المحرر موضوع: طموح نحو العمق  (زيارة 1976 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل صميم

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 226
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
طموح نحو العمق
« في: 02:20 13/02/2006 »
                                               طموح نحو العمق

                                                                                                             بقلم  : صميم

    وحالما انتهى المعلم من حديثه، نظر الى أحد تلاميذه، وقد كان شارد الذهن، عيونه تتراقص اندهاشاً امام سير اللحظة وكأنه أما حلبة التاريخ المجتر، بل ما فتات نظرته تقدس النار التي  تذيب الحاضر في الوهة المستقبل، وترذل بلا بد الماضي بحجارة الرجعية والتخلف. قام المعلم بهمة وقصد الذهاب نحوه مباشرة، فقد أحسّه كمن علق في شباك لذة الرغبة وانخطاف الـ" آن"، ربت على ظهره بحركة اردت التلميذ ارض الواقع بعد ان كان طائرا في سماء الاحلام الملونة التي لا عد لها ولا احصاء.
 قال له : لربما ستسأل في قرارة نفسك أني سأسلك بماذا تفكر ؟
أجاب التلميذ : نعم، صدقت ايها المعلم.
ثم ابتسم المعلم قائلاً : بل سأسلك: ما الشيء الذي لم تفكر به ؟
فرد التلميذ وكأنه قد تلقى إهانة من المعلم : لكن يا معلم، أنا شاب طموح ؟
أجاب المعلم : 
قد قيل لك :" حاول أن تتحدى كي تكون وتصير في المساقبل"، ولكن الا ترى هنا احتقارا للحاضر،  ولهذا أقول لك:" عليك باحترام نموك في الحاضر، كي تكون في المستقبل، فاحترام النمو يقوم على تقديس الخطأ ( الماضي)، وهذا ما يقود الى تعلم الكون انساناً ( الحاضر والمستقبل).   
ثم نظر للجمع قائلاً:
إنْ لجأتم لله لطلب المعونة فحسب فلن ترونه ولن تتلقونها، فهو يتملص من كل خطاب نفعية أو طموح يعتمل مرجل أفكاركم ورغباتكم. بل اعهدوا لله ارواء ارضكم العطشى وذر بذار انقلاب الذاخل، ولكن أنتم من تثورون، من تسعون، من تتغيرون.. طالبوا ذواتكم اذن بالنمو وابعدوا الله عن مخطط رغباتكم، حينئذ  تقدسونه وتقدسون ما تنطوون عليه.
اياكم والانبياء الكذبة الذين يرذلون الطموح بحجة انها تضادد توجههم الروحي. فهم لا ينطوون على شيء يُذكَر سوى عقد النقص وكآبة تستدر خلف تقوية مرة. فما من انسان الا ويطمح، متمنياً التحليق باجنحة الخيال نحو مراسي الحرية. ففي الصلاة طموح ، في العلاقة طموح، في الطبيعة طموح بل حتى في الموت طموح.
طوبى لمن يطمح الى مزاوجة الروح بالعقل في عالم يعيش احتضار الروح وسيادة العقل. فالعالمَ يَتحرّكُ بسرعة عجيبة ، فبينما يشرع شخص بالقول : "أنا لا استطيع فعل ذلك الا اذا ..."، الا ويتفاجأ بظهور شخص أنجز الفعل وانتهى منه. بينما الاول ما زال يتمنطق. 
كونوا كمن لا يعرف متى تأتي ساعة السَحَر، لذا يظطر لفتح كل الابواب استعدادا لاستقباله. كونوا سارقي الزمن في مجهوليته.  ليكن هكذا طموحكم، انفتاح وخيال ملتهب بالانتظار.
اياكم أن تحرقوا الحاضر بشعلة المستقبل. بل أن تنيرونه. فنعمة " العينين" لم تُعطَ جزافاً، بعين واحدة تنظر "الان وهنا"، والاخرى تنظر "ما بعد الان وهناك." فالحياة ليست سوى قنديل صغير ينير لفترة وجيزة وينفذ زيته. طموحكم هو زيت حياتكم. فالزيت نافذ لكن القنديل باقٍ. لهذا عيشوا حياتكم بطموح الحاضر، ولا تخافوا على الاجيال القادمة فلها زيتها الخاص بها، لكن حافظوا على القنديل وهذا الاهم.
من لا يعرف معنى الفشل لن يتذوق لذة الطموح، فالاخير ليس سوى صلاة تنطلق من محراب الفشل نحو العلى.
أحبوا وافعلوا كل ما تخشون القيام به. فهي أولى خطوات الطموح. إذ ليس كل ما نواجهه يمكن أن نغيّره، لكن ليس من شيء يمكن أن نغيره دون أن نواجهه. ففي الجرأة يكمن كل السحر والعبقرية والقوة . 
كونوا حكماء في تحقيق طموحكم، فليس بمستطاعكم تَغيير إتّجاهِ الريحِ، لكن بمقدوركم تعديل أشرعتَكم وفق هبوبها، والوصول الى غايتكم الاخيرة.
إنْ اضجعكم الطموح على فراش الخمول وخيبة الحاضر: فحاربوه بقناعة الذات، ورددوا كل يوم :" كنت أبغي أن أكون، والان أنا كائن .. وكفى". وليكن في معلومكم مهما حققتم من طموحات، فأنتم أنتم، لن تتحركوا قيد انملة. فقد يمسي تافها كل ما فعلتموه أو تفعلونه في عيون الكون الهائل. لكن المهم في الأمرأنكم تفعلون " شيئاً".
إنْ كان طموحكم يقتصر على تغيير العالم نحو الاحسن، فكونوا انتم أول البادئين به. وإن كان طموحكم بقتصر على تغيير ذواتكم، فحاولوا ان تغيروا نظرة العالم عنكم.
لا تجالسوا اقزام العصر ممن يحاول تحضيض مساعيكم نحو التطور. بل جالسوا حكماء عصركم وانبياءه ممن تتسربل في نظرتهم غبطة الحياة وفرص البقاء وثقل اللحظة.
 إنْ أردتم طموحا جوهريا يطرز انسانيتكم، اسعوا لامتلاك قلب ممتلئ النعمة وروح مولود من رحم الحب واذن تصغي لصوت الداخل.
ولا تفعموا عقول الناس بسير امجادكم أو معاناتكم التي كابدتموها لتحقيق اهدافكم فانكم تسحقون بذلك اندهاشكم أمام ذواتكم، بل اجعلوا الناس فضوليين في معرفتها، فالصمت ابلغ تعبير عن الخبرة المندهشة.
ليس الشيء العظيم أن نقف بلا حركة  أو أن نعرف وجهتنا، بل تكمن العظمة في أن نبحر أحيانا مع الريح، واحيانا ضده. لكنّا يجب أن نبحر، لا ننجرف مع التيار، لكن لا ننكص في الوقت نفسه فنُنْزِل المرساة خوفاً من هبوب العاصفة.
تأملوا دائماً، أن هناك عقبتان تصادفكم، الاولى يضعها الزمن أمامكم، والاخرى تضعونها أنتم أمام نفسكم، بطموحكم تتحملون الاولى، وتحطمون الثانية.
قد قيل لكم:" ابحثوا تجدوا" أما انا اقول لكم، ليس في كل الامور، فغالبا ما يخنق البحث خطاب العفوية ويبخسه، ويبدو طريقاً يؤدي للتكلف وضياع الهدف. بل ابحثوا حين تدفعكم الحقيقة، وكفوا عن البحث حين يدفعكم الكبرياء والتنافس البغيض.
قد سمعتم :" ان الطموح طريق يؤدي الى الامتلاء" أما أنا فأقول لكم:" اطمحوا في اكتشاف الفراغ، قدسوا معبده الخفي، فلطالما امسينا عَبَدَة صنم " الامتلاء"، نأكل ولا نشبع، نرغب ولا نكتفي، نفكر ولا نفعل، نعيش ولا نقنع. فكيف نسعى للامتلاء ونحن من غرق في خضمه؟!
احرصوا على ابقاء نار الحماسة متقدةً في مرجل طموحكم، فليس من شيء عظيم قد أُنجِز بدونها. ففي انطفاءها تضعف الدهشة، ويلفي المرء نفسه كمستنقع مياه آسنة، حيث تتجمع الحشرات والاوساخ.
أتعلمون كيف يتولد الطموح:" حين تمرون في طريقكم، قد ترون اشياءً وتتساءلون: لماذا هذه الاشياء موجودة هنا. حاولوا بالاحرى أن تروا اشياء غير موجودة، حينها تقولون:" لماذا هذه الاشياء غير موجودة هنا ؟"   
لا تبرروا فشلكم بصعوبة الامور بل بعدم جرأتكم على الاعتراف بصعوبتها. فقد تنتفخون بالكبرياء الى درجة عجزكم عن النظر أبعد من أنوفكم. 
يسير الطموح برجلين : الفكر والفعل، في الاول يُمسي عجينة هلامية في حيز الحدس، لها وجه كياني وكوني شامل، وفي الثاني يحدث التجسد الفعلي في حيز المادة، يلبس وجهاً معنوي ، ويفقد تسميته ومجهولية مستقبله اللامتحقق لانه قد وُلِد الآن. لكن بين الفكر والفعل تتصير الانسانية. ولهذا اقول لكم، لا يمكن للطموح وجود بلا فعل. إذ تتضاعف الفرص حين تُنتَهَز.
في الطموح، لا تحشدوا قواتكم وتخططوا لاستنزاف طاقاتكم قبل استنزافها في العدو، بل افعلوا ما يمكنكم فعله، بما عندكم من طاقة، وحيثما كنتم. وإنْ هُزِمتُم ، اياكم الجلوس في منتصف الطريق نادبين حظكم، فقد تفقدون البداية والنهاية.
إنْ ابتغيتم أن تعرفوا مصيركم، عليكم ان تزرعوا " ميزاتكم" في أرض خصبة، وإن أردتم حصد           "ميزات تغير وجه الكون، عليكم بزرع " عاداتكم" لان بتكرارها تنمو الميزة. وإن اردتم حصد عادات عظيمة ما عليكم الا زرع " افعالكم " في ارض الزمن الايجابي، فهو بذار العادة.
حين تطمحون، تأكدوا أنكم في أحضان الهكم وليس في أحضان أصنامكم التي قد تحقق كل أمانيكم بمجرد تخليكم عن أبيكم السماوي.
أياكم أن تكشفوا اوراقكم للطموح، فانه يملك وجهاً قاسياً، عديم الرحمة، كل استحقاق لا يُدرَج ضمن مخططه، يعده حقيراً. وغالباً ما يكسر روابط الدم، ويُنسيكم حتى العرفان بالجميل.
لا تخافوا ان تطرقوا دهاليز رغباتكم، فكل غاية عظيمة تفترض درباً متعرجا مليء الحفر، حافظوا على الطريق مهما بلغت صعوبته.
قد قيل لكم :" متى ما حققتم انجازا عظيما، حفرتم اسماءكم في سجل التاريخ"، أما أنا أقول لكم :" متى ما أفلحتم بالامور الصغيرة، فانكم تطرقون باب العظمة الاكيد، فهو باب صغير وضيق. بل انه خفي على من يحاول امتلاك العظمة كحرفة، فهو يناغم ذاته مع مُثُل تحتقر انسانيته. فالعظمة تكمن في جسد الرغبة المتواضعة. 
أوصيكم أن لا تحققوا طموحاتكم على حساب تعاسة وسذاجة الاخر. إذ يمسي الطموح  رذيلة بحد ذاته، لكنه طريق أكيد نحو الفضائل إن رأى طريق النور. فبلا الطموح نفقد "اندهاش الزمن أمام نفسه" في ذواتنا. فطوبى لمن يطمح بانسانيته، ولا يطمع بكبرياءه.

   انتهى المعلم من حديثه وقد لاحت على سيماءه بوادر الاندهاش لما انطوى عليه تلاميذه من نعاس دب عيونهم وعقولهم، فقال لهم بلهجة تنم عن صرامة:"
انكم بهذا تضيعون فرصة التحرر، ما الفرق بينكم وبين الأموات، فكلاكما يبحث عن ركن يضع رأسه عليه، ويسلم ذاته الى فراغ الزمن، حيث يغرق في خضم الاشكال الشاردة من مخيلة الواقع. في اذانكم يستدر ثقب كبير، يسرب وقود الكلمة، ويوما بعد يوم، يُعلَن فقدان المعنى بلا ادراك. كيف يمكنكم ادراك معنى التحرر إنْ لم تُسجَنوا خلف قضبان معناكم. فالمعنى سجن الحرية لكن مفاتيحه في يد السجين لا السجان.
تعلموا أن المعنى مغلف بقشرة صلدة لا يكسرها الا الصبر والرغبة المتقدة.

    ثم طفق أحد تلاميذه يقترب منه حاملا بيده حجارة كبيرة، نحتتها عوامل التعرية الى درجة انها بدت تعكس وجه شخص متألم لكنه يولد انطباعاً بصلادة الداخل. ثم نظر المعلم الى وجه التلميذ قائلاً :" هناك بون شاسع يا بني بين وجهك الناعم، العاري والمبرقَع في الوقت نفسه، وبين وجه هذه الصخرة. فلو وهبها الخالق لغة بشرية لنطقت بخبرة تهز الكيان وترطم البشرية بخساسة معناها.

ثم قال التلميذ:" لكن يا معلم، ما هو الطريق للمعنى ؟"
أجاب المعلم :" في الصبر ".
ثم أضاف التلميذ :" كلمنا عن الصبر !".



- يتبع -


غير متصل ناظم علي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 141
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: طموح نحو العمق
« رد #1 في: 14:25 13/02/2006 »
اخ صميم

لا اعرف ماذا اقول لك بالضبط ... فكلامك جميل جدا ..دعني اقول لك
(اشكرك من قلبي) ...لعلها جديرة بالتعبير عن الشكر الذي يصل الى صميمك .....صميم اسم على مسمى .

شكرا للجميع

الاخ مجهول

ghada

  • زائر
رد: طموح نحو العمق
« رد #2 في: 22:40 16/02/2006 »
الأخ صميم،
لك مني تقدير عظيم فالطموح فعلا هو ذلك الشيء الذي لم نفعله بعد.
وذات يوم صعد المعلم إلى القمة مع أحبائه و سألهم ماذا يريد أن يصنع كل واحد منهم. فقال صخر: أريد أن أكون صلبا لا يتراجع عن حبه و صيادا للناس الذين لايعرفونك، و قال آخر أريد أن أمضي العمر لأسدد لك ضريبة الرحمة، وقال غيره:  أريد بلاغة الكلام مثلك، واقترب حبيبه المقرب لقلبه و قال له: كم بودي أن أكون معك حين تموت أو أموت، وقال آخر أريد أسافر نحو الشرق فالريح تناديني هناك و لا أعرف لماذا. وغيرهم طلبوا من المعلم أن يصنعوا عجائب مثله و طلب منه تلميذه الخائن أريد أن أكون أمين الصندوق لأصنع لك قصرا يليق بك حين تصبح ملكا.
ثم التفت المعلم وراءه فرأى امرأه في عهد الطفولة تزحف في منتصف الجبل تحمل ذاتها و تمشي معها الحشرات وتزينها أوراق الشجر المتساقط  أول الخريف عين ثابتة عليه و عين تتابع الطريق، فناداها لكنها لم تقو على الوقوف أو الركض إليه، فسمع لهفاتها ونزل إليها وقال لها: و أنت ماذا تريدين أن  أصنع لك؟ بم تحلمين؟
أصابتها فجأة جرأة قوية وحدقت فيه:  أعطني عينيك وازرعني شوكة في حلق العالم فينزف حبا بك كل من يقابل عينيك في عيني.

متمنيا دوما أن تسقينا من ينابيع النور فنغرق صفحاتك المشرقة من فيض الجداول.


تحياتي

غاده

غير متصل صميم

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 226
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: طموح نحو العمق
« رد #3 في: 00:21 21/02/2006 »
الاخت غادة ..
    ما أعظمه طلب المرأة ، أن تطلب عيون المعلم. انها لا ترى الاشياء بل تتبصرها، وبين الرؤية والتبصر بون شاسع.  ان الكيان  يصرخ بعمقه في فعل التبصر. فطوبى لمن يتبصر حتى سلبياته، ويقبل عمقه كمعلم يحتاج الى صوتنا كي ينطق بالحكمة. ففي لحظة الخلق، أودعنا الله سر الخلق، بل كان  حدث كل الخلق في عمق الانسان قبل الكون.
   شكرا جزيلا على مرورك الكريم .. متأملاً لك الابداع والموفقية ... باركك الله ..


غير متصل صميم

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 226
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رد: طموح نحو العمق
« رد #4 في: 00:23 21/02/2006 »

        الاخ العزيز مجهول ...

    أشكرك من اعماق القلب على مرورك الرشيق على كلماتي. فهي لم تكن سوى فتات يتساقط من مائدة الفكر حين ينعكس على ذاته، ويتامل نفسه في عراء الوجود. ان القدرة الوهاجة  المتبصرة لا تكمن الكلمات بل تكمن في الحيز الذي يحتضن الكلمات، ويتلمس بعدها.
مع حبي وتقديري  ...

أخوك
صميم