المحرر موضوع: 'جرائم ترفض أن تموت - الحلقة الرابعة'  (زيارة 2970 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Dr Talib Alrammahi

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 9
    • مشاهدة الملف الشخصي
 
'جرائم ترفض أن تموت - الحلقة الرابعة'


   الدكتور طالب الرمَّاحي
(هذه الدراسة تتناول في حلقات أكبر الجرائم المرتكبة بحق الشعب العراقي وهي جريمة المقابر الجماعية في العراق ، وكيف تعاملت الحكومات العراقية معها بعد سقوط النظام السابق في نيسان 2003 ، والجهود التي بذلت وما زالت من أجل انقاذها من التهميش والنسيان ) .
الحلقة الرابعة
وبسبب الجهود الكبيرة في البوسنة والاتصالات المكثفة مع حكومات الإتحاد الأوربي والمنظمات التي تعني بحقوق الإنسان ، وكذلك من خلال التنسيق مع الإدارة الأمريكية ، فقد تم تأسيس اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بناء على مبادرة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1996 في مؤتمر القمة لمجموعة الدول السبع الذي انعقد في مدينة ليون الفرنسية . وكان دورها الأساسي هو تدعيم التعاون بين الحكومات في منطقة النزاع للتعرف على الهويات وتحديد الأماكن للأشخاص الذين تم فقدانهم خلال الصراعات المسلحة نتيجة لانتهاك حقوق الإنسان . وكانت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين تعمل على حث المنظمات الأخرى وتشجع مشاركة الجمهور في أنشطتها وتساهم في إيجاد العبارات المناسبة لتذكار وتكريم المفقودين .
ثم تم تشكيل معهد المفقودين (MPI) للبوسنة والهرسك . وقد بني هذا الاقتراح على مبادرة من جانب مكتب الممثل السامي (OHR)  في عام 1997 وسمى بـ ( العملية المشتركة لإخراج الجثث ) التي مكنت الأطراف المتحاربة الثلاثة السابقة من إجراء عمليات استخراج الجثث ذات الصلة الخاصة بأشخاصها المفقودين في أرض ( الجانب الآخر) . وتم تسليم تنسيق العملية المشتركة لإخراج الجثث في نهاية المطاف إلى اللجنة الدولية لشؤون الأشخاص المفقودين التي قامت في صيف عام 2000 بتأسيس معهد الأشخاص المفقودين وتسجيله في محكمة كانتون سراييفو .
ومنذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 ، كانت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين أول من استخدم الحمض النووي كخطوة أولى في التعرف على هويات أعداد كبيرة من الأشخاص المفقودين من الصراع المسلح . وقامت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بوضع قاعدة البيانات لأكثر من 87000 من الأقارب لـ 29000 من المفقودين وأكثر من 31000 من عينات العظام التي تم أخذها من رفات الموتى المستخرج من المقابر السرية في بلدان يوغوسلافيا السابقة. تمكنت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بمطابقة الحمض النووي من الدم وعينات العظام من تحديد الهويات لأكثر من 15000  شخص تم فقدانهم بسبب الصراعات والذين تم العثور علي رفاتهم في المقابر الجماعية الخفية .
كانت إذن هناك رغبة حقيقية للحكومة في البوسنة والهرسك للتعامل مع ملف المفقودين بشكل فعال ، وهي لم تقتصر في بحثها عن المقابر الجماعية في الأراضي البوسنية أنما نجحت في الضغط على الأصراب من خلال الإتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة الأمم المتحدة والشروع بالبحث في المناطق التي يسيطر عليها الصرب المسيحيون ، فيما بقيت الكثير من المناطق في العراق محرمة على أي طرف حكومي أو مدني في البحث أو التحري عن المقابر الجماعية ، مثل المنطقة الغربية ، ونحن لانستغرب ذلك إذا ما أدركنا أن الحكومة العراقية أو الجهات التي كلفتها في تبني ملف المفقودين كوزارة حقوق الإنسان لم تقم بزيارات ميدانية إلى تلك المناطق ، لأنها لا تمتلك أصلاً لجنة متخصصة بالبحث عن المفقودين أو المقابر الجماعية سواء في المناطق الآمنة كالمحافظات الجنوبية أو تلك التي تتصف بالمناطق الساخنة كالأنبار وديالى وغيرها . كما لم نشهد أي دور للحكومات العراقية في الاتصال بالمنظمات الدولية التي تعني بشؤون المفقودين ، نعم هناك دور محدود ( للجنة الدولية لشؤون المفقودين )  في العراق بسبب الفتور والتهميش الذي يعتري ملف المفقودين في العراق ،  وكان في وسع العراق أن يتلقى الكثير من المساعدات الإستشارية والفنية منها فيما يخص وضع قاعدة بيانات لذوي الضحايا وأخذ عينات العظام للجثث التي تم إخراجها من المقابر الجماعية ، وخاصة أن هذه اللجنة تشكلت لهذا الغرض ، واستفادت من خبرتها الحكومة البوسنية  بشكل واسع في تحديد هويات ضحايا المقابر الجماعية ، كما أن لها نشاطات ، في أماكن أخرى من العالم ، بيد أن إهمال الحكومة العراقية لملف المقابر الجماعية وللمفقودين بشكل عام ، فوت الفرصة على الشعب العراقي من الإستفادة من هذه اللجنة .
ومقارنة بين ما فعلته الحكومة العراقية في ملف المفقودين والمقابر الجماعية وبين ما حققه البوسنيون نجد أن ضحايانا يتعرضون لمظلمة أخرى وهذه المرة من قبل ( ذوي القربى ) ، بعد أن تركوا للزمن أن ينشر عليهم وشاح النسيان ، وللتراب ليطمس معالم الجريمة التي عصفت بأرواحهم ومستقبل ذويهم من الأرامل واليتامى ، بعد أن ظنت عليهم حكومتهم بمجرد لجنة للتفتيش عنهم أسوة بما تفعله الشعوب الأخرى .
كما أن الشعب البوسني بإمكاناته المتواضعة استطاع أن يكسب مساندة الشعوب الأوربية بأكملها وكذالك عطف الأمم المتحدة التي أوصت بتشكيل (محكمة خاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة ) تتولى مطاردة ومحاكمة مجرمي الحرب الأصراب ، واستطاعت هذه المحكمة أن تحقق الكثير من المكاسب وعلى رأسها إلقاء القبض على الرئيس الصربي الذي قاد جرائم التصفية العرقية ضد المسلمين سلوبودان ميلوسوفيتش ومجرم الحرب رادوفان كراديتش الذي أشرف على أعدام أكثر من 7500 من المدنيين في بلدة سربرنيتسا وغيرهم ، أما في العراق فقد تأسست المحكمة الجنائية العليا بمعزل عن الاهتمام العالمي لمحاكمة رموز النظام السابق ، وكان من المفترض أن تنظم هذه المحكمة للمحكمة الجنائية الدولية ليكون لها قدرة أكبر وصلاحيات أوسع في ملاحقة رموز النظام السابق الذين شاركوا أو أشرفوا على عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية في العراق ثم هربوا إلى الخارج ، فبقيت هذه المحكمة تنتظر ملفات تقدم لها من الأحزاب الحاكمة أو المتنفذه في العراق دون أن تبادر إلى فتح تحقيق في الجرائم الكبرى التي تخص الشعب العراقي بصورة مباشرة مثل جرائم المقابر الجماعية . ومن خلال عدة لقاءات مع بعض قضاة هذه المحكمة لم أجد أي حماس  نحو جرائم المقابر الجماعية ، ومع أن هذه الجرائم تشكل دليلاً كبيرا في ملف الدعوى المقدمة من قبل الحكومة لمحاكمة 15 من رموز النظام السابق لدورهم في قمع الانتفاضة الشيعية في 1991 ، إلا أن المدعي العام لم يعتمد سوى على أدلة محدودة من تلك الجرائم .
ثالثاً : قاعدة بيانات لذوي الضحايا وللشهداء
لم يعد من الصعب التعرف على هوية الضحايا مع توفر وسائل الكشف الحديثة من أجهزة فحص عينات الحمض النووي ، ويمكن لذلك أن يتحقق من خلال جهة حكومية تتولى ذلك أو التعاقد مع شركات أجنية متخصصة في هذا الأمر ، أو الطلب من ( اللجنة الدولية لشؤون المفقودين ) للقيام بهذه المهمة . لكن كيف يتحقق ذلك الأمر في العراق مع عدم وجود مقومات تلك المهمة؟ فلا يوجد طرف حكومي أو مستقل يتبنى هذا الأمر لحد الآن ، وقسم المقابر الجماعية التابع لوزارة حقوق الإنسان في الحكومة الإتحادية لم يستطع أن يقوم بهذه المهمة لافتقاره للقدرات المالية والفنية ، وهذا ما أعترف به تقرير الوزارة الذي جاء ردا على ( تقرير مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات ) والذي سوف نتطرق إليه بالتفصيل في وقت لاحق .
ومن المقومات التي لم تتوفر للشروع بالإجراءات للتعرف على هويات الضحايا عدم وجود إحصائية دقيقة أو قاعدة بيانات لإقرباء الشهداء أو عينات للضحايا التي تم إخراج جثامينهم من المقابر المكتشفة ، لأن عدم وجود مثل تلك التفصيلات يجعل العملية شبه مستحيلة ، فلحد الآن لم تبادر الحكومة العراقية للقيام بإحصائية حتى لعدد المقابر التي تم نبشها ، ولذا فإن أي جهة رسمية أو غير رسمية لا تمتلك معلومات موثقة يمكن الإعتماد عليها في أي دراسة أو بحث ، ولذا فإن عدم وجود قاعدة بيانات يعني أن الدولة لم تفكر بعد في وضع حد لمعانات مئات الآلاف من ذوي الشهداء الذين لم يتعرفوا بعد على جثامين شهدائهم ، ويحرمهم ذلك الكثير من حقوقهم الشرعية والمدنية ، مع إبقاء معاناتهم النفسية .
رابعاً : العمل باتجاه الاعتراف الدولي بجرائم المقابر الجماعية
لايوجد في قوانين منظمة الأمم المتحدة ولجنة حقوق الإنسان التابعة لها مصطلح ( المقابر الجماعية ) وكذلك لدى المنظمات الإنسانية الدولية الأخرى ، وأنما يوجد مصطلح الإبادة الجماعية ( Genocide  ) أو تطهير عرقي ، أما مصطلح المقابر الجماعية فلم يتعرف عليه العالم بعد لأنه مورس فقط خلال النصف الثاني من القرن الماضي بشكل صارخ في البوسنة والهرسك وقبلها في العراق ، ولذا فإن من أهم الخطوات التي يجب أن تبادر إليها الشعوب التي تعرضت لجرائم المقابر الجماعية هو إخبار العالم من أن ما اقترف بحقها هو إبادة جماعية أو تطهير عرقي ، وهذا ما أقدمت عليه الحكومة في البوسنة واستطاعت من خلال جهودها أن تحصل على اعتراف وتأكيد من قبل محكمة العدل الدولية في لاهاي في فبراير 2007 ، في أن ما أصدرته  محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة بأن ما جرى في سربرينيتشا من مقتل 8000 من المسلمين البوسنين ودفنهم في 77 مقبرة جماعية عام 1995 كان إبادة جماعية ، وهذا القرار من المحكمة الدولية قد ثبت جرائم المقابر الجماعية لدى المنظمة الدولية ولدى الإتحاد الأوربي وكل المنظمات الإنسانية على أنها إبادة جماعية ارتكبت بحق الشعب البوسني .
كما أن الأخوة الكرد استطاعوا أن يستحصلوا على اعتراف البرلمان العراقي في فبراير 2008 من أن جرائم الأنفال المعروفة التي مورست بحق الشعب الكردي خلال فترة النظام السابق هي إبادة جماعية .
ونتيجة للجهود الكبيرة التي بذلتها الحكومة الكويتية فإنها استطاعت أن تحصل على اعتراف من قبل لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بـ 600 مفقود لديها أثناء الغزوا العراقي للكويت في الثاني من آب 1990 .
أما الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي في زمن النظام السابق ، فمع ضخامتها وبشاعتها  فقد تعامل معها العالم وكأنها جرائم مجهولة ، لأن أصحاب العلاقة من حكومات عراقية ومنظمات مدنية لم تقم بأي جهد يمكن من خلاله تعريف العالم بتلك الكوارث الإنسانية التي مورست بحق الشعب العراقي خلال حكم حزب البعث ، فلا البرلمان أقدم على اصدار قرار يعتبر جرائم المقابر الجماعية إبادة جماعية ، ولا المحكمة الجنائية العليا تعاملت مع تلك الجرائم بما يضمن أعتراف المحكمة الجنائية الدولية بتلك الجرائم واعتبارها إبادة جماعية كما فعلت محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة .
ولذا فإنه يترتب على المخلصين من البرلمانيين أن يقدموا مشروع قرار يلزم البرلمان العراقي بالاعتراف بجرائم المقابر الجماعية واعتبارها إبادة للجنس البشري وتطهير عرقي مارسه النظام السابق بحق الشعب العراقي خلال الحقب الثلاث التي حكم بها العراق .
يتبع الحلقة الخامسة إنشاء الله