المحرر موضوع: ما لم يقله احد عن اضراب سد دربندخان ـ الجزء الثاني  (زيارة 1843 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل دنخا البازي

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 9
    • مشاهدة الملف الشخصي
ما لم يقله احد عن اضراب سد دربندخان
إضراب بلا عنف


دنخا البازي ( ابو باز )

 الجزء الثاني

للاطلاع على الجزء الاول انقر على الرابط التالي
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,447913.0.html

في تلك الأثناء ، وفي ذلك الجو التموزي الفائق الحرارة ، قامت ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة ، والمباركة ، عام 1958. المجيدة لأنها ستبقى جرس يقرع في غياهب التأريخ الوطني العراقي الذي تأسس بعد ثورة العشرين الخالدة ، ومباركة ، لأن الشعب العراقي بكل طيوفه ، قد بارك هذه الثورة على النظام الملكي المستبد .

وعلى عكس المثل السائد " مصائب قوم عند قوم فوائد " ، لم أجن ، وغيري من العمال ، والكادحين من الثورة التي أيدناها بكل ما نملك ؛ غير البطالة وشيء قريب الى التشرد أحيانا . لقد جرى تسريحنا من العمل ، بعد أن ألغت الحكومة العراقية عقدها مع تلك الشركة ، مما وضعني وغيري من مئات العمال ، على لائحة جيش العاطلين الكبير ، الذي كانت تزخر بهم المقاهي ، والأرصفة ، الأمر الذي جعلني أواجه صعوبات كبيرة في الحصول على عمل ، بل كان الحصول على فرصة عمل ، يشبه المستحيل ، إن لم يكن مستحلا فعلا ؛ بسبب عدم توفر فرص عمل في أي من مواقع العمل ، سواء في ميادين شركات النفط ، او الشركات الأخرى العاملة في العراق .
في هذا الجو المشحون بالبطالة والحاجة التي تعيشها عائلتي ، التي كنت معنيا بأعالتها ، وبعد أن ذهبت كل محاولاتي سُداً لأيجاد عمل ، يمكن ان يسد هذا الفراغ الذي أجتاحني وأنا بلا عمل ، فقد طوقتني تلك البطالة المصحوبة في أحايين كثيرة ، بوابل من زخات اليأس الذي كان يجتاحني مع كل طلب لا أستطيع توفيره لتلك العائلة .
ومن بين حطام ذلك الأغتراب الذي كنت اعيشه ، شع بصيص من ضوء وشعاع من أمل ، يرسم لي امكانية الخلاص من هذا الكابوس الذي حرم عائلتي من ان أوفر لهم لقمة كافية تحميهم من الجوع ، وهدمةٌ تقيهم وتقيني مما يمكن أن اسمية افتراضا بالعراء . وهكذا استبشرت خيرا حينما اشار عليَ واحد من أقاربي بالذهاب الى أماكن غير بغداد وكركوك التي لم انجح بالحصول فيهما على فرصة عمل تجردني من حبل البطالة وقيدها ، الذي يلفني من كل جنباتي ، ليشدني الى القاع بكل تملك البطالة من ثقل .
نصحني ذلك القريب مشكورا ، بالذهاب الى دربنخان حيث تنفذ واحدة من الشركات الأمريكية ، مشروع سد دربندخان . وهو مشروع من الضخامة بمكان ، بحيث يمكن اعتباره أضخم مشروع إنمائي ينفذ وقتذاك في كل العراق .
لم يكتفي قريبي الطيب بالنصيحة تلك ، بل دس في يدي مبلغ من المال ، يمكن ان يوصلني الى دربندخان التي لم ازرها يوما ، وأيضا يوفر لي ما يمكن أن يغطي شيئا من مصاريفي من أكل وشرب أثناء سفري وبعده .
كان قريبي هذا غير متردد من تأكيده وأصراره المسبق على حصولي على العمل ، في الأقل ، بسبب معرفتي اللغة الأنكليزية بشكل جيد، قراءة وكتابة ، ناهيك عن تجربتي بالعمل في شركات الحفر كما أسلفت ، في سهل سنجار وتلعفر؛ وكركوك . كما أنه من اجل ان يعزز ثقتي بما قاله ، فقد ذكرني بأن هناك شخص من المعارف القريبين يعمل في نفس المكان ، وسوف يساعدني في كيفية الحصول على العمل . وإنه سوف لن يبخل علي بشيء .
لم تتعب ذاكرتي كثيرا بأستحضار شكل ذلك الشخص إنه سيد وليم ، فتذكرته بكل تفاصيله ، انه شخص كريم شهم ، لا يتأخر من تقديم المساعدة لليد التي تمتد إليه طالبتا العون ، بغض النظر عمن يكون صاحب تلك اليد ، قريب او غريب .
بحديثه الواثق ذلك ، كان قريبي قد اودع في روحي طمأنينة طاغية ، كنت قد افتقدتها طيلة فترة بطالتي التي أفتضت كل تطلعي بالأستقرار ، ولم يبق أمامي ، غير أن احزم حقيبتي الصغيرة ، وأسافر الى دربنخان ، التي ربما سأجد فيها ما يبدد مخاوفي من عدم الأستقرار أو غيرها من الهواجس والمخاوف التي كانت تجتاحني طيلة زمن بطالتي الذي طال ، وكأنه بلا نهاية ، ولم اعد ابصر في نفقه المعتم غير الظلمة .
* * *
لم تكن مدينة دربندخان ، سوى أخاديد ومرتفعات تنسدح على طبيعة توفر لها كلما تعشقه العين من خضرة وشجر وماء . يخترق حوافها نهر سيروان الهابط من جبال بعيدة ، بقمم مكللة بالثلج ، الذي يستحيل عند ذوبانه الى نعمة تحيل الزرع والضرع الى حياة وديمومة ترفل بالخير .
لم تكن بيوت تلك المدينة الصغيرة قبل مجيء الشركة الأمريكية إليها ، قد تجاوزت العشرات ، ولكنها بعد ذلك ، جاوزت الخمسمائة بيت ، أغلبها من الطين والحجر ، وهي بالعموم ، منازل تعود لفقراء تلك المدينة ، منازل المدينة تلك ، كانت عبارة عن الآنية التي تضم كل سكنتها ، الذين تعايشوا بسلام مذ فتحت هذه المدينة عيونها للشمس والبرد . هذا التكوين البشري المتطامن ، ضم أيضا القادمون اليها من مدن وقرى أُخرى طلبا للعمل في المشروع .
حال وصولي الى منطقة سكن قريبي ذاك ، سألت عنه ؛ فدلني أحد الطيبين على البيت الذي استأجر فيه قريبي واحدة من غرفه الطينية . كان البيت عبارة عن بناء بسيط من الطين يتكون من ثلاث غرف ، تحيط بالحوش الذي يتوسطها ، الى جانب زاوية في أحد الأركان ، كنا نسميه مطبخا ، يشترك به الجميع لأعداد طعامهم . أما المرافق ( اللاصحية ) التي يتشارك بها الجميع ، فتقع في ركن آخر من باحة الحوش . يسكن هذه الغرف ، خمسة من العمال العاملين في المشروع . تلك الغرف ، كانت بلا مواصفات مميزه ، خالية من اي اشارة للتنظيم ، شأنها شأن أي غرفة يسكنها عازب وحيد ، وغريب .
إذن سأعيش في هذه الدار التي تعودت عيوني وروحي على التعايش مع مثلها ، لأني سبق أن سكنت في دور ، وغرف مماثلة لهما ، حينما كنت أعمل في مدن غير مدينتي ، وأسكن في بيوت غير بيتي ، وأنام في أفرشة غير فراشي .
استقبلني قريبي ولم يُخَيبَ ظني . فقد احسن استقبالي كما توقعت ، وأدخلني غرفته البسيطة المؤجرة في هذا البيت . وبعد أن فرغت جعبته من مفردات الترحيب ، وكذا الأسئلة عن الأقارب والأهل ، دعاني الى العشاء في أحد المطاعم البسيطة ، نظرا لأنه لم يعلم بقدومي مسبقا ليتهيأ لأستقبالي ، أو ليعد ما تتطلبه ضيافة الأحبه امثالي حسب قوله ، الذي لا أشك أبدا في مصداقيته . كما إنه كان مضطرا للذهاب الى العمل بعد ساعة من وصولي ، لأن فترة عمله هي الفترة المسائية ، مما استوجب ، دعوتي للمطعم .
كان الوقت يقترب من المساء عندما اخبرته عن سبب مجيئي الى دربندخان ، فلم يزد على ما دعا لي به بالتوفيق في الحصول على العمل . عندها هممنا بالخروج من الغرفة الى المطعم لنتعشى ، بعده ، يذهب هو الى العمل ، وأعود أنا الى الغرفة التي وضع مفتاحها ومفتاح البيت على الطاولة الكسيحة ، القائمة على ثلاثة أرجل قائلا :
هذه هي المفاتيح . احتفظ بها ، وستنام الليلة في فراشي هذا ، لحين عودتي من العمل في الساعة السابعة صباحا ، لتنهض أنت وأنام أنا على نفس الفراش . فليس هناك من حل . ابتسمت له إبتسامة تعبر عن شكر يعجز اللسان عن قوله ، وتركني في وحدة مألوفة ، كنت قد عشتها سنوات وأنا اتنقل من عمل الى عمل ومن مدينة الى أخرى .
كانت ليلتي طويلة حافلة بأحلام يقضة ، حافلة بآمال ضاحكة بالحصول على عمل ؛ فأسعد . ولم تتركني الكوابيس التي داهمتني تلك الليلة ، إلا اشبه بالحطام ، ممد على محفة أكثر منها فراش .
نهضت فجرا من الفراش المحفة مهدود الحيل ، بعد ان عصفت بي فصول مختلفة من كوابيس سادها اللامعقول من أحداث لم ادر من أين أتت فواتت منامي . كانت تلك الكوابيس قد ركبت صدري ، فلم استطع معها حراكا ، لأتخلص من مطارديً ، من الأشباح ، وغير الأشباح ، الذين افترسوا مني كل أحلام اليقظة المبتسمة التي أحاطتني أثناء يقضتي .
ومع اشراقة الشمس ، وقبيل مجيء قريبي ، خرجت الى السوق ؛ لأشتري ما يمكن ان نسميه فطورا ، مع بضعة أرغفة من الخبز . وعندما جاء قريبي مكدودا من عمله ، وجد كل شيء حاضرا على الطاولة الكسيحة ؛ الشاي الساخن والخبز الحار كانا جاهزين لسد الرمق ، بعد ساعات من العمل المرهق في شركة ( D.K.C ) الأمريكية .
وقبل أن ينام وأثناء تناول الشاي ؛ شرح لي كيفية الوصول الى بوابتها الحديدية . وصلتها بعد مسير في وادٍ فسيح عميق ، يقع عند أسفل القمم الجبلية التي تحجب عنك السماء , والتي تتكل بالثلج شتاءا ، فيكون المكان باردا الى حدود لا تحتمل . أما في الصيف فإن درجات الحرارة تصل أحيانا الى مستوىٍ عالٍ لا يطيقه بشر، إنه فرن يستعر بلا نار . غير إن للقمة العيش متطلباتها التي تقتضي من العمال ، تحمل تلك الأجواء التي لم توفرمعها تلك الشركة الأمريكية أي من متطلبات الراحة الدنيا لعمالها الذي تجاوز عددهم الثلاثة آلاف عامل .

يتتبع الجزء الثالث