المحرر موضوع: المسيحيون العرب.. إلامَ الصمت على هذه الظواهر؟  (زيارة 2328 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عنكاوا دوت كوم

  • مشرف
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 37773
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
المسيحيون العرب.. إلامَ الصمت على هذه الظواهر؟
[/b]


خصصت جريدة «اللاموند» الفرنسية مؤخرا ملحقا لا بأس به عن وضع المسيحيين في العالم العربي وفي بلدان الجوار وبخاصة ايران وتركيا، ونفهم منه ان صعود الاصولية الاسلامية منذ اكثر من ثلاثين سنة، وكذلك استمرارية الصراع العربي ـ الاسرائيلي بالاضافة الى عوامل اخرى كحرب العراق، كل ذلك ادى الى نزوح المسيحيين من العالم العربي وهجرتهم الى الغرب. وهذه ظاهرة مقلقة وخطرة على العالم العربي والاسلامي نفسه من الناحية الحضارية. فوجود المسيحيين العرب يؤدي الى حصول ديناميكية ثقافية في المنطقة، ولا يمكن فهم نهضة القرن التاسع عشر بدون وجودهم. يضاف الى ذلك ان وجود المسيحية العربية سوف يساعد على التطور والتجدد لأن علاقتها قوية بمركز الحضارة العالمية: اي اوروبا، وعلى عكس ما يتوهم المتعصبون والقومجيون العرب فان التعددية الدينية او الروحية في المجتمع يمكن ان تكون نعمة لا نقمة. ولكن اليمين المتطرف في كل مكان يحقد على التعددية وبالاخص على الاقليات الدينية او الثقافية ويريد ازالتها من الوجود، واليمين العربي ليس استثناء على القاعدة ولن يكون. ولذلك نلاحظ تأففه من وجود الاقليات الدينية في المشرق العربي ويعتبرها سبب المشاكل والهزائم العربية. ولكننا نلاحظ ان وضع الغرب ليس بأفضل من وضع المشرق على الرغم من خلوه من التعددية الدينية او الطائفية، وبالتالي فهناك سبب آخر للتخلف غير ذلك. تقول الاحصائيات الاخيرة بأن ربع السكان المسيحيين للعراق قد هاجروا الى الخارج بدءا من عام 1991 هربا من ديكتاتورية صدام والحصار الدولي، وكان عددهم آنذاك حوالي مليون نسمة، ونضيف اليهم من هاجر قبل ذلك التاريخ فاذا بالعدد يصل الى الثلثين! واما في القدس، مهد المسيح عيسي ابن مريم عليه السلام فقد كان عددهم خمسين الفا عام 1948، ولكنه لا يتجاوز الآن البضعة آلاف، معظمهم هاجر الى اوروبا واميركا الشمالية بما فيها كندا، ولم يبق في الضفة الغربية كلها إلا سبعون ألفا، وفي غزة ثلاثة آلاف، وبين عرب اسرائيل مائة وعشرون الفا.
وحتى في سوريا التي قدمت للعالم سبعة بابوات وبعض الاباطرة الرومانيين الكبار لم يبق من المسيحيين العرب إلا عشرة بالمائة من عدد السكان: اي مليون ومائتي الف نسمة، ولكنهم عام 1950 كانوا ضعف هذا العدد.
واما عن لبنان فحدث ولا حرج! فقد كانوا يشكلون نسبة 60% من عدد السكان قبل فترة ليست بعيدة، ولكنهم الآن لا يشكلون اكثر من 35%، وهذا يعني ان عددهم انخفض الى النصف تقريبا، وكل ذلك بسبب عوامل عديدة منها انك ملاحق على مكان ولادتك من المهد الى اللحد كما يقول امين معلوف في روايته الرائعة: أصول. ولكن هل هي رواية ام سيرة حياة عائلته والمسيحيين كلهم من خلالها؟ فهم لا يفكرون الا بالهجرة والاغتراب منذ ايام العثمانيين وحتى الآن.
واما في العراق فقد انخفض عددهم من 10% الى 3% كما قلنا بسبب الخضات التي عاناها هذا البلد على مدار عهد صدام وحتى الآن، فجو الرعب على طريقة هيتشكوك يدفعك دفعا الى الهرب والهجرة، وهو جو يشمل المنطقة بأسرها وليس فقط العراق. ولو فتح باب الهجرة لربما هاجر معظم سكان المنطقة وليس فقط المسيحيون العرب، فالسكان المسلمون يتعرضون ايضا لانعكاسات هذا الوضع المهتز والمدمر. وما دام مصير المنطقة على كف عفريت فان احدا لن يفكر في بناء مستقبل فيها، ولماذا تبني اذا كان بناؤك مهددا بالحروب الاهلية والمجازر والاضطرابات؟ وعلى اي شيء تبني؟ على الرمال المتحركة التي قد تجرفها الرياح العاتية التي تعصف بالمنطقة في اي لحظة؟ وحتى في مصر التي تضم اكبر اقلية مسيحية عربية (6 ملايين) نلاحظ ان الهجرة الى اميركا الشمالية واستراليا ونيوزيلندا الجديدة قائمة على قدم وساق. فعدد الاقباط كان اكبر من ذلك عام 1950، حيث كانوا يشكلون 15% من سكان مصر، ولكنهم الآن لا يشكلون اكثر من 10%.
بالطبع فهم يبالغون ويقولون لك بأن نسبتهم 20%، ولكن الاخوان المسلمين يقلصون هذا العدد الى 5%، من اجل التقليل من اهميتهم ووزنهم في المجتمع المصري.
وفي المحصلة لم يبق من المسيحيين في العالم العربي الا اثنا عشر مليون نسمة من اصل (280) مليونا او ربما ثلاثمائة مليون عربي. لا ريب في ان ملف جريدة «اللوموند» عن المسيحيين العرب مضيء ومقنع في جوانب عديدة، كما انه دقيق في تقديم الاحصائيات والمعطيات، ولكن الشيء الذي ينقصه هو التركيز على الجانب الآخر من الصورة: اي الجانب الاقل تشاؤما وسوادا. صحيح ان الظروف الحالية صعبة والآفاق مظلمة وشبه مسدودة، ولكن حركة التاريخ لن تتوقف عند الموجة الاصولية أيا تكن ضخامتها وحجمها، فوراء الاكمة ما وراءها، والمسلمون في العالم العربي ينتمون الى تيارات شتى وليس فقط الى التيار الاصولي. لا ريب في ان هذا الاخير يسيطر على الشارع احيانا بشكل مقلق. ولكن قوى الاعتدال والوسطية موجودة ايضا، وكذلك قوى التنوير والعقلانية وهي مرشحة للنماء والتزايد اكثر فاكثر. والاسلام العربي يبحث عن طريق للخلاص، عن وسيلة للتوفيق بين التراث والحداثة مثله في ذلك مثل الاسلام التركي او الايراني ولم يقل كلمته الاخيرة بعد، انه يتخبط في متاهة ويواجه تحديات مرعبة بسبب هيمنة التقليد والجمود عليه لقرون عديدة، ثم بسبب ضغط الغرب واسرائيل، ولكنه سيجد مخرجا له من هذه الورطة يوما ما، وسوف يتعاون المثقفون العرب من مسلمين ومسيحيين على ايجاد هذا المخرج التاريخي، وبعد انحسار الموجة الاصولية العاتية سوف يستعيدون مشروع النهضة على اسس جديدة بعد ان يستخلصوا الدروس والعبر من اجهاض نهضة القرن التاسع عشر، سوف يواصلون معركة التحديث من اجل التوصل يوما ما الى التمييز بين الدائرة اللاهوتية/ والدائرة السياسية واعطاء كل ذي حق حقه. وعندئذ تؤسَّس المواطنيّة على اسس جديدة لا طائفية ولا عشائرية ولا قبلية. واما قبل ذلك فلا.
عندئذ يظهر مفهوم الانسان لأول مرة في العالم العربي، الانسان كفرد حر مسؤول عن اعماله فقط وليس عن اعمال طائفته او عشيرته او حتى عائلته.. وبالتالي فمصير المسيحيين العرب وسكان المنطقة كلهم يتوقف على الحركة العميقة والطويلة للتاريخ، والسؤال المطروح هو التالي: هل تسير هذه الحركة باتجاه التقدم والتحرر من المقولات اللاهوتية القديمة والتمييز الطائفي أم باتجاه عكس ذلك؟ ظاهريا تقول لي الامور بان الاحتمال الثاني هو الوارد، ولكن فلسفة التاريخ تقول لي شيئا آخر.
----------------------------------------
الشرق الأوسط 26 حزيران 2005
أي نشر، أو إعادة تحرير لهذه المادة، دون الإشارة الى " عنكاوا كوم " يترتب عليه أجراءات قانونية