المحرر موضوع: ذكريات - سنوات بين دمشق وطهران ( 1 )  (زيارة 1260 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل جاسم الحلوائي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 99
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ذكريات
سنوات بين دمشق وطهران
( 1 )
جاسم الحلوائي
jasem8@maktoob.com

ذكرت في مسلسل القمع الوحشي بأني غادرت العراق في نهاية 1979. سافرت بجواز سفرأردني مزوًر الى الكويت برفقة عائلة كريمة ومن ثم الى موسكو عبر براغ. لم تطل فترة بقائي في موسكو. التقيت بالرفيقين عزيز محمد وباقر إبراهيم وقدمت لهما تقريرا شفهيا عن الوضع في الداخل وعن الإجراءات التي إتخذتها قبل مغادرتي. وإلتقيت لأول مرة، بعد إفتراقنا في بغداد، بأم شروق التي كانت قد باشرت الدراسة في معهد العلوم الإجتماعية في موسكو. ومن ثم التقينا بأبنائنا في المدرسة الأممية الداخلية ستاسوﭭﺎ في مدينة إﭭﺍنوﭭﺎ الواقعة على بعد 300 كم في الشمال الشرقي من موسكو. غادرت موسكو متوجها الى دمشق، بجواز سفر يمني صادر من السفارة اليمنية في موسكو، في اليوم الثاني من كانون الثاني 1980 تنفيذا لقرار حزبي بلغت به من قبل الرفيق عزيز محمد. وإلتحقت بي ام شروق بعد شهر واحد.

أقمنا في دمشق في شقة كبيرة نسبيا، منحها الحزب الشيوعي السوري لحزبنا لمدة سنة واحدة، وإلتحق للإقامة فيها معنا الرفيق باقر إبراهيم وزوجته. وأقام فيها بشكل مؤقت العديد من الرفاق على سبيل المثال: عبد الرزاق الصافي وعامر عبد الله وماجد عبد الرضا وثابت حبيب العاني وزكي خيري وسواهم. وكانت الشقة بمثابة مقر لعمل قيادة الحزب، ففيها تعقد إجتماعات أعضاء اللجنة المركزية المتواجدين في سوريا ولبنان، وفي هذه الشقة نوقش وأقر بيان اللجنة المركزية الذي أدان عدوان الحكومة العراقية على إيران في 22 إيلول 1980. كما كانت تعقد في الشقة أحيانا إجتماعات المكتب السياسي.

شكلت في دمشق هيئة حزبية صغيرة سميت (ناظم) من الرفيق باقر إبراهيم سكرتيرا وعضوية الفقيد مهدي عبد الكريم وانا. كانت (ناظم) بمثابة لجنة تنظيم مركزي ترتبط بها جميع المنظمات خارج الوطن والعقد التنظيمية في الداخل بإستثناء كردستان، التي كانت تحت إشراف المكتب السياسي ضمن الإستعداد للتهيئة للكفاح المسلح. وقد قررت اللجنة المركزية حل لجنة (ناظم) في إجتماعها المنعقد في موسكو في حزيران عام 1980. كانت هناك لجنة لتنظم الرفاق الموجودين في سورية وتنسق مع منظمة  لبنان في بعض الشؤون اليومية و تتكون من الرفاق صاحب الحكيم وجميل الياس ومحمد النهر وكنت سكرتيرها. وكانت ترتبط بي بعض العقد التنظيمية في داخل الوطن.

قضينا أم شروق وأناأكثر من عام واحدً في الشام زارنا فيها أخي حميد، ما أن إستلم مني خبرا وعنواناً للصلة بي في دمشق. ومن ثم زارنا أخي خليل وعائلته وحميد وعائلته أثناء وجود أبنائنا. ولم تكن تدابير الصيانة تسمح بإستضافتهم في شقتنا فأقاموا في فندق. وكانت أحوال أخوتي المالية جيدة فقضينا أوقاتاً ممتعة. وقد جاء خليل بسيارته الخاصة  فتجولنا بها لمشاهدة الكثير من المناطق الأثرية والسياحة من بينها تدمر ومعلولة وبلودان وعين خضرة وعين فيجة وسواها. وقضينا بضعة أيام في اللاذقية على ساحل البحر. وزوداني الأخوين ببعض النقود لمواجهة متطلبات أبنائنا ولتغطية تكاليف سفراتنا. وزارتنا كذلك أخت أم شروق  وأقامت في الشقة معنا. وقمت مع العائلة بسفرة الى لبنان لمدة إسبوع  قضيناها قي المدرسة الحزبية، الواقعة في جبل لبنان الرائع، والتايعة للجبهة الديمقراطية  لتحرير فلسطين والتي كان يديرها ويدرس فيها رفاقنا. كانت إقامتنا في دمشق بمثابة سفرة سياحية. لم نشعر في سوريا بالغربة لوجود العديد من عوائل رفاقنا وأصدقائنا وتماثل البيئة ومشاعر السوريين الطيبة تجاه العراقيين. في نهاية عام 1980، وعندما كان الرفيق عزيز محمد يهم بالخروج من باب شقتنا سلمني رسالة وقال لي:

ـ الرسالة من المكتب السياسي وهي لك.

قال ذلك وغادر بسرعة قاطعا علي الطريق  بأي سؤال. كانت الرسالة تتضمن قرارا  يقضي بإنتقالي الى إيران لإستلام مسؤولية المنظمة وتمثيل الحزب أمام الجهات السياسية التى لنا علاقة بها. لم أجد تفسيرا لعدم التشاور معي قبل إتخاذ القرار، خاصة وإن إثنين من أعضاء المكتب السياسي كانا يقيمان معي في نفس الشقة آنذاك وهما الرفيقان زكي خيري وثابت حبيب العاني. خمنت بأن تسليمي الرسالة، بالطريقة التي مر ذكرها، لم تكن سوى محاولة لتجنب مناقشتي. وقد وافقت مباشرة على تنفيذ القرار لا لتجنب الدخول في إيراد ومصرف، كما يقول المثل العراقي، مع المكتب السياسي، وإنما لقناعتي بأن الموقع هو المكان الملائم بالنسبة لي في ذلك الوقت. فقد كانت وجهة الحزب هي العودة من الخارج الى كردستان العراق لخوض الكفاح المسلح ضد النظام الدكتاتوري، والإنطلاق من هناك لإيجاد تنظيمات في المنطقة العربية من العراق. وكانت طبيعة إمكانياتي ككادر ميداني تنسجم مع وجودي في وسط هذه المعمعة. ولكن إستخدامي لسماعة الإذن كانت تحول دون تحقيق ذلك، فبطاريات السماعة يجب شحنها وهذا يتطلب توفر الكهرباء، والسماعة بحاجة الى صيانة وتصليحات وكل ذلك غير متوفر في جبال كردستان بالطبع، وتتوفر في المدن الكبيرة فقط. والى جانب ذلك فإن موقعنا في إيران أخذ يتحول الى القواعد الخلفية الأكثر أهمية لقواعد الأنصار. وايران لاتعتبر موقعا حزبيا آمنا فمنظمتنا تعمل بشكل سري، خاصة بعد أن القي القبض على الرفيق عادل حبه عضو اللجنة المركزية مسؤول المنظمة في طهران في ربيع عام 1980. ولم يكن من تقاليدنا الحزبية التهرب من المسؤوليات التي تحيط بها المخاطر. كل هذه العوامل دفعتني الى الموافقة على قرار المكتب السياسي حتى دون الإستفسار عن حيثياته ولا عن أسباب الطريقة غير العادية لإبلاغي  به.

إستقبلت أم شروق خبر موقعنا الجديد بترحاب وشجعتني عليه. كان تحفظي الوحيد والذي بحت به لأم شروق، هو إن موقعي الجديد سيبعدني عن مركز ثقل نشاط الحزب لأن موقع قيادة الحزب سيكون في كردستان، وهذا ما لا أرغب به. وبقي أمل الإلتحاق بكردستان متوقفا على إجراء عملية جراحية ثالثة للإذن، وهذه المرة ليس في موسكو وإنما لدى أشهر طبيب جراح في المانيا. وأجرى لي الطبيب المشهور العملية في بداية عام 1982 في برلين الشرقية. وفشلت العملية الجراحية فشلا ذريعا وفقدت السمع نهائيا في أذني اليسرى حيث أتلف الجراح عصبها السمعي خلال العملية. وكانت الطبيبة التي تقرر إجراء العملية قد نصحتني بعدم إجرائها وسألتني:

ـ لماذا تريد إجراء عملية لأذنك وأنت تسمع جيدا بواسطة السماعة؟

ـ أريد أن أتحرر من السماعة فهي تعيق حركتي وتلزمني بالإقامة في أماكن محددة.

ـ ولكن العملية فيها مجازفة فقد تفقد سمعك.

ـ ولكن نجاحها له أهمية فائقة بالنسبة لي.

ـ  أنا أنصحك بعدم المجازفة والأمر متروك لك.     

ـ مادام الأمر متروك لي، فأنا قررت إجرائها.

عند خروجي من المستشفى وتوديع الطبيبة إستفسرت منها مازحا :

ـ ألا تعطيني موعدا لإجراء عملية لأذني اليمنى؟

ـ لايوجد طبيب يجري عملية جراحية لإذن لمن فقد السمع بأحد أذنيه.

أجابت بهذه الجدية والحسم الألمانيين ولكن بلهجة ودية حيث كانت تعرف بأني أمزح معها وأروم تأكيد عدم مسؤوليتها عن فشل العملية.

لنعد الى قرار الحزب، فبعد حديثي مع أم شروق وفي نفس ذلك اليوم الذي إستلمت فيه الرسالة، وقبل عودة الرفيقين زكي خيري والعاني الى الشقة، ذهبت الى مكتبات دمشق وإشتريت كتابين لتعلم اللغة الفارسية، وعند عودتهما وجداني منكبا على دراسة اللغة الفارسية! درست اللغة بجدية تامة. كنت أعرف بعض الأوليات التي تعلمتها وانا في مسقط رأسي كربلاء. كنت أفهم الحديث اليومي باللغة الفارسية وأتمكن من الاجابة بإختصار. فقد كان بيتنا الذي نشأت فيه يقع في محلة العباسية الشرقية (المكلع) التي نادرا ما تسكنها أو تزورها عوائل إيرانية ولا يُسمع فيها اللغة الفارسية، ولكن في خان أبو الدهن ، حيث يقع محل عملنا، يتفاهم أكثر من خمسين عامل وحرفي باللغتين العربية والفارسية.

وأتذكر بأن الرفيق عبد الرزاق الصافي فاجأني خلال وجودنا في صوفياعندما أخبرني بأن علي أن أقوم بالترجمة في اللقاء المقررعقده بين وفدنا ووفد حزب توده ايران ، على هامش مؤتمر الحزب الشيوعي البلغاري الذي إنعقد عام 1976، فقد إعتذر البلغار عن توفير مترجم وكان من المتعذر تأجيل اللقاء. فإعتذرت لعدم إحاطتي اللغة السياسية والأدبية الفارسية، فطلب الصافي مني أن أجرب وإذا تعذر التفاهم فسنتحول الى اللغة الروسية. وكان وفدنا برئاسة الرفيق عزيز محمد وعضوية الرفاق الصافي وآرا خاجدور وأنا، أما الوفد الإيراني فقد كان برئاسة الرفيق أيرج إسكندري سكرتير اللجنة المركزية ولكن نورالدين كيانوري عضو الوفد هو الذي تحدث في اللقاء! وفعلا لم أتمكن من أداء مهمة الترجمة وتحولنا الى اللغة الروسية، وكنا أربعتنا ضعيفين بها.

تأخر سفرنا الى طهران لبضعة أشهر لأسباب فنية تتعلق بتوفير جوازات السفر الملائمة لي ولأم شروق. وخلال هذه الفترة تعلمت القراءة باللغة الفارسية وواصلت تعلمها ذاتيا في ايران وأخذت اترجم المواد السياسية التي تنشر في الصحف وإدبيات المعارضة التي نقدر بأن من المفيد إطلاع قيادة الحزب وجهاز إعلامنا عليها. وترجمت كراسا مهما لقائد منظمة فدائيي خلق ـ الأكثرية، طبعه الحزب في كراس ونشر في مجلة النهج. كنت أتفاهم باللغة الفارسية بدون أي مشكلة وأفهم أي حديث سياسي أو أدبي ولكن لم أتحدث بطلاقة في هذا المجال، ولم أتعلم الكتابة لعدم حاجتي لها ضمن مهمتي المكلف بها. إن تعلم اللغة ساعدني على متابعة الوضع السياسي بشكل جيد فكتبت بضع مقالات نشرت في الثقافة الجديدة تعالج بعض جوانب الوضع السياسي، وهي الآن غير موجودة في متناول اليد. أتذكر عنوان أحدى المقالات وكان "الى أين تسير الثورة الآيرانية ؟" وكتبته بعد الضربة التي وجهت الى حزب توده ايران . وكنت أنشر، خلال وجودي في ايران، بإسم مستعار وهو محمد أمين.

في آذار عام 1981 سافرنا أم شروق وأنا ومعنا الفقيد مهدي عبد الكريم وصديقنا  العزيز كاظم الصايغ الى طهران. ورافقنا الأخير لمساعدتي بالتعرف على بعض التجار من العراقيين المهجرين في بداية السبعينيات الذين سأحتاجهم في إنجاز بعض المهام. في مطار طهران كان التفتيش دقيقا وصادروا راديو الفقيد مهدي عبد الكريم لأنه يحوي موجة ! F M           

إستقر بنا المقام، أم شروق وأنا، في بيت الرفيق فلاح، مسؤول المنظمة الذي كان يقيم مع عائلته المهجرة في جنوب طهران. والعائلة من معارفنا في بغداد. ومعرفتي وصداقتي الشخصية مع فلاح تعود الى عام 1964 حيث باشرنا بإعادة بناء منظمة بغداد وكان عضوا في مكتب لجنة المنطقة وكنت سكرتيرها. ومن ثم إلتقينا في المنطقة الجنوبية وكان أيضا في مكتب لجنة المنطقة وسكرتيرا للجنة محلية البصرة وكنت سكرتيرأ للجنة المنطقة. كنا منسجمين ومتفاهمين وكانت علاقتنا ودية، لذلك فقد فرحنا للقائنا مرة أخرى. وتوقعنا نتائج مثمرة ونجاحا في مهمتنا. 

التأشيرة في جوازاتنا تسمح لنا بالبقاء لمدة شهرواحد قابلة للتمديد لفترة قصيرة. ومن المتعذر الحصول على إقامة بالإعتماد على جوازاتنا، فكانت المهمة الملحة أمامنا هي إيجاد وثائق شخصية تسمح لنا بالإقامة في ايران بشكل شرعي، وقد تم إنجازها بيسر. كنت أحمل هوية المهجرين العراقيين الخضراء الأصولية والصادرة من دائرة رسمية بإسمي الصريح، بدون لقب. كانت أوليات المعاملة نصف ورقة مكتوب عليها بضعة كلمات فقط وهي:

ـ الى من يهمه الأمر... حامل الورقة كان لاجئا في معسكرنا. مع ختم وتوقيع وتاريخ وإسم معسكر من المعسكرات الملغية. بدلنا الأسم فقط .
 
رافقني الى الدائرة رفيق طيب وبسيط كمترجم. إستفسر مني المسؤول في الدائرة:

ـ هل أنت عراقي؟

ـ باله، اجبته  بالفارسية ، نعم.

ـ ماهي مهنتك؟

ـ تاجر

فجأة قاطعنا مرافقي وإنبرى قائلا:

ـ أستاذ لا يغرّك منظره (الفقير) فهو ليس كذلك ، فلديه حقيبة دبلوماسية ولم يجلبها خوفا من سرقتها من راكبي الدراجات النارية!

لم يطرح المسؤول أي سؤال إضافي علي بعد سماع ما قاله مرافقي. فمنحني الهوية دون إطالة. وكان من حقي تسجيل أسماء أفراد عائلتي في الهوية فسجلت إسم أم شروق الصريح. وظلت "الحقيبة الدبلوماسية" موضع تندرنا لفترة من الوقت بيني وبين الرفيق فلاح.

يتبع[/b][/size][/font]