المحرر موضوع: نحو مجتمع وشخصية عراقية جديدة  (زيارة 1220 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل nashwan george

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 76
    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو مجتمع وشخصية عراقية جديدة

نشوان جورج

يصف الباحث الاجتماعي الكبير علي الوردي المجتمع العراقي بأنه مجتمع خليط من العقلية القبلية التي كانت منتشرة في الجزيرة في احد الفترات الزمنية وعقلية المدينة والتحضر التي بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر تنمو بعدد سكانها وعمرانها نموا سريعا.
فيجعل الوردي اهل المدن تحت وطأة تيارين متناقضين احدهما يدفعهم نحو التمسك بالقيم البدوية التي ورثوها من آبائهم، والآخر يدفعهم نحو الاخذ بالقيم الحضرية التي بدأت تنتشر بينهم شيئاً فشيئاً.
إن عرّفنا الحضارة بحسب الوردي فنراها ظاهرة اجتماعية متغيرة، تختلف في كثير من معالمها وخصائصها باختلاف الزمان والمكان. اما البداوة فهي في الغالب لا تتغير، او تختلف اختلافاً كثيراً، فهي اليوم تشبه ما كانت عليه قبل مائة سنة، او قبل عدة مئات من السنين فهي كما يصفها توينبي "حضارة مجمدة"، فالحضارة معاكسة للبداوة تماماً في كثير من خصائصها.
يؤثر ذلك في شخصية الفرد العراقي ويجعلها مزدوجة لأنها تقع تحت تأثير نظامين متناقضين من القيم، فيضطر بعض الافراد من جراء ذلك الى الاندفاع وراء أحد النظامين تارة، ووراء الآخر تارة أخرى. وازدواج الشخصية هذا ظهر في العراق منذ زمان قديم، ولهذا نرى الناس من اهل العراق قد اعتادوا ان يتداولوا فيما بينهم ما قاله الحجاج بن يوسف الثقفي عن اهل العراق من ذم وقدح، وكذلك ما قاله الأمام علي بن ابي طالب وما قاله الاسكندر المقدوني، من انهم اهل شقاق ونفاق، فهم منشقون على انفسهم او متفرقون.
وفي العقود الخمسة الأخيرة، الشخصية العراقية لم تتغير كثيراً، بل على العكس، إزدادت تزمتاً، وحنقاً، وكبتاً، وقمعاً، وبالتالي تمرداً، منظوراً وغير منظور بحكم الحروب والمخاصمات والقتال والحصار والحصر والجور والجوع والفقر الذي تعرض له الإنسان العراقي، لكنها في نفس الوقت ازدادت رغبةً وأملاً، وتطورت عقلاً ومفاهيماً، وكظمت غيضاً السنين والعقود والقرون، لتلقى التفاؤل في الإنتقال الى مرحلة جديدة دون أن تغفل او تغطي على عثرات الزمان او مسميات الماضي.
ان عراقي اليوم هو عراقي الامس بكل ما يحمله في عقله وشعوره ولا شعوره، بكل ما يحمله في جيناته وبايولوجيته وسلوكياته وأفكاره وتصرفه. وبكل ما تحملهُ وما زال يتحمله من ظلم وقهر واستبداد وقمع وكبت في الماضي واحتلال وسيطرة وجريح النفس والوجدان في الحاضر. قد يرضى العراقي ان يقال عنه انه متناقض او مزدوج، متمرد او عنيف، مستسلم حتى حينٍ، او خاضع، لكنه لا يرضى أبدا ان يقال عنه انه ذليل او خنوع. وما يشفع للعراقي في شخصيته غير المستقرة بحكم المتغيرات التي سبق ذكرها، ذكاءه وفطنته وإستعداداته وصبره وقدرته العالية حد الاعجاز على تحمل الضيم والقهر والألم حتى وان كان قادما من الطبيعة او من قوى غيبية غير معروفة.
 لقد عاش العراقيُّ تحت تأثير اجواء مشدودة ومكهربة، وحروب متتالية، لا معنى حقيقي فيها، فقدم الشهداء، وفقد من شعبه الكثير، وعاش الباقي تحت نير التقييد والسجن داخل اسوار الوطن، فالكلمة الصريحة ممنوعة والسفر ممنوع، والقنوات الفضائية ممنوعة، والهاتف المتنقل ممنوع، والكتابة الحُرة ممنوعة، والعقل النقدي ممنوع، حتى وصل الممنوع في قائمة الحقوق الانسانية نسبة عالية جداً، فضلاً عن ذلك فقد أفرزت الحروب التي تعرض لها الشعب العراقي، كوارث مجتمعية، تصدع بضوءها نظام القيم والأخلاق الحميدة، وإهتزت المثل العليا التي تعودَّ عليها عبر تاريخهِ، حتى وان كانت ضمن فكر البداوة وحضارتها، وتخدشت منظومات الذوق العام التي يرضعها ويتعلمها منذ الطفولة. فزاد السلب والنهب، وتفاقمت الرشوة والمحسوبية والنسبوية، وكثرت نسبة الفقر والجوع والعوز في المجتمع، وتباينت القدرة الشرائية للمواطنين بشكل ملفتٍ للنظر، وتعمقت جروح العراقيين في داخل نفوسهم، وصار الخوف والرعب يلفهم ويحيط بهم حتى في داخل بيوتهم، فالزوج يخاف من زوجته أن تكتب عنهُ تقريراً او تشي به، والأب يخاف من ابنه، والمعلم يخاف من تلميذه، والموظف يخاف من مديره وهكذا. لقد أصبح الخوف من كل شيء خاصة من السلطة، هو الهاجس الذي تحرك بضوئه العراقي، في ساعات حياته اليومية. وقد لا يبدو هذا الخوف ظاهراً، بل يبقى في اغلب الأحيان كامناً ومكبوتاً ولا شعورياً، لكنهُ ينعكس على السلوك العام للأفراد والمجموعات في داخل المجتمع. وقد خلق هذا الخوف المكبوت في داخل النفس العراقية، نزعة قوية، واضحة وظاهرة، نحو التحذلق والمنافقة، في محاولة لأرضاء الأعلى، أياً كان هذا الأعلى، مما عززَّ الدافعية والحافز في داخل الشخصية العراقية نحو الرياء والمكر والكذب أحيانا. إن البديل لسلوك الخوف داخل المجتمع العراقي، كان النقد والمصارحة والوضوح... وهذا كان مصيره السجن أو الإغتيال أو الطرد أو الموت بكل اشكاله المقصودة كما في المقابر الجماعية، وغير المقصود منهُ، كما في حوادث السيارات او السم او الجنون.
هناك من يعتقد، أن هذه السمات التي فُرضت على الشخصية العراقية عبر عقود من عمليات غسل الدماغ والتحوير الفكري، قد تحولت الى منظومات فكرية تلقائية (اوتوماتيكية) في العقلية العراقية، حيث العنف والتطرف والتمرد والتحدي، يمثل ردود فعلٍ معرفية لهذه المنظومات. لكن الحقيقة هي غير هذا...
إن منظومات التفكير الأوتوماتيكية التي زرعت وترسخت في العقلية العراقية، هي ليست ثابتة مدى الزمن، بل قابلة للتفكيك وإعادة التنظيم، لأنها منظومات معرفية مفتعلة وليست اصلية. إذ لا بد لنا أن لا ننسى أبداً الكم الكبير من المنظومات المعرفية الطيبة والأصلية الموجودة في العقلية العراقية منذ أمد طويل والتي ما زالت مكبوتة ومقموعة.
واليوم.. وبعد الخلاص الذي كان ينشدهُ العراقي الأصيل، ومن خلال التثقيف والتوعية الصحيحة والإرشاد السليم والعودة الى الإيمان الصافي والنقي، سوف تبدأ المنظومات المعرفية السلبية بالتراجع والتفكك والتراخي لتحل محلها المنظومات الأصلية والتي تحمل في طياتها قيم الخير والمحبة والسلام والامن والطيبة والكرم والشجاعة. إنها منظومات الفضيلة عموماً.
وتقع المسؤولية الكبرى في تحقيق هدف التغيير على مستوى الفرد والمجتمع على المفكرين والمثقفين وغيرهم من القادرين على المشاركة في مهمة لتغيير من اجل إعادة الأعمار والبناء للشخصية العراقية المحطمة، والمهمشة اليوم بحكم التاريخ، وبحكم الظروف القاسية والمؤلمة التي عاشها، والتي هي ذاتها، تلك الشخصية التي بنت الحضارة وعلمت الناس الكتابة والحرف والكلمة، ونشرت في انحاء المعمورة يوماً أسس القانون والعدالة والرحمة، لن تخيب ابداً في أبناءها وشعبها. والشخصية العراقية اليوم، وهي حُرة في التعبير والسلوك والتصرف، سوف لن ترضى باقل من ان تنتفض، وتتصالح مع ذاتها أولاً، ومع الاخر القريب والبعيد ثانياً، ومع البناء الجديد لذاتها وجوهرها. وعندما تتحرر هذه الشخصية من رواسب الماضي، وآلام السنين وحيف الزمن، وتغدو مؤمنة بربها ودينها وحضارتها وتاريخها واصالتها، تعود قوية بثقافتها وأخلاقها وفكرها، وعصية لقاهرها ومُحتلها، ولكن بعقلية حضارية جديدة، قوامها العقل والفكر والمنهج والمرونة والمحبة والمسالمة.
إن شخصية متوازنة من هذا النوع، لا يمكن لها أن تخبو أو تتهاون بل تبقى قوية بحججها وبراهينها وقدرتها على المواجهة المنطقية والعقلانية في عالم، اصبحت فيه الدساتير وشرعة حقوق الإنسان، حقائق يعرفها الصغير والكبير.