المحرر موضوع: يوميات ايرانية 10  (زيارة 1117 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Adel Habba

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 30
    • مشاهدة الملف الشخصي
يوميات ايرانية 10
« في: 02:09 20/07/2006 »
يوميات ايرانية 10
عادل حبه
مساعي للتغلب على العوائق

في يوم من الأيام فاجأني مراسلنا إلى البصرة كاظم الذي إجتاز الحدود لتوه وقد حمل حقيبة كبيرة معه. وعندما سألته عن صاحبها أجابني إنها تعود إلى إثنين من قادة حزب توده إيران اللذين عبرا الحدود قادمين من العراق، وسوف يسلمها إلى أحد رفاقهم في التنظيم السري لحزب توده ايران في العاصمة الايرانية. وبعد شهور علمت أن هذين القياديين هما عضوا اللجنة المركزية لحزب توده إيران الشهيد الضابط الطيار الرفيق برويز حكمت جو والرفيق علي خاوري الذي أصبح في الثمانينيات من القرن الماضي السكرتير العام للحزب بعد بطش المتشددين الإسلاميين بالحركات السياسية الايرانية. أما الشخص الموجود في طهران والذي يمثل تنظيمات طهران لحزب توده فكان عباس شهرياري الذي عرفنا بعد فترة طويلة أنه من أخطر من دسّته المخابرات الإيرانية في الحزب الشقيق وعلى الحزب الشيوعي العراقي. وكان هذا الشخص الخطير يلعب على كل الحبال ، تارة لصالح المخابرات الإيرانية وأخرى للعراقية وربما لصالح مخابرات أخرى. وسوف أعرج على تفاصيل فنونه في صفحات لاحقة. أخبرت الرفيق كاظم بأن قرار الحزب يقضي بقطع العلاقة مع تنظيم حزب توده في طهران لأسباب تتعلق بصيانة عملنا في طهران. وحذرته من تكرار ذلك لما فيه من خطر على وجودنا. وفي الحقيقة كان ذلك إنذاراً بأن نتخذ المزيد من الحيطة في طهران.
إن هذا الحدث جعلنا نسرع في نقل الرفاق من إيران إلى العراق، وكذلك إبلاغ قيادة الحزب في الخارج بضرورة التعجيل بإرسال الرفاق من الخارج إلى العراق عبر إيران. وبالفعل تم تسهيل عودة الكثيرين بعد أن تحسن وضع الحزب في داخل العراق وتنامت إمكانياته لإستقبال مبعوثين جدد. وعلى نفس المنوال عجلنا بإرسال من تطلب إرسالهم إلى الخارج عبر الحدود الإيرانية السوفييتية. وبالنظر لتحسن وضع تنظيمات الحزب في الداخل فقد بدأت تردنا بشكل منتظم النشرات والجرائد المحلية التي تنشر أيضاً نشاطات منظمات الحزب رغم محدوديتها.
كان عضو فريقنا سعيد أكثر أعضاء الطاقم إهتماماً بتعلم الفارسية خاصة وإنه إبن النجف حيث كان يحتك بالإيرانيين والعوائل المقيمة التي تتحدث الفارسية هناك أو التي تفد لزيارة العتبات المقدسة . وسرعان ما كون له بعض الصداقات مع الإيرانيين وخاصة مع من ينحدر منهم من أصول عربية سواء في عبادان أو الأهواز أو خرمشهر- المحمرة. ونتيجة لهذه الصداقات كان يحصل على بعض النشرات التي تصدرها المنظمات الدينية الموالية لآية الله الخميني التي إستمرت في نشاطها رغم ما تعرضت له من ضربات في صيف عام 1963 وبعد نفي الخميني إلى خارج البلاد. وكان سعيد يترجم لي فقرات من النشرات التي تعكس روحاً جديدة من التحدي والتي تتحلى بها المعارضة الدينية على وجه الخصوص ضد نظام الشاه. وكانت النشرات توحي بإندلاع موجة جديدة من الإضطرابات في الشارع الإيراني. فقد كان لرجال الدين مراكز هامة لنشاطهم تتمثل في مئات الجوامع والحسينيات المنتشرة في كل بقاع إيران والتي لا يستطيع الشاه وأجهزته القمعية إغلاق هذه الوسيلة الفريدة لدى المعارضة الدينية والتي لا يتمتع غيرها ، سواء التيار اليساري أو الليبرالي أو القومي الإيراني ، بمثلها.
 ونظراً لتنامي الحركة القومية الكوردية في العراق التي لقيت لاحقاً دعماً وإحتضاناً من جانب الحكومة الإيرانية في صراعها  ضد حكم الشهيد عبد الكريم قاسم، فإن الحركة القومية الكوردية في إيران قد تأثرت بقرينتها في العراق ووجدت في التطورات هناك فرصة لتجميع قواها للمطالبة بحقوقها القومية بعد سنوات من الركود الذي بدأ مع إنهيار جمهورية الحكم الذاتي الكردية بزعامة قاضي محمد في مهاباد– كردستان إيران- في عام 1946. ولقد وصلتنا في تلك الفترة أخبار عن إعتقال مجموعة كبيرة من النشطاء الكورد الإيرانيين بتهمة السعي لإحياء تنظيمات ونشاط الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران.   
وفي الواقع كانت إيران تغلي بسبب التناقضات العميقة في المجتمع الإيراني. فلم يقتصر الأمر على تململ الحركات الدينية ولا الحركة القومية الكوردية. فقد عرفنا أيضاً إن مجموعة كبيرة من نشطاء عرب خوزستان من الذين تأثروا بالحركة الوطنية والقومية الصاعدة في البلدان العربية، قاموا بتنظيم أنفسهم وبدعم مصري، على الأقل في مجال الدعاية وبرامج محطات الإذاعة المصرية الموجهة إلى هذه المناطق، وذلك  لمقارعة حكم الشاه تحت شعارات رفع الظلم عن عرب خوزستان او عربستان كما كانت تسمى قبل عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. وفي الحقيقة كان حكم الشاه يمتنع عن  أي تطوير للبنى التحتية في المناطق القومية التي لا يسكنها الفرس، رغم أن الفرس هم الآخرون كانوا في درجة متدنية في سلم التطور الإقتصادي والإجتماعي. ولحد الآن تعتبر مناطق الأقليات القومية متخلفة قياساً بالمناطق الأخرى، بإستثناء مناطق منابع النفط التي تتمركز في المناطق التي يسكنها العرب. ان هذا التمييز أدى إلى أن تتلون هذه الحركات في هذه المناطق بصبغة إجتماعية إضافة إلى طابعها القومي الموجه ضد الإضطهاد والتمييز القومي. إن إيران بلد متعدد القوميات حيث يشكل الفرس 57 %، ويشمل كل المتكلمين باللغة الفارسية واللهجات الآرية والكيليكية والمازندرانية والبختيارية، والآذريون 33-35% والكرد10% والبلوش 2,5% والعرب 5% والتركمان 2,5% والأرمن 5,.% و 0,5% ينحدرون من قوميات أخرى. ولم يجر حل مشاكل هذا الموزائيك القومي بأسلوب سلمي وديمقراطي ومتسامح بسبب تسلط الإستبداد والتطرف القومي على هذا البلد العريق. وعمق هذا المنحى عوامل خارجية ناتجة عن الصراعات بين الدول الكبرى على مناطق النفوذ في المنطقة وتأثيرات أجواء الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية. ولهذا كان العنف بالنسبة للسلطة الايرانية هو الوسيلة الوحيدة لكبح المطاليب والإحتجاجات المشروعة للقوميات والأقوام القاطنة في إيران. وعلى هذا النهج، إرتكبت المجازر ضد جمهورية الحكم الذاتي بزعامة جعفر بيشوري في آذربايجان الإيرانية عام 1946، وتم اعدام قادتها والكثير من انصارها. وفي نفس الفترة تم الإجهاز بشكل دموي على جمهورية مهاباد في كردستان إيران بزعامة القاضي محمد الذي أعدم والمئات من إنصاره بعد إنهيار نظامه. وشنت سلطة الشاه رضا الأب قبل ذلك حملة ضد المناطق العربية في جنوب إيران وإعتقلت الشيخ خزعل شيخ المحمرة وفرضت عليه الإقامة الجبرية في طهران في الثلاثينيات. ويشير تاريخ ايران الحديث الى انه بين الحين والآخر تشن الحملات التأديبية ضد مناطق الأقليات القومية في مناطق متفرقة من إيران سواء ضد البلوش او التركمان اوغيرهم، كتعبير عن أزمة الحكم وأزمة الديمقراطية في هذا البلد المنكوب. 
بدأت المعارف والمعلومات عن ايران، بحكم وجودي في طهران، تتراكم لدي تدريجياً. وأخذ يجتذبني شعب هذا البلد وأسراره والأحداث العاصفة التي مر بها. ورحت أجهد في تعلم اللغة بشكل أكثر علمي من خلال إقتنائي لعدد من الكتب اللغوية. وكثرت أسئلتي للمحيطين من العارفين بشؤون أيران وأدبها وثقافتها. وزادني ذلك إهتماماً بهذا الشعب وحضارته وتقاليده بحيث بدأت تختل تلك الصورة المشوهة التي تكونت لدي في الصبا عن هذا البلد الجار وشعبه العريق. 
ولكن يبقى هذا الإهتمام فرعياً قياساً بالمهمة الحزبية التي قادتني إلى إيران. فبعد مرور أكثر من سنة على وقوع إنقلاب شباط 1963، والأفضل القول الكارثة الوطنية التي حلت بالعراق، بدأت أدرك حجم التراجيديا التي حلت ببلدنا. فالأخبار التي ترد لنا تباعاً تشير إلى أن البلاد بدأت تخطو إلى الوراء من الناحية الأخلاقية والإجتماعية وبدأت تعيش دوامة عبثية دموية من العنف المنفلت والصراع على السلطة. وأصبح 8 شباط مؤشراً على تسلط الفئات الإجتماعية الأكثر تخلفاً في المجتمع العراقي على مقدرات الأمور في البلاد، والتي مازالت مهيمنة وفي الواجهة السياسية حتى الآن، ودفعت البلاد إلى كوارث مريعة من انقلابات عسكرية كـ "جريمة شباط" وحروب مدمرة وإنقسام حاد في النسيج الإجتماعي وإستخدام الحكام لأساليب من البطش ضد الشعب العراقي يصعب أن نجد لها مثيلاً في عالم اليوم. واستمرت هذه "التقليعة" العبثية في ظل زمرة صدام حسين الخائبة. ولعل اخطر ما حدث هو ذلك التراجع الكبير في قيم التنوير والحداثة وقواها على حساب تغلغل قيم التخلف وعناصرها حتى في العاصمة بغداد التي تم "غزوها" من قبل هذه الفئات المتخلفة. هذا الوضع المحيط بالبلاد كان يدفعني إلى المزيد من العمل لتسهيل إعادة بناء الحزب الذي تعرض للدمار على قدر تواضع مساهمتي في هذا الجهد.
مساعي فريقنا في طهران إستمرت بين عبور الحدود المختلفة، ونقل المعدات التي يحتاجها العمل في الداخل، ونقل الرسائل المتبادلة والنشرات بين الخارج والداخل، اضافة الى مهمة تسهيل نقل الرفاق من والى العراق عبر الحدود. كان وجودي في طهران دون معرفة الأهل في العراق أو في الخارج لإعتبارات أمنية لتفادي الأجهزة البوليسية العراقية أو الإيرانية. كان الخال غالباً ما يطلب مني كتابة الرسائل البريدية إلى الأهل لأخبرهم عن وجودي وأحوالي ولكنني كنت أتملص وبذرائع مختلفة عن القيام بذلك. وذات يوم فاجأني بوصول رسالة من الأهل بيد أحد الأقرباء القادمين من العراق. وكانت الرسالة الأولى التي أستلمها من الأهل منذ أربعة سنوات ، بالخط الجميل للأخت الحبيبة الكبرى فخرية، حكيم البيت ومدبره وراعية شؤونه والمربية لاجيال متعاقبة من تلميذات بغداد والحله. تلقفت الرسالة بفرح غير عادي وبحسرة لبعدي عن الأحباء وعن الوطن. شرحت الأخت في رسالتها وبالتفصيل كل ما جرى لهم وللأقارب والمعارف بعد إنقلاب شباط. فقد أعتقل غالبية أفراد العائلة الباقين في العراق وتعرضوا للتعذيب وللفصل من الوظائف، ومنهم من كان شاهداً في أقبية التعذيب في قصر النهاية على بربرية الإنقلابيين والجرائم التي إرتكبوها بحق المعتقلين. ولم ينج من الإعتقال سوى الوالدة التي أخذت تجوب المعتقلات والسجون وتقف عند ابوابها للسؤال عن مصير أبنائها وبناتها وأزواج بناتها المعتقلين. لقد أضطر من فلت من الإعتقال من الأهل إلى الإختفاء في بيوت المعارف والأقارب أنتظاراً لإنفراج نسبي في الوضع السياسي. وبدوري أرسلت جواباً طلبت من الأهل تفادي الكتابة والمراسلة. كما أنني عبرت في الرسالة الجوابية عن مشاعر من الحنين إليهم والمواساة في المحنة التي تعرضوا لها والأمنيات بإنفراج الأزمة التي أحاطت بالأهل وغالبية العراقيين.

يتبع[/b][/size][/font]