المحرر موضوع: ليسَ كُلُّ ما يتمَنَّاه المَررءُ يُدرِكُه  (زيارة 1204 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كوركيس مردو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 563
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
                    ليسَ كُلُّ ما يتمَنَّاه المَرءُ يُدرِكُه

لقد كَثُرَ الحديثُ مؤَخَّراً عن مَنح المسيحيين العراقيين  < منطقة  سَكَنٍ آمِنة > وقد أطنَبَ وأسهَبَ الكثيرُ من الكُتّاب المسيحيين ما بين مُحَبِّذٍ ومُعارضٍ للفِكرة مُنطلقين من الواقع المؤلم الذي يسودُ العراق اليوم ،  وفي الحقيقة إن الوضع المُزري الذي يَمُرُّ به العراق من انعدام الأمان يطالُ العراقيين كافةً على تَعَدُّدِ أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم ، ولكن ليس بإمكان أحدٍ  الإنكار بأن المسيحيين يتعَرَّضون للعَمَل الإرهابي بشكل مُضاعَف ، أولاً  لأنهم مسيحيون ويُنظَرُ إليهم كرعايا طارئين ، وليس كمواطنين أصليين ثانياً .

وقبل الدخول في تفاصيل التأييد أو الرفض لأراء المُحَبِّذين والمُعارضين ،  تَبرُزُ الى الواجهة عدة أسئلة قبل المُطالبة  بما اصطُلح عليه  < بمنطقة آمنة للمسيحيين > أو < استحداث محافظة خاصة > ومِنها :

1 - هل تخَلَّى بعضُ المسيحيين المشهود لهم بعنصريتِهم  عن أنانيتِهم المُفرطة والفارغة معاً  عن سياستهم الإحتوائية لإخوانهم الذين يتفوَّقون عليهم عدداً وكفاءَةً  علمياً  وثقافياً  واقتصادياً ؟

2 - هل آمنوا بعدم جدوى حرب التسميات التي شَنّوها على إخوتهم بهدف فرض تسميتهم الوهمية  عليهم ،  وهل سيعترفوا بالواقع الموضوعي  لشعبنا المسيحي  بأننا شعب واحد بعدة تسميات ؟

3 - هل سَتُقِرُّ هذه الزُمرة الخائبة بالديمقراطية كحَق مشروع يمارسُه الشعب المسيحي بحرية تامة ،  للوصول الى  وحدةٍ اتحادية متكافئة  بين فئاتِه المتآخية وبعدم ترديد تَبَجِّحها النشاز بأولويتها على قيادة  شعبنا ؟

إن هذه الأسئلة بحاجةٍ الى أجوبة قبل التفكير  في أيِّ مشروع يَهُمُّ شعبنا  .   إذا لم نُشيِّد بيتنا ونُحَصِّنُه ،  بمُراجعة مِلفّاتنا  وإعادة قراءَة  برامجِنا  وإجراء تعديلاتِ جذرية عليها  لتَتَوافقَ مع واقعنا  الموضوعي ، وهذا لا يُمكن أن يتأتّى  إذا بقيت قلوبُنا مُترَعة بأدران الحقد والكراهية لبعضنا البعض ،  إذا ظلَّت نفوسُنا تأمُرُ بالسوء ،  إذا لم نُعِد الى ذواتنا المصداقية المفقودة تُجاه واحِدِنا الآخر !

كيف نطالبُ بمنطقةٍ آمنة أو اقليم خاص ونحن بهذا الوضع المُشَتَّت ، الطرفُ الأصغرُ بيننا عدداً يروم ابتلاع الطرف الأكبر  ،  يُنكرُ عليه وجودَه الفعلي  كأكبر قومية رافدية أصيلة وأعرقها طُراً ، انفصل عنها بعضُ أبنائها عِبر الزمن الرديء  الذي وقعت فيه  كنيستُها العملاقة ( كنيسة المشرق )  واتخذوا لهم تسميات  كاليعقوبية في الجيل السادس  والآثورية  في الجيل التاسع عشر التي غُيِّرت الى الآشورية في العقود القليلة المتأخرة ،  هذا الطرف الصغير مُدَّعي الآشورية زوراً  يُطالب الطرف الكلداني الكبير ( الفرع الصغير يُطالب الأصل الكبير ) أن يتنَكَّرَ  لقوميتِه  ويقتديَ  به  بتبنّي  تسميةٍ غريبةٍ عنه  تفتقر كُلِّياً الى  أيٍّ من مُقوِّمات القومية !  كيف  يؤتَمَن  جانبُ هذا الطرف المغرور  ذي العقلية المُتعفِّنة  بسبب الآفكار الوهمية  والخيالية المُعشعشة  في عقول أبنائه المُستحكِمة فيهم النزعة السُلطوية الإنفرادية المنبوذة من قبل  الشعب بأكمله ! كيف يُمكن الوثوق بهذا الطرف الناكر لأصلِه وقوميتِه والمُنتحِل لتسمية بائسة ( الآشورية ) أطلقها عليه الأجنبي الغادر قبل قرن ونصف فقط  ، عندما يقوم وبدون خَجَل باختلاس اسم كنيسة المشرق الكلدانية التي أسّسَها الشعب الكلداني خلال النصف الثاني من القرن الميلادي الأول على يَدَي رسولَي المشرق مار أدي ومار ماري !  نعم الشعب الكلداني الرافدي الأصيل والوحيد الذي واصل مسيرتَه الحياتية بعكس الشعوب الرافدية الاخرى السومريين والأكديين والآشوريين التي انقرضت وأصبحت  في خَبَر كان !  كيف يمكن أن يُنسَبَ اسم الكنيسة  الى شعب ( الشعب الآشوري المُنقرض ) طالَه الفناء الجماعي الأبدي قبل الميلاد بأكثر من ستة أجيال !  أليس من  حق الشعب الكلداني الصادق  بميسيحيتِه  أن  يرتابَ  بنوايا الشرذمة الجاحدة  من  أبنائه المُتخِذة من المسيحية ستاراً لتُخفيَ حنينَها  لعبادة إلهِهِا آشور الوثني !  إذا كان هذا الطرفُ المُتمَرِّد  على امتِه الكلدانية  والسارق  لكنيستِها  والمُختلِسُ  لأمجادِها  وعَزوِها  الى الآشوريين القدماء الذين لا تربُطه بهم أية رابطة  عِرقية أو تاريخية  بهذا المستوى  من الأنانية  وحُب احتكار القيادة  دون الإقرار  بالواقع الحالي لوضعِنا  !  تُرى ،  كيف  سيكون  تَصرُّفُه  في  حالة الإقرار بإقامة منطقة خاصة بالمسيحيين ؟ ؟ ؟ . إقرأوا ما يكتُبُه  عوديشو ملكو بعد سُبات طويل وقد استفاق مؤَخَّراً ليخرج علينا ليُعيدَ ما رَدَّدَه من قبلِه  الكثيرون من غُلاة مُنتحلي الآشورية المُزَيَّفة  من الأكاذيب والأباطيل مُعلِنين عن لصوصيتهم وسطوِهِم على منجزات وأمجاد الامة الكلدانية النبيلة وكنيستِها المشرقية الجليلة .


ليس مَن يستطيعُ الإنكارَ  بأن المسيحيين كانوا في منجىً عن التهديدات والإعتداءآت على مدار الأجيال  ،  بل كانوا من أوائل المُستهدَفين أثناء الأحداث والتغييرات التي حَدَثَت في العراق على مَرِّ الزَمَن  ولا سيما خلال عهود الحُكم الإسلامي المُتنَوِّع الأشكال ، حيث اعتُبِروا < أهل الذِمّة > في وطنهِم الأصيل ، وعومِلوا < كَكُفّار > على امتداد الحُكم العثماني القمعي الغاشم ، وعند قيام الحُكم الوطني  عَرَّفَهُم <  بأقَلِّية دينية >  مُنكِراً عليهم انتماءَهم القومي الكلداني .

اعتقد المسيحيون بأن زمنَ الإضطهاد  قد وَلَّى وأن القتلَ والسبيَ والإغتصابَ وحرقَ القرى الذي مارسَه ضِدّهم العُثمانيون البُغاة قد انتهى ، وأن الانكليز الذين يشاركونهم < الأُخُوَّة الدينية > والذين أقاموا الحُكم الوطني في العراق ، سيُنصفونهم  وسيفوا بوعدِهم بمنحهِم كياناً مُستقلاً  أو على الأقل إدارة محلية  لصيانة حقوقهم الثقافية وممارسة خصوصياتهم الدينية بحُرية ، بيدَ أن ظنَّهم هذا قد خابَ لأن وعدَ المُستعمِر كان كاذبا ،  بل كان شَرّاً مبطَّناً  عَرَّضَ  جًزءاً عزيزاً من شعبنا المسيحي الكلداني ( الآثوريين الكلدان ) القاطنين في  منطقة  < سُمِّيل > وضواحيها الى مذبحةٍ فَظَّة  قام بها المُرتزقة والرُعاعُ  من القرى العربية والكُردية المجاورة بمساندة ومشاركة الجيش العراقي  وذلك في تموز من عام 1933 ، ذهبَ  ضحيتها الالآفُ  من الرجال والنساء والأطفال ، وأُجبرَ الناجون َ منهم للهجرة الى سوريا ولبنان .

لقد استبشرَ المسيحيون الكلدان بمُختلف انتمآتهم المذهبية خيراً بقيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ، فبادروا الى دَعمِها والمساهمة في بناء الوطن ، لأن الثورة جاءَت لنشر العدل والمساواة بين  كافة أبناء  بلاد الرافدَين ،  وبعد فَشَل  مؤامرة  العقيد الشوّاف أصبحَ  المسيحيون  وبخاصةٍ  سُكّان الموصل  منهم  كَبشَ الفداء  بتعَرُّضِهِم  لأبشع  أنواع الإنتقام  من  قبل زُمَر القوميين العُتاة  والإسلاميين المُتطرِّفين والبعثيين ، حيث لاقوا التعذيب والقتل والمُطاردة ، فتشَرَّدوا تاركين بيوتهم وتوَجَّهوا الى أماكن اخرى في العراق وعلى الأغلب الى بغداد والبصرة .

وبعد انقلاب الثامن من شباط  1963 الدموي الأسود  وتَسَلُّط عبدالسلام عارف ، عانى المسيحيون من أنواع التعَسُّف الذي مورسَ ضِدَّهم ،  حيث عُذِّبَ الكثيرون منهم وقُتِلوا وسُجِنوا وشُرِّدوا ، وأُبعِدوا عن وظائفهِم  وحوربوا بأرزاقهِم .

وعندما استولى  حزب البعث على السُلطة في العراق ،  كان العقد الأول من حُكمِه أفضل من  العهد العارفي ، ومع  بداية العقد الثاني  وتَمَكُّن صدام حسين  من  تَوَلّي الرئاسة  الاولى في  الدولة والحزب ،  تجَلَّت الديكتاتورية  وبدأ عهد التصفيات والقمع والإضطهاد  وجَرِّ البلاد الى المسالك الخطرة  ،  منها الحروب  ومقاومة القرارات الدولية  وملاحقة كُلِّ المُعترضين الغيورين  من أبناء الأطياف العراقية  على  ممارسات النظام الاستبدادية ، فكُمِّمَت الأفواه  وطورد الوطنيون الأحرار ،  وطغت هجرة العراقيين على اختلاف أعراقهِم ومذاهبهم وضاقت بهم دول الجوار ودول الغرب ،  وكان المسيحيون أكثر المهاجرين نسبياً من جرّاء الإهمال والتهميش الذي طالهم .

وحين بَزَغَ فجرُ الحرية بسقوط الطاغية ونظامِه ووقوع  العراق تحت الإحتلال  الأمريكي والبريطاني ، ومن ثمَّ  قيام العصابات التكفيرية  بنشر إرهابِها في عموم العراق ،  باتَ المسيحيون الهَدَفَ الأول  في قائمة إرهابِهِم ، حيث طالَهُم الإغتيالُ ، والإختطاف وأُجبِرَت نساؤهم وبناتُهم في بعض مناطق العراق على ارتداء الحجاب الإسلامي ،  وتَعَرَّضت كنائِسُهُم للتفجير ومحَلاّت ارتزاقهِم للحرق والتدمير  فضاقت بهم سُبُل العيش ، فاضطرّوا للهرب من مناطق سُكناهم في البصرة وبغداد والموصل الى مناطق اخرى في العراق ، واستطاع عَدَدٌ كبير منهم الخروج من العراق واللجوءَ الى دول الجوار كسوريا ولبنان والاردن آملين أن تقبلَهُم دول المهجر في العالَم الغربي .

للأسباب المُتَقَدِّم ذِكرُها ، تعالَت  في الآونة الأخيرة أصواتٌ تُنادي بايجاد <  منطقةٍ آمنة للمسيحيين >  حيث شعر أصحابُها بأن مبادرات الوفاق والتوافق والتصالُح المؤَدِّية الى ايجاد حلول تَصُبُّ  في خانة المصلحة العامة للإنسان العراقي  قد اختفت  بسبب الإرادة السيئة للسياسيين ذوي العقول المتصلِّبة  سواءً كانوا من التابعين للتيارات الحزبية الكبيرة أو الصغيرة  أو المائلين الى هذه الجهة أو تلكَ ، فلو استجابَ هؤلاء لِما دَعَت إليه كافة مُكَوِّنات الشعب العراقي  بإعادة  بناء العراق على أُسَس المفهوم الديمقراطي ، وعملوا بجدِّية على استتباب الأمن والإستقرار ، ومحاربة حالة الفقر والمرض والقضاء على الفساد والجشع ، وتطبيق العدل بين المُواطنين بكافة شرائحهم  دون تفضيل إحداها على الاخرى بحُكم الإنتماء  العِرقي أو الديني أو المذهبي ، لَما ظهَرَت على السطح مثل هذه الدعوات .

ثمَّ إن الدعوة الى إنشاء منطقة إدارة ذاتية للمسيحيين ليست مطلباً انفصالياً أو رفضاً للآخر ،  فالواقع يؤَكِّد بأن المنطقة المقترحة يسكنُها المسيحيون والمسلمون والشبَك واليزيديون الذين يمثِّلون مُختلف مُكَوِّنات الشعب العراقي الدينية وينتمون الى القوميات العربية والكردية والكلدانية على اختلاف مذاهبِها وطبعاً بِنِسَبٍ متفاوتة ولكنَّها متجانسة ، وبِمَقدورها الركون الى العيش المشترك في ظِلِّ قوانين تتضمّن التسامح وضمان الحريات الفردية والعدالة الاجتماعية ، وعلى هذا الأساس  فهو مطلب شرعي  وبالإمكان طرحُه على البرلمان لمناقشتِه ،  لأن الدستور  يَنصُّ بشكل صريح بأن العراق <  دولة اتحادية  فيدرالية > وللأقليات حَق التمَتُّع بخصوصيتِها القومية والدينية ،  وإن أهمَّ مُمَيِّزات النظام الفيدرالي  هو حماية حقوق الأقليات ، ورغم كُلِّ المُبَرِّرات الداعمة لهذا المطلب ،  إن الترَيُّثَ في عدم إثارتِه حالياً  هو الأصوب ،  وإن رأي المسيحيين الذين في داخل الوطن بهذا الخصوص هو الأصح والأسلَم  لأنهم أدرى بالأوضاع السائدة ،  ثمَّ إن هذا المُقترح يجب أن يقترن بموافقة إخوتِنا العرب والأكراد والتأكيد لهم بأننا جزء مهم وأصيل من شعب العراق وسنبقى كذلك للأبد ، ويقيناً ان ذلك سيُعَزِّز ثِقَتَهم بنا ويُفضي الى قبولهم لإقتراحِنا ،  وعندها نكون قد قُمنا بعَمَل حكيم وحقَّقنا مطلبَنا باسلوب سليم ، ويجب أن تسبِقَ هذا الأمر  مشاورات لعقد  مؤتمرات تُشارك فيها أطراف عراقية وعربية ودولية  ليخرجَ بصيغةٍ  توافقية  تتبنّاها الامم المتحدة .


نسأل الله العَلِيَّ القدير أن يباركَ بجهود كُلِّ الخَيِّرين  مِن  أبناء شعبنا المسيحي الكلداني والآثوري والسرياني ،  ويُسَدِّدَ خُطاهم للوصول الى ما يصبو إليه شعبُنا من الأماني ،  لا تُنالُ المطالب بالتَمَنِّي بل بالعَمَل والجُهد المُضني !  .



الشماس كوركيس مردو
في 25 / 4 / 2006