جنائن " بابل " المعلقة : إحدى عجائب الدنيا تكتشف من جديد
بقلم: الدكتورة ستيفاني دالي " زميلة متقدمة في بحوث علم الأشوريات بالمعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاغو وبكلية سمرڤيل التابعة لجامعة أكسفورد "
ترجمة: عمانوئيل سلمون عن الإنكليزية من مجلة منيرفا، العدد كانون الأول/ شباط 2006
Minerva, January/February 2006
كيف أمكن أنَّ علماء ألمان ضليعين بعلم الآثار عجزوا عن إكتشاف موقع إلجنائن المعلقة الشهيرة في ( خرائب ) بابل ؟ ولماذا أخفق نقش الكلام المسهب للملك نبوخدنصر الثاني في ذكر أعجوبة العالم تلك؟ هذه المسألة ظلّت عامل إرباك قائم لأمد طويل أمام علماء التاريخ القديم. أما الآن فقد تم حلها، والجواب يعد بمثابة حلٍّ للغز: إن الجنائن المعلقة كانت قد
شيدت من قبل الملك الأشوري سنحريب في نينوى وليس من قبل الملك نبوخدنصر في بابل.
هذا الحل يبدو تافها للوهلة الأولى . إذ كنّا حتى عهد قريب على قناعة من أن نينوى كانت قد دمرت برمتها عام 612 قبل الميلاد، أي قبل زمن طويل من بدء الاغريق بعُرْف عجائب الدنيا. لكنّ ذلك كان اعتقاداً خاطئاً لاستناده إلى حد بعيد، على القراءْ الحرفية لسفر ناحوم ، وسفر إرميا، وبعض المصادر الاغريقية. حيث إستعمل أولئك الكتبه الغَلو والاغراق الأدبيين للمراثي التي كانت تستخدم في الشعائر الدينية لمرافقة الاصلاح والتشجيع على استعادة الحياة في الشرق الأدنى القديم. إذ كان الغرض منها اقناع الآلهة للعودة إلى مدنها المهجورة وذلك بالمبالغة في مصير شعوبها. الحرائق والطوفان، الطاعون وهجمات الأعداء، الدمار والخروج الجماعي. كل هذه الكوارث كانت تتزامن وتحدث في آن واحد في اللغة الشعرية للمراثي.
إن بقاء نينوى وازدهارها جليّان في نوعين مختلفين من الأدلة والشواهد، المدونة الأركيولوجية. كمدينة عظيمة، ذكرت نينوى باسمها في العصر الفارسي في سفر يونان العبري. كما ذكرت لاحقا في الكتابات الإغريقية والرومانية لكلّ من سترابو، وتاسيتوس، وأمانيوس مارسيلينوس . وإنَّ تمثالاً ضخماً لهرقل، موجود حاليا في المتحف البريطاني، كان قد عثر عليه في أحد القصور الآشورية الفخمة . كما عثر على عتبة باب حجرية ضخمة ذات طراز فرثي. ومن بين النقوش الكتابية والقطع النقدية الاغريقية القليلة التي اكتشفت، سجل حاكم سلوقي ( وهو ستراتيغوس ) محفور على أحد الأعمدة. لذا كانت نينوى في ازدهار عندما كان السواح الاغريق يؤشرون عجائب الدنيا في جولاتهم العظيمة. وقد ترك ( خدش ) أحدهم اسمه أو اسم عشيقته على تمثال أشوري في مدينة نينوى. وظهر هذا الإسم للعيان منذ عهد قريب فقط ، في المتحف البريطاني، وذلك أثناء نقل التمثال إلى معرض في الخارج، إذ أبصرت عيون العاملين تلك الحروف الباهتة تحت ضوء مشرق.
إذاً، لماذا وصف زينوفون أثناء زحفه مع العشرة آلاف ( مقاتل )، في شمال العراق، المدن التي مرّ بها بكونها خَربَة؟ لقد سمّى مدينتين وهما: لاريسا وميسپيلا، اللتان زعم علماء التاريخ بأنهما نمرود (كالح القديمة )، ونينوى. في حين، ونحن نعلم الآن بأن نينوى، آنذاك ، كانت لا تزال تدعى باسمها الأصلي وكانت مزدهرة، ينبغي تقديم تفسير جديد عن إختيار زينوفون لإسمين إغريقيين غير معنيين، أي، ميسپيلا " المشملة " ولاريسا " الحصن " .
كان زينوفون، وهو أحد تلاميذ سقراط، راغباً في معرفة أيِّ نمطٍ من أنماط الحكم يبقى قائماً، وما إذا كانت الملكية الموروثة، أو القيادة العسكرية، أو نمطٌ ما للديمقراطية هي/ هو الأكثر فاعليةٍ في المديين القريب والبعيد. كان زينوفون قد كتب "حياة كورش" كعمل شبه روائي: واصفا الملك المثالي أو الطاغية الذي لا تنتقل صفاته الفاضلة، شخصية كانت أم فردية، بشكل طبيعي إلى الأبناء الذين يخلفونه. وفي زحف العشرة آلاف (مقاتل) ، كان زينوفون يصف القائد العسكري المثالي مقابل خلفية أمبراطوريات فاشلة سبّب سقوطها دماراً شاملاً بسبب حكمها من قبل ملوك بالوراثة. أمّا المناظر الطبيعية لبلاد الرافدين فكانت مرقّطة بتلال من خرائب الآجر التي بدت للمشاهد الإغريقي مثل رُكم التراب المكومة للدفن. لكنها، في الحقيقة، كانت بقايا مواطن. و ميسپيلا المدينة الخَربَة، كانت من صنع زينوفون لدعم مفهومه الفلسفي القابع خلف تأليفه الأدبي. أي أن ميسپيلا لم تكن نينوى، بل كانت مدينة من صنع خيال جندي إغريقي فلسفي يزحف عبر أرضٍ من روابي المقابر والخرائب .
السؤال الثالث الذي يتطلب إيضاحاً هو: لماذا دُعيت نينوى ببابل في الأعراف الإغريقية لعجائب الدنيا؟ هذا السؤال حظي بجواب منذ عهد قريب فقط. إذ إنه منذ عهد الملك حمورابي ولاحقا، أضحت سياسة لدى الملوك البابليين إدخال آلهة مدن أخرى وعباداتها إلى مدينة بابل.
وكذلك تسمية أحياءٍ من مدينة بابل باسم تلك المدن. أحد أحياء بابل كان يدعى إيريدو، وهو إسم أبْكَر مدينة تلقّت الملكية من الآلهة وفقا لنسخة من جداول الملوك السومريين. وحيٌّ آخر كان يدعى كومار، وهو إسم مدينة جنوبية أخرى تلقّت الملكية أولاً وفقا لنسخة مختلفة لجدول أولئك الملوك. وكانت تقام في بابل شعائر دينية لآلهة أوروك – مدينة جلجامش. ومن مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، على أقل تقدير، كانت عبادة عشتار- نينوى قد أدخلت إلى بابل، مع هذا، لا نستطيع أن نثبت بأن نينوى آنذاك كانت تدعى بابل. في حين، مما لا ريب فيه، أن المدينة القديمة بورسيپا سُمِّيت " بابل الثانية " في كتابات بعض العلماء. وأصبحت إيريدو كناية عن بابل في الألقاب الملكية الإستعراضية . ومدينة نينوى هي الأخرى عُرِفَتْ ببابل ، ونال إلهُها لقب " بيل " الذي كان، من الناحية الأخرى، اللقب المستعمل لإله بابل. مثال آخر على إستعمال إسم بابل لمدينة أخرى يأتينا من سفر الرؤيا ليوحنا الرسول ( المعروف بيوحنا اللاهوتي ) والذي قصد به مدينة روما.
يظن أغلب الناس أن نبوخذنصّر هو من شيد الجنائن المعلقة، في حين تأخذهم الدهشة عندما يكتشفون بأنَّ مرجعاً واحدا فقط يشير إليه بالإسم. وهذا المرجع هو جوسيفوس ( اليهودي الأصل )، زاعما أنه نقل التفاصيل عن بيروسوس/ برخوشا. عاش جوسيفوس في فلسطين،وإنصبّ إهتمامه بالدرجة الأولى على التاريخ المعاصر لليهود. ومن الناحية الأخرى، كان بيروسوس قد كتب وصفاً لتقاليد بلاد الرافدين دون إبداء أي إهتمام معيَّن باليهود. ومما يقترب من اليقين، أن جوسيفوس أقحم إسم نبوخذنصر إما للتوكيد على قدرة هذا الرجل الذي كان قد أخضع يهوذا إلى سلطانه، أو لمعرفته بسفر يهوذا ( إيهوديت ) التوراتي الذي تمّ فيه الخلط بين نبوخذنصّر وسنحريب. هناك مرجع آخر وهو، كوينتوس كورتيوس روفوس، يقول: إن الجنائن المعلقة كانت قد شُيدت من قبل ملك أشوري حكم في بابل، أي ما يستثنى نبوخذنصّر وينطبق على سنحريب.
بعد أن تمَّ حسم المسائل التي إعترضت طريق الوصول إلى فهم صحيح، بوسعنا الآن التركيز على الأدلة الإيجابية . في نينوى، شيد الملك سنحريب قصراً وبجانبه حديقة مرفوعة إصطناعياً وسمّاها " أعجوبة لجميع الناس " وبنقش كتابّي مطوَّل، يخبرنا الملك سنحريب بأن الحديقة كانت ذات أشجار ومياه متدفقة. وأنه أنشأ إمدادا مائيا متقنا للمدينة بجلب مياه الجبال من عدة موارد إلى الأسفل – بعضها يبتعد خمسين كيلو مترا عنها - وذلك عبر أقنية وأنفاق وقنوات لجرّ الماء. بعض هذه المياه كان موجها إلى داخل الحديقة التي تظهر منخورة وغير كاملة على نحت أشوري موجود حاليا في المتحف البريطاني. وهذا النحت بالأصل كان موضوعا في قصر حفيده أشور بانيبال، الذي في عهده لكانت الحديقة تامة النمو. وتظهر على هذا النحت قناةً لجرّ الماء قادمة إلى داخل جنينة مصطّبة ( مدرجة ) منتصف المسافة إلى الأعلى من المنحدر. أي، تماماً مثلما وُصِفَتْ الجنائن المعلقة في مصدر إغريقي . وبغية إرواء المصطبات التي تعلوها، كتب الملك سنحريب على موشور حجري أنه:صَبّ ( سَكَبَ ) من النحاس أو الصفر، مستخدما أبتكاراً فنياً جديداً، أسطوانة ولولبا لصنع ما يعرف بلولب أرخميدس، بدلا من " شادوف". ووفقا لديونيسيوس سيكولوس، إرتفعت الجنائن على شكل مصطبات إصطناعية، شبه مسرح إغريقي، وهي قائمة على قناطر حجرية. إن هذا الإنشاء العمراني يتوافق مع المعنى المقصود للكلمة المترجمة ب" المعلقة " في المصادر الإغريقية الواصفة للجنائن المعلقة. كانت قناة جرّ الماء تتقاطع مع حصون المدينة وأسوارها الممتدة، والخنادق المائية المحيطة بها. هذه الإنشاءات إلى جانب القصر والجنائن المنصوبة عاليا فوق بقية المدينة لشكلت حقا منظرا مثيرا للإعجاب.
من بين الكنوز المخفية للمتحف البريطاني، حقَّق الدكتور جوليان ريد إكتشافين يساهمان في إكمال الصورة. فقد عزا إلى رسم أُعِدَّ منذ زمن طويل (وهو معروف بالرسم الأصلي) لنحت جداري مفقود حاليا، يعرض مشهدا من غرفة تتألف مجموعتها الزينية من مناظر لمدينة نينوى
(الصورة 4) . يبين الرسم الأصلي المذكور أعلاه، في أعلى حديقة شديدة الانحدار، ممشىَ حدائقيا مشيدا على أعمدة ومسقفا بقدر من العزم والثبات بحيث نمت الأشجار فوقه. إن هذا الرسم يتوافق مع الوصف الرائع الذي قدمه كلٌّ من ديودوروس وفيلو صاحب التناقضات الظاهرية. كتب فيلو كيف " أن جداول مياه منبثقة من موارد مرفوعة (منصوبة)، أي قنوات جرِّ الماء، تتدفق جزئيا عبر أقنية مستقيمة تنحدر نحو الأسفل، وكيف أنها تُدْفَعُ للأعلى جزئيا عبر طياتٍ ولوالب لتتفجر أخيرا في الأعلى لكونها مدفوعة عبر إلتواءات هذه الأجهزة بقوة ضخ ميكانيكي. ويشير سترابو إلى هذه الأوعية بالذات بكونها لوالب (وحرفيا: حلزونات). إن الممشى المشيد على أعمدة هو الذي عزَّز الشبه بين الجنائن وبين هيكل مسرح إغريقي.
بالطبع، كان سترابو على علم بان ارخميدس هو المخترع الذي إقترن إسمه باللولب الرافع للماء. ومما لا ريب فيه، أنَّ أرخميدس إستنبط الرياضيات المحيطة بعمل اللولب. بيد أن المصادر الاغريقية تذكر فقط بأن ارخميدس " وجد " اللولب في مصر. وكلمة " إفريكا" ، أي وجد باليونانية، يجوز ترجمتها ب" إخترع" أيضا. في حين ان النقش الحجري لكلام الملك سنحريب واضح في الحقيقة: لقد صبّ ( سكب ) لوالب بغية رفع الماء إلى جنائنه. ومع أن المصطبات التي إرتفعت فوق مستوى قناة الجرّ المائية مرئية على النحت الموجود في المتحف البريطاني، فهي على العموم متكسرة. لذا فإن الموضع الذي كان سيبين اللولب مفقود. كما أن القصر مرئي من أعلى زاويته اليسرى فقط (الصورة 5) . في أسفل المنحدر، تشاهد بحيرة لركوب الزوارق وللسباحة ، وربما للتدريبات العسكرية. وعلى هذا النحت الحجري صُوِّر أيضا بعضُ الرجال مع أحصنة على متن زوارق صغيرة، وآخرون وهم يستخدمون جلود منفوخة طوافة للسباحة خلسة مثل السباحين الذين يغوصون تحت الماء جزئيا مستخدمين أنبوب التنفس (الشنوركل).
كان والد سنحريب، الملك اللامع سرجون الثاني، قد شمل في حديقته بحيرة إصطناعية لركوب الزوارق. وقد يكون أول من صمّم بحيرة إصطناعية او حوضَ سباحةٍ للإستخدام الملكي ( صورة 6). إن اعجوبة الدنيا هذه عرضت للعيان قدرة الملك سنحريب على تخطيط وتحقيق إنتصار في الهندسة والتكنولوجيا المبتكرة، والسيطرة على قوة عمالية هائلة، والتضلُّع بالقوى المحيطة بالمياه.
إن مشهد الجِماع( المضاجعة )، الظاهر في النحت الجداري، يعبّر عن رجولة ملكية، وكان يمارس في الجنائن (حسبما نعلم من الشعر القديم). اما الشتلات الأجنبية والغربية، المجلوبة إلى الجنينة من أماكن بعيدة، فهي شهادة على الحملات العسكرية الكبيرة التي قهرت العالم وجعلت الأمبراطورية الأشورية أعظم من أية أمبراطورية سابقة.
في نينوى، بابل ثانية، شيد الملك سنحريب أعجوبة تعد باستحقاق إحدى عجائب العالم القديم.