المحرر موضوع: ما لم يقله احد عن اضراب سد دربندخان /الجزء الخامس  (زيارة 1568 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل دنخا البازي

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 9
    • مشاهدة الملف الشخصي
ما لم يقله احد عن اضراب سد دربندخان
إضراب بلا عنف

دنخا البازي ( ابو باز )

للاطلاع على الاجزاء الاخرى انقر على الروابط التالية
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,447913.0.html
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,448118.0.html
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,449096.0.html
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,449765.msg4868817.html

الجزء الخامس

ماذا يريد حضرة المعاون ؟
فرد أحد الشرطيين بلا مبالات : لا ندري . ولكنك يجب ان ترافقنا الى المركز . وبذات البرود واللامبالات ، سألتهم : هل معكم أمر بالقبض علي ؟
رد الذي وشح ذراعة بثلاثة اشرطة سوداء : لا .
نطقت بعد أن مضغت لقمة الثريد المحمرة بفعل الطماطم : أذاً لن اذهب معكم ، ما لم تقولا لي السبب .
فرد ذلك الشرطي بنفاذ صبر : يمكن أن يكون قد طلبك المعاون بسبب تلك التواقيع التي جمعتها على المذكرة التي ستذهب بها الى بغداد .
قلت بمناكده : عن أي تواقيع تتكلمون ؟
قالا كلاهما بصوت واحد : تواقيع الناس ، العمال العاطلين عن العمل .
ضحكت ضحكة صفراء لم ترق للشرطيين ، وأعقبتها بسؤالي المستخف الحاسم : وما دخله هو ؟ هل هو محام عن الشركة أم وكيلها ؟
لم يرق الأمر للشرطيين المصريين على أخذي للمركز ، وراحا ينظر احدهما للآخر بنظرات ، قرأت فيهما قرارا يقضي أخذي بالقوة .
قهقت بصوت مازح لأتلافا نفاذ صبرهما وقلت : ماذا بكم ؟ لقد فعلت ذلك فعلا وجمعت التواقيع من العاطلين ، لأني ذاهب الى بغداد غدا ، وهناك سأفتح مشروعا يشتغل فيه كل الذين وقعوا على تلك العريضة ، حتى ترتاح الشركة ومعاون المركز ومدير التوظيف منهم . وانتم أيضا سوف ترتاحون مني ومنهم .
نظر احدما للآخر ببلادة ظاهرة تحف بهم نظرات الجالسين المتضاحكة ، وأكملت حديثي الذي بات ساخرا : اذا كان معكم أمرا بالقبض عليَ ، فأنا مستعد أن اترك هذا التشريب وأذهب معكم أينما شئتم . أما إذا كنتم بلا القاء قبض ، فلا اتزحزح حتى بالقوة ، ولكني أذكركم بأن زمن القوة قد ولى بغير رجعة . إذهبا رجاءا ، وقولا للسيد معاون المركز عن لساني :إن زمن نوري السعيد قد ولى . وإذا ماراد أن نلتقي ، فليكن لقاءنا هنا ، في هذا المكان وأمام جميع العمال ، وعندها سأكون مستعدا للتفاهم معه حول تلك التواقيع . هذا كل ماعندي ليعرفه السيد المعاون ومع السلامه . وأكملت أكل التشريب الذي جف ، مثلما جف فمي ، فتناولت قدح الماء الذي أمامي وجرعته مرة واحدة .
لم يجد الشرطيان ما يمكن أن يفعلاه ، وهما بدون أمر إلقاء القبض ، وأيضا بسبب سلاطة لساني ، وتأييد الحضور من الجالسين ، والواقفين ، بأني أملك كل الحق فيما قلت ، وأني غير مجبر على الذهاب مع الشرطة ، بدون أمر القاء القبض .
أدار الشرطيا ظهريهما لي وذهبا ، بعد أن ودعاني بلياقة غير معهودة ، بسلوك الشرطة عادة ، ثم غابا وراء الكتل البشرية ، التي وقفت تتفرج على جرأتي وغفلة رجال الشرطة غير المتوقعة . بعد أن قلت جملتي الأخيرة التي فيها كثير من المشاغبة وأكثر منه ، التحدي : اذا كان للمعاون من شغل معي ، فليأت هو الى هنا , وسأكون بإنتظاره على أحر من الجمر ، وعلى الرحب والسعة .
تطلعت في تلك الوجوه الشاحبة المشرأبة ، وقد طواها صمت يتلبسه فضول لما سياتي به الغد لي من مشاكل . لم يقلقني ذلك ، وواصلت اكل تشريبي اليومي ، وأنا اتنقل من فكرة لأخرى ، كعصفور تائة ، يبحث في فناءات البيوت عن عش كان قد بناه . فتارة استعيد بعض من صور وأحداث الماضي ، التي جعلتني أسجن ستة أشهر، ذلك لأني فقط ، كنت أقلب ورقتي ( القاعده ) أول مرة ، رغم إني حتى لم ادر انها جريدة الحزب الشيوعي العراقي ! وتارة أخرى ، انتقل الى واحد من تلك القواويش المتخمة بالقمل والبشر على حد سواء في سجن أعزل ، بمنطقة شبه مقطوعة عن كل شيء ، ومحرومة من أية صلة بالحياة .
وفي حمأة هذه التداعيات المثارة في دواخلي السارحة في صحن التشريب البارد ، تذكرت جريرة نزلاء ذلك السجن المقصلة ، التي توئد كل حلم . تذكرت كما تحدث أحدهم ، كل جريمتنا ، إننا رددنا في تظاهرة جماهيرية عارمة ، تحيا الحرية ، يحيا الوطن ، تحيا الديمقراطية ؛ والخبز للفقراء .
سكنت اصابعي جامدة فوق فمي وهي تدفع بآخر لقمة من التشريب في جوفي ، وسكنت أنا الآخر كصنم أخرس . غير إن روحي كانت تتحاور مع ذاتها فأسمعها ترصف جمل متأملة تخاطب حاضري الذي يبدو إنه تناسى ، إن لي عائلة تنتظر ، فرحت أتلاسن مع الشرطة .
كانت الشرطة ورجالها السريون المتخفون حينا بأسمال بالية , وحينا بملابس يحسدون عليها , اشبه بالبعبع الذي يأتيك في أية لحظة ، فيقبض عليك كما يقبض ملك الموت على الروح في لحظة غير محسوبة من العمر . وليس مهما الحديث الآن ، عما سيأتي عليك من ضرب مبرح بعصي الخيزران ، او أحزمتهم الجلدية التي لا تنهي مهمتها إلا وتترك آثارها من دم وقروح على جلدك المزرق .
ذهاب الشرطة دون أن يتعرضوا لي زاد في تماسكي وادركت أن نكتتي بتقديم تلك المذكرة المتوهمة الى الإتحاد العام لنقابات العمال ، والصحف الوطنية البغدادية ، قد تركت تأثيرها الملموس ، وغيرالمتوقع لدى السيد معاون مركز الشرطة ، وبتلك السرعة القياسية أيضا . ومن المؤكد أيضا ان هذه الأخبارية لم تأت أعتباطا ، ولم تأتي من السماء ، ما لم تكن قد جاءت من قبل عصابة مدير التوظيف السفلة ، وبدفع منه . ولابد أيضا من علم الشركة بالأمر .
وعلى ضوء هذا الأستنتاج قدرت أن حصولي على عمل في هذه الشركة ، أصبح من أضغاث الأحلام . وأن بطالتي ستطول وستبقى أفواه عائلتي معلقة في فراغ الحاجة ، لأمد اطول مما توقعت . لكن ذلك سوف لا يفت بعضدي وبعضد قناعتي التي تآخت مع سلوكي وقناعاتي السياسية التي مدتني بها عضويتي في الحزب الشيوعي العراقي . فما أنا ماض فيه ، ليس به عودة الى وراء . وعليَ ان اغذ السير الى أمام ، من اجل ما إقتنعت به " وطن حر وشعب سعيد " .
تندت من شفاهي إبتسامة تحمل كل معنى الشماتة بهؤلاء الذين ضربوني وأهانوني وغيري عشرات المرات ، لأن بدلاتهم الكاكية وسداراتهم المتوجة بالتاج الملكي كانت تعطيهم سلطة ان يهينوا أي كان من الذين يرفعون صوتهم من أجل الفقراء .
ذابت تلك الأبتسامة في حوارات روحي الداخلية ، وهي تمتثل للقول الشائع " يوم لك ويوم عليك " .
من كان يصدق إن يوما كهذا الذي نعيشه ، سيأتي ؛ يوم يتاح فيه للمواطن أن يقول ويساءل أقوى مؤسسة قمعية وهو يدافع عن حقوقه كمواطن . يإلهي من كان يستطيع أن يقف موقفي هذا ، حتى أمام ظلها ، وهي الشرطة ، وهو ضامن ان لا يتعرض جلده للزرقة ، أو وجهه للكدمات من قبل جلاوزتها ؟!
ناجيت روحي بذلك ، وكأني أصلي من اجل أن تدوم الثورة التي حمت إنسانيتي الآن ، بغض النظر عما سيحمله الغد من مفاجآت , بسبب تحركات أعدائها الكثر في الداخل والخارج ، من اجل العودة بنا الى النظام السابق .
ذهبت لأغسل يدي , ولما عدت الى طاولتي ، كان قد سبقني إليها شاب يتسم بالوسامة بالوجه ، والطول بالقامة . وقبل أن أتامله مستفسرا عمن يكون ، كلمني بلغة كوردية طليقة ، وغالبا ، بلغة عربية لا تلد المعنى بيسر : سمعنا انك قد جمعت عدد من التواقيع . قلت وبلا أدنى تردد : نعم . فهل تريد اضافة توقيعك بإعتبارك عامل عاطل ؟ رد هو الآخر بلا تردد أيضا ، ولكن بظل ابتسامة تنم عن طيبة : لا ، أنا عامل في الشركة ، وعضو في الهيئة الأدارية لنقابة العمال فيها . وأسمي حسين عيشاخان .
قلت وفي كلامي ملامح خباثة غير خافية : وهل توجد هنا نقابة حقا ؟ فهز رأسه علامة الأيجاب ، دون أن يضع اعتبارا لخباثتي التي لا تحتاج الى البوح . وأضاف : توجد هنا نقابتان ، واحدة صفراء تعود للحزب الديمقراطي الكوردستاني ، والأخرى حمراء تعود للجميع . قلت وما تزال ملامح الخباثة تنسج وجه سؤالي غير البريء : وأكيد الحمراء يقف خلفها الحزب الشيوعي . على كل حال . أنت من أي من الأثنين ؟ الصفراء ، أم الحمراء !؟ أجابني بكل ثقة وهدوء مغلف بأبتسامة يتندى منها خجل الأدعاء : من الحمراء يا عزيزي .
لا أدري أي من الهواجس دفعتني في حديث ناقد عن تلك النقابتان وأدائهما الذي لا يلاحظ : جميل أن اسمع أن هناك نقابات للعمال في الشركة ، رغم أنني ، ومنذ ما يقرب من الشهرين ، لم ألمس أي نشاط ، او حركة مطلبية لكم ، والجميع يعرف قلة ما تقدمه الشركة من خدمات للعمال ؛ ناهيك عن الفصل الكيفي من العمل ، والتعيين بالوساطات وقبول الرشاوي من قبل مدير التوظيف وعصابته ! أين انتم من هذا الوضع , وأي نقابة هذه التي لا تدافع عن حقوق العمال ، وهم بأمس الحاجة لمن يدافع عن حقوقهم ، ولماذا تسمونها نقابة للعمال ، إذا كنتم من أصحاب الياخات البيضاء مثل ما قال صاحبكم ابو شوارب !
دفعت جملتي الأخيرة الى سطح الحديث الذي سخن ، بإبتسامة عريضة ، حتى لا افسد على هذا الشاب الواضح الطيبة ، ثقته بنفسه ، التي دفعها أمامي كورقة رابحة في سجال من طرف واحد .
علق بصوت خفيض على كلماتي الخارجة من وجدان ، ثلمته الحقوق المنقوصة للعمال في هذا الموقع من مواقع العمل في العراق الجديد وقال : إننا نبذل كل جهدنا من اجل مصالح العمال ونقابتهم ، ولكن الأمر يحتاج الى عمل مضاعف لكي نحقق ما تطمح أليه ، والذي تنادي به ، لا اعتقده بعيدا عن أذهان الهيئة الأدارية للنقابة ،التي انتمي إليها . لذلك أدعوك الآن لزيارة مقرها ، للتعرف عن قرب على أحوالها.
لم تهزني أو تبهرني هذه الدعوة السريعة ، ولم تغرني بتلبيتها ، فأعتذرت حينها ، ولكني وعدته بالزيارة في مساء نفس اليوم ، حين تكون الهيئة الأدارية حاضرة ، حتى يمكن أن تكون للزيارة من فوائد ، وأيضا أن يكون لها معنى .
في المساء كنت هناك ، وكان أغلب أعضاء الهيئة الأدارية للنقابة موجودون كما توقعت . هذا محمد مرزا سعيد رئيس النقابة , وذاك عيشاخان ، وذا ميخائيل شعيا ،وأيضا ابراهيم الذي ينادونه أبو خليل ؛ وهذا برويس الجاف .
لم يدم تعارفي بالجميع سوى دقائق ، كنت اعرف وجوههم وبعض ألقابهم حين يشار اليهم حين يمروا أمام جمهرة العاطلين تحفهم كثير من الملاحظات التي ليست لصالح نقابتهم ولا لصالحهم . اما التعليقات فكانت كما أتذكرها معبرتا عن سخط مبرر من العاطلين المتجمهرين يوميا أمام البوابة التي يقترب شكلها من بوابات المعتقلات التي أوتني زمنا ، أو من الذين سرحوا من الشركة على أمل عودتهم الى العمل بعد أن دفعوا لمدير التوظيف ما طلب منهم كرشوة مقابل عودتهم من جديد ، وأيضا من الذين سرحتهم الشركة بسبب المرض ولم تعوضهم بأي شيء فيجيئون الى بوابة الشركة كل يوم ، علها تستجيب لطلباتهم بالتعويض ، خصوصا وإن أمراضهم كانت بسبب العمل وأثنائه .
كانت سمعة هؤلاء النقابيون لا تسر ، حتى يخيل لمن يسمع الملاحظات عليهم ، بأنهم لم يكونوا إلا مدافعين عن الشركة ، وهم والحالة هذه لا يختلفون عن مدير التوظيف في نظر العمال ، بل يحسبهم البعض على إنهم من بطانة ذلك المدير الملطخ بعار الرشاوي وصناديق الويسكي .
دار بيننا حديث طويل نسيجه هي العزلة التي تعاني منها النقابة ، من الناس العاديين ، والعمال غير الشيوعيين ، بل العزلة تأتيهم بقوة حتى من العمال الشيوعيين الذين لم يتلمسوا أي نشاط للنقابة في الدفاع عن حقوق العمال ومطالبهم بتحسين أوضاعهم الخدمية والمعاشية التي كانت تتغاضى عنها الشركة ، فتركت مدير التوظيف ، يتصرف على هواه مع العمال دون مراعاة لأي مهني أو أخلاقي .
هدأتٌ من الصمت ، سادت هذا اللقاء غير المخطط له ، بعد ان أخضعنا كل شيء للتشريح والنقد ، وقد شاركتهم في استعراضاتهم للمشاكل ، بكل ما بي حرص على وجوب العمل ، لأنجاح عمل النقابة . لأنها في قناعاتنا كلنا ، تمثل وحدة العمال ، وقنطرتهم للوصول الى تحقيق مطالبهم المشروعة ، وهي بمنتسبيها وغيرها من النقابات ، سياج يحمي جمهوريتنا الخالده ، من المتربصين بها .
لم تطل هذه الهدأت من الصمت غير الثقيل ، والتي كانت تعني بمقاييس العمل السياسي والمهني الجملة الشهيرة : ما العمل ؟
ما العمل أمام الأولويات المطلوب العمل عليها ، لكسب العمال ، كل العمال الى جانب نقابتهم ، ولألزام الشركة على التعامل مع معها بشكل مهني بأعتبارها ممثلة العمال الرسمية أمامها ، وأنها العقل والمهندس لما يريدوه .
كانت اللحظات تمضي كأنها ساعات ، ولكن بلا أية آلية لترجمة ما توصلنا إليه . ومن بين طيات ستارة الصمت التي كانت تسود ، كانت كذلك تخترق أسماعنا بعض من همسات ضاجة بما العمل ؟!
لم يجد لساني أمامه ، وأمام هذا الصمت الذي يعني الكثير من الأفكار التي تنتظر من يحرك رماده بمحراث يوقد نارا ، ويطلق منه العنقاء التي كان العمال بأمس الحاجة إليها ، لكي يطيحوا بالأستبداد والظلم الهمجي الذي كانت تمارسه الشركة عليهم ، وبذلك لم يجد لساني غير أن يقول بصوت واثق : الأضراب !
إلتفت إليَ الجميع بدهشة موشاة بالأستغراب ، والى بعضهم بذات الدهشة وكثير من الأستغراب وقد فتحوا أفواههم بلا شعور، وكأن كلمة الأضراب التي قلتها كانت قد فعلت فعلها ، كما فعلت كلمات علي بابا والأربعين حرامي عندما خاطب جلاميد الجبل بـ " افتح يا سمسم " ، ففتح له الجبل بابه السرية التي ضمت كنوزه التي لا تقدر بثمن . ثم اكملت حديثي المتفجر لأزيل صاعق الدهشة الذي غلب على الوجوه قائلا : انه انسب وقت للأضراب ، وليس هناك من خوف منه إذا ما نظمناه ليكون اضرابا عماليا حقيقيا خاليا من العنف . سيكون أضرابا من أجل تنفيذ مطالب العمال فقط ، ولا شيء غير ذلك ، نقطه راس السطر .
يتتبع