيح ولا نلحظها في العصر الحديث هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن فترات حكم الأسر والعائلات الملكية أو السلالات الإمبراطورية كانت تستمر لقرون طويلة. فقد استمرت الإمبراطورية الآشورية أكثر من ألف عام بمراحلها الثلاث القديمة والوسطى والحديثة وأيضاً استمرت الدولة البابلية والكلدانية فترات طويلة ولا نجد في العصور الحديثة أي دولة استمرت بشكل متواصل قترة ألف عام قوية منيعة بدون أن تخضع للاحتلال والسيطرة الأجنبية بالإضافة إلى أن هذه الفترات الطويلة من الحكم كان لها تأثيرات زمنية على البشر واللغة التي ينطقون بها.

من هنا يمكننا القول أن اللغة السريانية أو الآشورية الحديثة أخذت تسميات متعددة ولكنها تسميات لأمة واحدة وشعب واحد عاش على أرض واحدة أيضاً، والاختلافات البسيطة بين السين والشين هي اختلافات سطحية ومعروفة الأسباب تاريخياً ولا تغير من حقيقة كون اللغة واحدة ذات أساس ومرجعية تاريخية ثابتة أما اللهجات الموجودة في الواقع فهي نتيجة طبيعية للعزلة التاريخية والانقسامات الدينية التي رسخت الشرخ الطائفي بين أبناء الأمة الواحدة، واللهجات بشكل عام موجودة في معظم اللغات الحية وفي جميع أصقاع الأرض ولا تخلو لغة من لهجات عامية تختلف من بلد لآخر ويصل الاختلاف أحياناً إلى حد تعذر فهم لغة الشخص الآخر من نفس القومية كما هو الحال في اللغة العربية حيث نجد صعوبة بالغة في فهم اللهجة العربية للجزائري أو المغربي أو الموريتاني أو الصومالي.

الناحية الأخرى التي يجب الإشارة إليها هي أن اللغات تمازجت واختلطت وتأثرت ببعضها البعض. وهكذا نجد كلمات كثيرة في اللغة العربية منحولة أو مقتبسة من اللغة الآشورية القديمة أو السريانية وأيضاً هناك كلمات مقتبسة من الإنكليزية والفارسية والهندية والتركية وبدورها هذه اللغات المعاصرة تحوي كلمات مأخوذة من العربية، فالعلاقات الحضارية بين شعوب المنطقة أدت حتماً إلى تبادل وتداول بعض مفردات التعبير واللغة، وهذه نتيجة طبيعية لعلاقات الجوار بكل ما فيها من تآخي وتكامل حضاري من ناحية، وتنافر ومواجهة من ناحية أخرى. فقد عبرت اللغة عن التفاعل الحضاري الإنساني وتطورت بتطور الحضارة ولم تكن منزلة من السماء بل هي صنيعة الإنسان تسمو بسموه ورقيه.

لقد تمتعت اللغة السريانية بأهمية ومكانة رفيعة حتى بعد انهيار الإمبراطورية الآشورية وسقوط نينوى عام 612 ق.م. وكان الفضل للعلماء السريان إبان عصر الحضارة العربية العباسية في نقل العلوم والمعارف من السريانية إلى العربية وأيضاً من اليونانية إلى العربية والتي كان الإغريق هم أنفسهم قد نقلوها من كنوز المعارف السريانية التي ملأت مكتبات آشور بانيبال وغيره من الملوك الآشوريين الخالدين.

لقد أغنت الحضارة الآشورية بثرائها الفكري والعلمي والقانوني والفني والفلسفي والطبي والعسكري والمدني حضارتنا المعاصرة وما زالت ريادتها المبكرة للإنسانية في مختلف المجالات مصدر بحث وتنقيب ودراسة لكثير من البعثات الأثرية والباحثين التاريخيين في أكثر من جامعة ومعهد عالمي في العديد من دول العالم.

لقد حان الوقت لنعيد للغة السريانية (الآشورية المعاصرة) ألقها وأمجادها الغابرة وعلى حكومات دول المنطقة أن ترتقي بوعيها وإدراكها وبعد نظرها إلى المستوى الذي يجعلها تعيد الاعتبار والمكانة اللائقة لهذه اللغة العريقة التي كان لها وما زال الفضل الكبير في تشكيل الوعي والذاكرة القومية لشعوب المنطقة.

إنه من الضروري أن يتم إيلاء اللغة السريانية الأهمية الكبيرة وتشجيع أبناء الشعب الآشوري وأحفاد الحضارات العريقة في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام على إحياء لغتهم وتراثهم وتقاليدهم لأنه إرث حضاري فريد. بدأ المستشرقون ودارسو التاريخ والمؤرخون في بلاد الغرب بدراسته بشكل مستفيض منذ عقود طويلة وأسست له المعاهد والكليات والأقسام الخاصة في الجامعات تحت تسمية علم الآشوريات  Assyriology الذي ما زلنا في بلادنا نجهل الكثير عن هذا العلم وعن الحضارات العظيمة التي خلقت وأوجدت هذه اللغة من المخزون الحضاري الرائد.

إن شعوب بلاد الشام تمتعت على الدوام بأبعاد حضارية وإنسانية سامية لأنهم أحفاد حضارات عريقة قدمت للعالم الأبجديات الأولى والاختراعات والابتكارات الرائدة في تاريخ البشرية في شتى ميادين العلم والمعرفة، والحضارة العربية استفادت وانتفعت بشكل كبير من آلاف المخطوطات والمؤلفات المكتوبة باللغة السريانية ومن الواجب والمفروض وكعرفان بالجميل دعم هذه اللغة وتدريسها ومنح أبنائها الحرية في تعلمها وصياغة المناهج التعليمية الخاصة بتعليم اللغة ونشر الكتب والمجلات، وقد بُدء بهذه التجربة في شمال العراق حيث يتم التدريس في بعض المدارس لهذه اللغة ولو بشكل محدد مما يشكل خطوة رائدة في هذا المجال.

إن الأمثلة كثيرة على دول العالم التي احترمت التعدد الثقافي والحضاري لشعوبها والطابع القومي واللغوي المميز للأقليات المتواجدة على أراضيها ووفرت لها الإمكانات والوسائل للتعبير عن خصوصيتها وتفردها، فالغنى الحضاري والتراثي والقومي لبلد من البلدان هو الذي يعطيه الأهمية والمكانة والتميز على الساحة العالمية والدولية. وليس من المستحيل على دول المنطقة أن تحذو حذو دول أخرى من العالم كالهند التي فيها المئات من القوميات والطوائف والأقليات التي تمارس شعائرها وتقاليدها ولغاتها بشكل حر أو كإيران التي اعترفت بفضل الآشوريين على لسان رئيسها وسمحت للشعب بتعلم لغته وطبقت سياسة التسامح الديني وكالعديد من الدول الغربية والأسيوية التي فيها أكثر من لغة رسمية واحدة للدولة.

إنه لمن المثير للسخرية أن يتم تدريس الكثير من لغات العالم في المعاهد والجامعات والمراكز البحثية والمدارس الملحقة بالسفارات في دول منطقة الشرق الأوسط ويتم في نفس الوقت تجاهل أو عدم إعطاء أهمية لتدريس اللغة السريانية في مهدها وموطنها بينما يتم العكس في جامعات العالم المتقدم في الغرب حيث تحظى اللغة السريانية و اللغات الشرقية القديمة بأهمية خاصة ويتم تعلمها في المعاهد والمراكز العلمية وتقدم الأبحاث والأطروحات الجامعية في مواضيع تتعلق باللغة السريانية.

إن الدعوة إلى إحياء وتشجيع تعلم اللغة السريانية لا تنبع من تعصب قومي أو فكري بل تنطلق من أهمية هذه اللغة ودورها الكبير عبر التاريخ ومساهمات أبنائها والناطقين بها عبر التاريخ العربي والإسلامي.

إن الخير ممكن دائماً عندما يحتكم الإنسان إلى لغة العقل والاحترام المتبادل والتفاهم بين الشعوب والقوميات والأمم وهذا ما تؤكده الكتب السماوية وما نصت عليه مواثيق ودساتير الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة.

إن الشعب الآشوري هو قومية خالدة كان له دولة استمرت أكثر من ألف عام، وكان له الفضل على الحضارة العربية والحضارة الغربية من خلال آلاف المجلدات والمخطوطات التي نُقلت خلال الغزوات والاحتلالات المتتالية لبلاد الرافدين والشام هذا فضلاً عن الكم الكبير من الآثار والمنحوتات والرقم والشواهد التاريخية التي تم الكشف عنها ونُقلت إلى المتاحف الأوربية عدا عن آلاف الكتب التي أحرقت وأتلفت وألقيت في نهر دجلة خلال غزوات التتار والمغول وحرق آلاف الكتب في بعض الأماكن المقدسة في المنطقة نتيجة جهل وتخلف بعض رجال الدين وخشية البعض من إمكانية مطالبة الآشوريين باسترجاع حقوقهم فقاموا بحرق الكتب وكل ما وصلت إليه أيديهم من دلائل وإثباتات وبراهين مكتوبة، والخلاصة أنه ارتكبت جرائم لا تغتفر بحق التاريخ والإنسانية خلال هذه الحقب المظلمة.

في الواقع لقد تراجع وانحسر تعلم وتداول اللغة السريانية إلى بعض الأديرة والمراكز الدينية المسيحية في دول المنطقة نتيجة الاضطهاد والظلم والضغوط السياسية خلال الحقب التاريخية المتتالية وخصوصاً خلال الاحتلال العثماني وما تلاه، وهناك عوامل متعددة أدت إلى ضعف انتشار وتعلم الجيل الجديد للغته الأم منها تواجد الشعب الآشوري في مناطق متفرقة ومتباعدة في موطنه الأصلي وفي المهجر. وثانياً لتداول وانتقال اللغة من الآباء إلى الأبناء بشكل شفوي بدون تعلم الكتابة والقراءة، وثالثاً لعدم وجود من يتولى مهمة تعليم الأجيال الجديدة اللغة قراءة وكتابة على نطاق واسع، ورابعاً لقلة اهتمام الكنيسة ممثلة برجال الدين لتعليم اللغة إلى لأبناء الشعب بالرغم من امتلاكها الإمكانات الكافية ولكنها لا تقوم بهذا إلا على نطاق ضيق وللكهنة وأتباع الكنيسة.

وقد بدأت المؤسسات والأحزاب والحركات السياسية والثقافية والقومية الآشورية بالاهتمام بتعليم اللغة ضمن إمكانياتها المتواضعة والتي تحتاج إلى دعم ومساندة من كل الجهات، فالحاجة ماسة لوجود مدارس سريانية ذات مناهج واضحة تؤدي إلى توحيد اللغة لأن عدم وجود هذه المدارس وتعليم اللغة على أصولها يؤدي إلى ترسيخ اللهجات وتعميق الانقسامات اللغوية والطائفية، ففي كل لغة من لغات العالم الحية توجد لغة فصحى وتوجد لهجات عامية محكية ومهما اختلفت اللهجات بحسب المناطق والبلدان فإن المرجعية تكون للفصحى الأساس، ومهما دخلت الشوائب والكلمات الغريبة على اللهجات المحكية فإن الفصحى هي الحصن المنيع والمرجع الأخير لكل الطوائف من أبناء الشعب الواحد.

لقد جرت في الماضي محاولات لمحاربة اللغة السريانية في السر وفي العلن لغايات مكشوفة ومخفية ولكن هذه الحملات والمحاولات لم تنجح في منع أبناء الشعب الآشوري من تعلم لغة أجدادهم وحضارتهم ولم تستطع صهرهم في بوتقة القوميات الأخرى، ونرجو أن تسود الحكمة والتعقل وبعد النظر والسياسة الرشيدة لحكومات المنطقة في تعاملها مع الأقليات القومية  وضمان حقوقها في تعلم لغتها والحفاظ على تراثها وفولكلورها وتاريخها العريق.
لقد تغير العالم في العقدين الماضيين بشكل كبير وتغيرت سياسات دول وحكومات رأساً على عقب وأخذ النظام العالمي الجديد يفرض وجوده وبدأت العولمة تكتسح الحدود الجغرافية للدول وتطال أكثر الأنظمة عزلة وبعداً عن الحضارة والتطور والتيارات المعاصرة وسوف يكون من الصعب على بلد من البلدان أن يقف في وجه المدنية والحضارة وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات من دون أن يخسر الكثير من هيبته واحترام العالم المتمدن له.

إن الإيمان بالله والحق يقود إلى الإيمان بحرية الإنسان وكرامته وحقه في تحقيق ذاته عبر السماح له بتعلم وممارسة لغته والقيام بشعائره والتمتع بتراثه وتقاليده والافتخار بتاريخه. إن الله يحب الجميع دون تفريق أو تمييز بين عرق ولون وقومية وهكذا يجب على البشر أن يقتدوا بالله بأن يكونوا متساوين لتتحقق العدالة والكرامة.


--------------------------------------------------------------------------------

المصادر:
1 ـ تاريخ الشرق القديم واليونان، أندريه داغر.
2 ـ من نحـن، بيرا سرمس.
3 ـ الوضعية المنطقية، برتراند راسل.
4 ـ خزائن الكتب، حبيب الزيات.