المحرر موضوع: صوت صارخ من أعماق القبور المنسية  (زيارة 950 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل د. دنحا طوبيا كوركيس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 145
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
صوت صارخ من أعماق القبور المنسية
بقلم: الأستاذ الدكتور دنحا طوبيا كوركيس
جامعة جدارا/ الأردن

عدت من غربتي إلى الوطن على بساط حلم وردي فوجدته أسير مصباح فخاري كمصباح علاء الدين وقد نقشت عليه ثلاث مقاطع بخط تعذرعلي قرائته. كنت قد سمعت عن حكاية المصباح السحري والجني العجيب الذي ظل في داخله دهورا عندما كنت صبيا، لكنني لم أسمع يوما بوجود نقش أو صورة على سطحه. خلتها قطعة أثرية مزينة بنقش سومري أو أكدي أو بابلي أو آشوري خلـّفتها مافيا الآثار ورائها بعد أن حمل جحوشها ما حملوا من كنوز وهربوا بها. تأملت في النقش ثانية. أردت أن أتلمس محيطه بأناملي، ولكن الذعر تملكني خشية أن يكون في داخله عبوة ناسفة. تذكرت أنه كان هنالك مجمع للغة السريانية في بغداد. نقلت الحروف كما هي على قصاصة ورق وتوجهت ببساطي إلى المجمع مسرعا. لدهشتي، وجدت الباب موصدا ومزلاجه مختوما بالشمع الأحمر. لم أرَ أحدا ً في الجوار كي أسأله عما حل ّ بأهل الدار. بدأ السكون المخيف يلج مسامات جلدي ويتغلغل إلى أوردتي وشراييني ويغادرها مزهوا ليستقر خلف الكتل الكونكريتية المنتشرة في أرجاء البلاد في عز النهار ثم يتمدد بفعل الحرارة الملتهبة ليرقد بسلام ليلا بين قبور منسية.

توجهت ليلا برعاية ضوء قمر تموزي أول طلوعه إلى مقبرة الوركاء التي تـُعد الأشهر في تاريخ البلدان ودخلتها خلسة من الطرف الغربي. كم كنت راغبا في أن أطلق صرخة مدوية لكي أكسر جدار الصمت الذي ساد المكان، ولكنني تراجعت خشية أن يتهشم ما تبقى من عظام سواعد بناة أور وأريدو ونيبور. جلست بجانب صخرة انحنى ظهرها بفعل الزمان. أخرجت منديلا من جيبي لأزيل عنها ما علق بها من تراب لأتكأ عليها وأسند رأسي كي أتأمل النجوم التي ملأت السماء. ولدهشتي، وجدت نقشا ثلاثيا كالنقش الذي وجدته على المصباح، ولكن هذه المرة بخط آرامي قديم. حاولت قرائته فلم أفهم منه شيئا. يا لتعاستي! ضربت محيط الصخرة التي يلفها تراب غريني براحة يدي اليمنى مرة تلو الأخرى ظنا مني بأن صوت الطرق يصل أسماع أرواح ما زالت تتجول في دهاليز العالم السفلي. شعرت بأن يدي بدأت ترتجف وتنزف دما. إختلطت قطرات الدم بالتراب فعجنت شيئا منه ووضعته على الجرح كي أوقف النزف. وبينما كنت منشغلا في تضميد جرحي، لاحظت بأن الصخرة استوت وأصبحت قائمة. لم أصدق عيني. حسبت أن ثقل رأسي وجسمي هو الذي دفعها إلى الوراء فاستقامت، ولكن بعد لحظات من التأمل، سمعت صوتا أجشا صادرا من باطن الأرض يقول: لا تنبشوا في القبور أو تعبثوا بها، ولكن مضايفنا عامرة، فأهلا بكم في عالمنا السفلي كلما نحرتم بعضكم بعضا.
تملكني خوف شديد وبدأت أحدث نفسي وأتمتم بصوت خافت: ولكنني لم أسع إلى نبش القبور، يا سيدي، بل جئت هنا طمعا في طلب المعونة التي لا يقوى الاحياء على تقديمها.
وانبعث صوت أجش آخر من الأعماق:
-   وما طلبك، أيها الطارق؟
شعرت بشىء من الطمأنينة هذه المرة فقلت:
-   لم أفلح في فك رموز منقوشة على آنية فخارية والصخرة الموضوعة هنا.
تعالت قهقهات الموتى فملأت المكان، وجاء الجواب من بينها مشوشا:
-   أنا، أنت، أنتم.
وساد المكان سكون لم أعهده من قبل.
إنتصف الليل. تطلعت إلى النجوم المتلألأة التي تسبح حول القمر في كبد السماء وقد زال عني الخوف. خلتها لأول وهلة أسماء لآلهة شبيهة بإسم آنو، إله السماء، فلم تكن هي قطعا. اجتهدت في تفسيرها على أنها الثلاثية الكونية التي قرأت عنها في فلسفة وادي الرافدين إجمالا، فوجدتها الأقرب، رغم علمي بأن فك رموز حضارات اندثرت قبل الآف السنين أمر صعب. وعندما أوشكت خيوط الصباح الأولى بإسدال الستار عن حلمي الوردي، تيقنت أن ما عناه الصوت الصارخ من القبور المنسية هو دستور أخلاقي يقول بأنه ليس ثمة تفاهم وحياة شراكة بين البشر في غياب المثلث النوني: "أنا، أنت، أنتم".

الأردن في 9/8/2010