المحرر موضوع: أزماتنا في ميزان العلاقات العاطفية والوجدانية  (زيارة 3487 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

أزماتنا في ميزان العلاقات العاطفية والوجدانية
أ‌.   نويل فرمان السناطي
 


 في البحث عما تكون عليه العلاقات الوجدانية والعاطفية، عندما تكون في أفضل أحوالها، تتسلط الأضواء، في الجهة المقابلة، على الكثير من أسباب الأزمات العائلية والاجتماعية وحتى السياسية، التي نشهدها. ويتبين ما إذا كان هناك مجال لمعالجة ما يمكن معالجته من هذه الأزمة أو تلك.
مواقف من الانفتاح المبكر على العلاقات الوجدانية
1- هناك موقف من العلاقة لدى الشباب اليافع، عندما يتفتح إلى الحياة ويتطلع أن يجد موقعه في المجتمع ويتوخى المواكبة لمجتمع المتقدمين عليه في النضج والبلوغ. هذا الموقف، يتمثل عند نمط من الشباب أنه غير مستعد للعلاقة العاطفية، مفكرا في ما يجده من استلاب لدى الآخرين، عندما يلاحظهم في حالة قلق وتذبذب وانفعال، وانتظارات لا تنتهي بين هاتف وموعد واستعجال نهاية درس. فيتجنب في سنه الدراسي المتوسط أو الاعدادي، ربط حياته بمسؤولية ليس مستعدا لها، أو  بشخص يهيمن بنحو كبير على مسيرته في هذه المرحلة.
2- وثمة موقف آخر، بحسب نوع التنشئة لدى البعض الآخر والقيم التي تربوا عليها، يقوم على التهافت للارتباط بعلاقة خاصة حال بلوغ سن السادسة عشر (!)  غير مكترث بالمؤشرات المذكورة.
مجتمع محافظ وآخر غير محافظ
في نظرة المجتمع الى العلاقات العاطفية لليافعين، يوجد تفاوت في الرؤية، بين المجتمعين الغربي والشرقي، باتجاه خصوصية التعمق في مسؤولية العلاقة الشخصية الحميمة الخاصة. فالمجتمع الغربي يعتقد إن العلاقات المبكرة هي تدرب على العيش المشترك في سن النضوج عند البالغين.
هذه الرؤية تختلف لدى المحافظين في المجتمع الغربي، وهي قريبة بنحو أو بآخر من المجتمع الشرقي المعروف بالمحافظة، سواء في الظاهر، أو في الحقيقة والواقع، وبحسب تنشئة كل شخص.
تتميز هذه الرؤية  القيمية، بأن العلاقة الوجدانية تنطلق بين الرجل والمرآة في زواج تم باختيار الطرفين وبقبول متبادل وعهد مشترك.
العلاقة والموازنة مع الوسط الاجتماعي المحيط
يستجد التمييز في أن العلاقة ليست أمرًا هينًا، وان ابن الجيل اليافع هو في مرحلة اكتشاف الذات وتكوين هوية له، كما أن التوفيق بين المدرسة والحياة الأسرية والاجتماعية وعموم الأصدقاء، كل هذا يحتاج إلى موازنة، فكيف الحال إذا أضيفت إليها العلاقة الشخصية الحميمية.
ولا غرابة ، ان نجد حتى في المجتمع الغربي، عددًا من أبناء الجيل اليافع يفضلون الدخول في علاقة عند سن أكبر وبعد السيطرة النسبية على الأعباء الدراسية والحياتية. عندها سيكونون في مستويات أفضل للتوفيق بين حضورهم الأسري والاجتماعي، ولا ينجرفون الى تعويض العلاقة والارتباط الوجداني بشخص ما، كبديل مطلق عن الأهل وعموم الأصدقاء. بحيث يحفظون مكانة للناس المهمين في حياتهم العائلية وعلاقاتهم الاجتماعية. على أن العلاقة ترتبط، بحسب المطلعين، على جملة مقاييس اقترحتها الخبيرة التربوية الكندية، جنيفر روزاينس روي، في النقاط الأتية.
مقاييس لعلاقة المتوازنة
- ان تكون (أو تكوني) مع شخص يحترم حقك، امام هذا الأمر أو ذاك، في قول كلمة (لا) بكل تلقائية.
- يتعامل معك بأدب وذوق.
- يوحي لك، بل يجعلك تحس بالامان والاطمئنان.
- يوافق على احتمال ان تكونا غير متفقين على رأي ما.
- يكسب ثقتك ويعول بثقة على صدقك.
- ينتظر بأريحية، حصول استعدادك لهذه الخطوة أو تلك، ولا يزاحمك أو يتضايق قبل وصولك الى هذا الاستعداد (وهذا غالبا ما يكون شأن الشاب، في مجال الاعداد لموعد زواج، او تنفيذ مشروع مشترك).
- أن تجد في الآخر طرفًا مساعدًا في إحساسك بالارتياح لدى اللقاء به.
وقد وصفت جنيفر روي العلاقة الصحية من خلال عدة مؤشرات.
من مؤشرات العلاقة الصحية
- أن لا تحس ، بالتوجس أو الخوف من الطرف الآخر، ويكون لديكما اطمئنان متبادل في الثقة والتعاون.
- الاحساس بالفرح والارتياح في الوقت الذي يجمع الطرفين، ويقبل كل طرف، تلقائيا، بأن يكون للطرف الآخر مجاله من الوقت لشؤونه ولاستقلاليته.
- التعامل، بحسن نية وصدق وبالامكانات المتوفرة، مع صعوبات الاخر واحتياجاته، وذلك بإيجابية وغيرية وما
أمكن من تفهم وتعاون.
- الاقتناع بأن ما يقدمه طرف امام معاناة الآخر واحتياجه، هو ما يتوفر له تقديمه ضمن ظروفه وخصوصيته، وما يحسن تقديمه بالحدود المتوفرة، بنية صادقة، بعيدة عن إيحاء أي انطباع لدى الآخر أنه مثار ضجر، عندما لا يستطيع شريكه اكثر من ذلك. ولا يحس المحبوب بالاحباط عندما يستجد ما يدعو المحب الى الانصراف الى شأن ضروري أو عمل مطلوب.
- عندما يستجد اي خلاف في الرأي يتناقشان ويتفاوضان بحيث يرضى كل واحد بحصته..
إن التأكد من صدق النية، لدى كل من الطرفين، يبعد عن احدهما الشعور بالذنب، وعن الاخر حالة الاحباط، أي يترك الطرفين في حالة من الطمأنينة والتفهم والقناعة ، بعيدا عن الاحساس بالغبن أو الشك في أنانية الآخر أو الظن في تهربه.
بعد مدة من الزمن: ناقوس القلب يدق له
كنتيجة لهذه المؤشرات مجتمعة، يأتي إحساس مرهف بالسعادة والفرح، في حضرة الآخر، وتعقب اللقاء مشاعر من الرضا والانتعاش مقرونة بالافتقاد المحبب. ومما سبق ذكره، يتبين إن علاقة الصداقة الحقيقية والحميمة، تحل بعد وقت من الاختبار.
في مرحلة الاختبار هذه، تكون قد سقطت التحفظات والتقيدات لدى الطرفين، ويظهر كل منهما، بكل بساطة، على حقيقته ، بعد ان يكون قد ظهر حتى في جوانبه الصعبة او المتواضعة، إن لم نقل السلبية.
عندها تحجم الهالة التي ترافق اللقاءات الأولى ويرى كل واحد الآخر بوضوح أكثر.
وعندها، يتأكد الطرفان أنهما مجتمعان بسعادة على الحلوة والمرة.
وبعد زمن الاختبار هذا، يستقر قرار الطرفين، أنهما لبعضهما، برغم ما يطرأ من صعوبات مما لا تخلو منه الحياة اليومية، في مماحكة، أو ردة فعل، ويكونا قد تعودا على طريقة مواجهة الصعاب، وتعرفا على نواقص كل من الطرفين. فيقبل كل واحد الآخر، كما هو، على كل حقيقته.
وفي أجواء القبول هذه، يكون الاحساس بالحميمية، كل يوم، على نحو أعمق، مما يتضمن:
الالتزام الطوعي، المشاعر الراسخة، الرغبة في المواصلة، مواقف متفاعلة مع الحميمية والشوق والارادة الطيبة. كل هذا كفيل بالسعي المشترك الى علاقة مستديمة متواصلة، يكللها حب الآخر، حينها، على حد ما تغنى به عبد الوهاب: ناقوس القلب يدق له، وحنايا الأضلع معبده.
بين العلاقات الناضجة وغيرها
هذا ما يميز علاقة انضجها الزمن، عن علاقة سريعة بين يافعين، ممن يصعب عليهم إدامة علاقة لأمد طويل، فتجدهم يتقافزون بين علاقة صاعقة، الى علاقة أخرى، بدون أن يتركوا الزمن ينضج أيا من تلك العلاقات، بل يبقون مراهقين حتى سن متقدم من العمر، على حساب استلاب مرّ يتحمله الطرف الضحية في العلاقة، مما يؤشر افتقادهم الى فضائل انسانية عميقة، وتنقصهم قيم من الفروسية تقرها الاعراف الاجتماعية وتميز الانسان عن الحيوان.
هؤلاء لا صبر لهم، منقادون بالغريزة لا بالعقل. لا يبدون اي استعداد للسعي عبر المراحل التي من شأنها أن تقودهم الى حميمية ناضجة، طويلة الأمد.
ذلك أن النضوج الصحيح يتطلب أشهر بل سنوات,  وبالتالي،  فإن غير الناضجين، إذا كانوا يعرفون الوقوع في حميمية العلاقة، لكنهم لا يعرفون سبل المكوث فيها.
لهذه الاسباب، قلما يحدث التواصل الطيب في علاقة عاطفية تقوم في مرحلة من الدراسة المتوسطة او الاعدادية. وقلما تدوم في هذه السن، علاقة عاطفية مهما كانت جدية. لأن اليافع في هذه السن، يختلف عن الناضج، مع أنه لا يقر بهذا الاختلاف. لكنه كلما كبر تعلم أكثر، عما حوله وعما في داخله، عندئذ يتغير في ذاته، ويتغير تجاه شريكه الذي ارتبط به في علاقة مبكرة، تمت في مرحلة قريبة من المراهقة، لأن تلك المرحلة بكل بساطة، ليست عالما حقيقيا ودائميا. إذ بعد هذه المرحلة، سواء إذا أكمل الشاب الاعدادية وتحول الى الكلية، أو دخل عالم الاعمال، تتغير الامور بشكل شبه جذري، بتطور الخبرة والمهارة، مع ما يطرأ من محاذير والتزامات، والتعرف على انماط بشرية متنوعة. وهكذا، إذا كان ثمة تجاذب بين شاب وشابة يافعين، بمشاعر مهما بدت لهم جميلة، فهذا لا يعني أنهم صالحين لبعضهما البعض لمدى الحياة.
ختاما: وما خفي أعظم
إذا كان ما عرض في هذا المقال، قد يكشف بعض الثغرات في جسم العلاقات العائلية المتأزمة في مجتمعنا، فإن العنصر البشري في نواحي اخرى، يبقى عرضة لجملة من التفاعلات والتأثيرات، التي تحيلنا الى التساؤل عن جذور الازمة التي نشهدها في بعض علاقات القائمين على الكتل السياسية والقومية، وما بينهم وبين اتباعهم، وما يطرأ على السطح بأشكال مفضوحة بنسب متفاوتة، في علاقات الاكليروس فيما بينهم، وما بينهم وبين رعاياهم، قد نجد في جوانب منها، النقيض لأسس قيام العلاقات المتوازنة والصحية، عندما توضع في ميزان المقارنة مع العلاقات البشرية العاطفية والوجدانية، في الصداقة والحب. مما قد يظهر الكثير من العناصر الكاشفة، يمكننا ان نتوسمها، اذ نظرنا كيف تقوم هذه العلاقات، ومقاييسها وجوانبها الصحية. وتوصلنا المقارنة، الى ملاحظة تفاوت المستويات لدى الذين يتم اختيارهم لهذا المنصب أو ذاك، وعندما يزجون في المسؤولية الراعوية أو السياسية، عناصر مريضة، أو عناصر غير ناضجة من حيث العمر والتجربة، أكان الأمر في أقحام شباب منحرف أو قليل الخبرة، في المسؤولية القيادية في عهد النظام السابق، أو مع أشباههم في العهد اللاحق. إنها مجرد دعوة لتفحص ما يفرزه الميزان من مقارنة، مع حفظ ما ينبغي حفظه في خانة العلاقات الوجدانية والغرامية، سيما اذا وضعنا في الميزان، معادن الكثير من قادة الأحزاب القومية المتناحرة بشكل أو بآخر، والمتهربة من مواجهة الحقائق، في ظروف وخصوصية مناطقنا الجريحة. ألن نجد أن منهم من بقي يعيش مرحلة مراهقة على مختلف الصعد، مهما كان من العمر، فجرّوا على رعاياهم وأتباعهم الوبال والويلات، وما خفي أعظم.