المحرر موضوع: الحصون والقلاع العراقية القديمة في زاموا وزاكروس (العراق القديم بين ديانة الأب وديانة الأبن)  (زيارة 6104 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل صلاح سليم علي

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 33
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الحصون والقلاع العراقية القديمة في زاموا وزاكروس
(العراق القديم بين ديانة الأب وديانة الأبن)

صلاح سليم علي

لإنهاء أمة، لابد من سمل عيونها و تخنيثها،  ثم محو ذاكرتها ومسح وعيها الحضاري..

تحظى منطقة زاكروس بسفوحها الشرقية والغربية معا بأهمية كبيرة بالنسبة للعراقيين القدماء ..وتنبثق اهميتها من عوامل عديدة ستراتيجية واقتصادية فخلالها يمر طريق الحريرومنها تتدفق انهار مهمة تصب في دجلة مما يجعل السيطرة عليها ضرورة لتأمين تدفق الخيول والمعادن بطريق التجارة والإتاوة مع قبائل بختياري المتنقلة في جبال زاكروس..فضلا عن كبح جماح هجمات الأقوام البدوية القادمة من الجبال..كما أن مفهوم السيادة عند الآشوريين يتضمن السيطرة على وديان الأنهار من منابعها الى مصباتها وتأمين روافدها ايضا..كل ذلك جعل من زاموا منطقة مهمة لديمومة القوة الآشورية وازدهار العراقيين القدماء منذ الألف الثالث ق.م. وحتى العهود الإسلامية المتأخرة..
وتشمل منطقة زاموا الآشورية أراض واسعة تضم عددا من المدن تمتد من الشاطيء الجنوبي الغربي لبحيرة أورميا ومن جبل سفين حتى اطراف همدان وحسنلو في عمق زاكروس ايران وشرقي اذربيجان وبضمنها منطقة كلار وحكاري مرورا بجبل قرة داغ وبيرة مكرون وراوندوز وميركة سور وابرز المدن والحصون الآشورية فيها مدينة رانية وجمجمال وأيدا (التي تطلق على زاموا الداخل او ميزاموا) وقلعة دزة وبيرة مكرون وبازيان المدينة والمعبر الذي اطلق عليه الآشوريون معبر كيروري فضلا عن بارسوا الآشورية التي اعطت اسمها لفارس والفرس في قلب جبل بيرة مكرون. وفي الواقع فأن المنطقة المحيطة بالسليمانية تعد مجمعا للحصون والقصبات الآشورية المستخدمة كمراكز تجميع للأتاوات أو كحصون تستخدم قواعد إغارة في عمق زاكروس وأورارتا (أرمينيا) أوللتصدي للأقوام الغازية من غير المانيين في حسنلوا ممن تربطهم علاقات طيبة مع آشورعلى مدى الأمبراطوريات الآشورية القديمة والوسيطة والحديثة..
و زاموا منطقة بكر نسبيا في تاريخ الأركيولوجيا ربما بأستناء جرمو في جمجمال وكهف شنايدر الذي عثر فيه على بقايا النياندرتال. من هنا فأن معظم معلوماتنا عنها ترد من النصوص المسمارية ووثائق المراسلات الملكية وبقايا المنحوتات الجدارية التي تؤرخ لأيغال المنطقة عميقا في التاريخ الحضاري لبلاد مابين النهرين.
وتعود بصمات الحضارة الأكدية والآشورية القديمة من خلال منحوتة الملك نيرام سين المحفورة على واجهة احدى حافات سلسلة جبال قوبي في دربندي كورة على مقربة من قرية قرة داغ الواقعة على بعد 70 كم الجنوب شرقي السليمانية .وتمثل الملك الأكدي الذي حكم سومروكيش للفترة 2255 – 2218 ق.م. حاملا مطرقة وعند قدمية يستلقي أثنان من اللولوبي أو الكوتيين الذين يرمزون الى اعداء أكد. وتماثل هذه المنحوتة منحوتة تصور الموضوع نفسه في متحف اللوفر. ويوجد نقش كتابي ربما كان تعريفا للملك الذي أمر بحفره إلا أن النقش ممسوح ربما بهدف تمويه التاصيل الحضاري للمنطقة. وفي موقع اعلى من مكان المنحوتة نطالع بقايا قلعة ومقبرة..وتؤكد هذه التحصينات الدفاعية القريبة من زاكروس وفي مراكز مهمة داخل زاكروس لاحقا الجهد العسكري للأكديين في اثناء حكم سرجون الأول وأبنه نيرام سين في مواجهة الكوتيين وهم أقوام زاكروسية تتواجد في منطقة همدان التي بنى فيها كيخسرو الثاني أجبتانا لاحقا. وكان الكوتيون قبائل همجية لاحظ لها من حضارة ولم يؤثر عنها شيئا يستحق الذكر سوى أنها اجتاحت جنوبي العراق واسقطت السلالة السرجونية على عهد ابن نيرام سين شار- كالي- شاري زهاء 2210 ق.م. وقد تمخض غزوهم العراق عن توقف الزمن وتعطل الحضارة وركود الحياة على مدى 100 سنة ليطردهم منها نهائيا ملك اوروك أوتوهنكال عام 2130 ق.م.
كما نطالع المنحوتات الجدارية في واجهة جبل بيرة مكرون الى الغرب من قرية زيويا في منطقة سورداش وقد عثر في المنطقة نفسها على آثار مدينة آشورية تغطي مساحة 1116 متر طولا و760 عرضا مشيدة من قطع كبيرة من الحجارة والمنحوتة البارزة تصور ملكا أوكاهنا رافعا يده في تحية يعود للألف الأول ق.م. وتطالعنا منحوتة أخرى بالقرب من قرية زرزي في جبل سرسد تمثل رجلا رافعا يده بالتحية يقابله من الجهة الأخرى رجل بزي عسكري ويمسك كلاهما بطرف قوس سكيثي..وتظهر هذه المنحوتة المعروفة ب (قزقبان) مرحلة متردية من الناحية الفنية مما يدعون الى افتراض كونها مصطنعة بسبب تنافر المباديء الفنية والزمنية فيها أذ توجد اعمدة أيونية محفورة الى جانبي المنحوتة وهو طراز من الأعمدة يعود الى 550 ق.م. بينما يفترض، ربما بدون تحقيق أو دراسة، أن تاريخ المنحوتة يعود الى الألف الأول ق.م. وأنها تمثل اهورامزدا و أحد القادة الليديين على الرغم من تأكيد المصادر وجود صراع بين ليديا والميديين وليس صداقة ..هذا فضلا عن مايزعم بأنه قصر الحاكم الميدي في شمالي العراق في وقت تؤكد الدراسات الآركيولوجية تاريخا لاحقا على المرحلة الميدية الوجيزة في تاريخ الشرق. كما أن الشكل الكروي ووجود قرص الأله سين الذي يؤكد العبادات القمرية البابلية والسومرية القديمة تطرح رموزا تتنافر مع الزرادشتية كل ذلك يؤكد على ان المنحوتة مصطنعة لأنها تحكي عن تحالف سكيثي ميدي تسبب في سقوط نينوى فكيف نفسر إذن تيجان الأعمدة الأيونية في المنحوتة او التنافرالأسلوبي والزمني في المنحوتة ولعل المزيد من الدراسات لاحقا سيميط اللثام عن هذه المنحوتة كونها غريبة ربما باستثناء رمزية الإله سين البابلي عن سياق الفن الرافدي والحضارة الرافدية في الشرق الأدنى..
وتماثل لوحة معبر بلولا جنوبي دربندخان منحوتة قزقبان من حيث تردي الجانب الفني وتمثل ملكا عند قدميه اسيرين يطلبان الرحمة والى يمين الملك كتابات مسمارية مؤلفة من اربعة اعمدة رابعها فارغ. مما يدعونا الى تتبع الأوابد في منطقة السليمانية بأعتبارها مقاطعة تابعة لآشور من خلال الشواهد النصية والدراسات المقارنة لجغرافيا وأركيولوجيا شمالي العراق والأناضول فضلا عن الأمتدادات الغربية لسلسلة جبال زاكروس والقفقاس وبحيرة ارومية. ويميز علماء الجغرافيا التاريخية بين زاموا القريبة وزاموا البعيدة او مازاموا (أيدا) وذلك بمتابعة اسماء الأماكن التي يمر بها الملوك في اثناء غزواتهم او امراء الدول التابعة في طريقهم لتسليم الإتوات الى العاصمة الآشورية وكانت الإتاوات كالمواشي توصل الى مناطق تجميع ككيليزي (قصرشمامك) و جرمو (جمجمال) بأنتظار الأمراء أو من ينوب عنهم لتقديمها بأنفسهم للملك الآشوري تأكيدا لولائهم للأمبراطورية بالمثول بين يدي الملك ألآشوري شخصيا وسواء أكانت العاصمة آشور أو كالخو او مدينة سرجون او نينوى. ولكن نمط التوسع شرقا اصبح سمة مميزة لملوك العصر الآشوري الحديث ربما بأستناء مرحلة سرجون الأول وابنه نيرام سين.
وتقسم سلسلة جبال زاكروس في اعلى قممها المنطقة شرقا وغربا الى شرقي جبال زاكروس وغربيها وتتخلل الجبال ممرات او وديان يقع اكثرها واوفرها مياها على الجانب الغربي تاركة مناطق مفتوحة تكون ملائمة لتربية المواشي والزراعة كشهر زورغربا وكرمنشاه شرقا. وقد تركزت حملات آشورناصربال الثاني في منطقة شهرزور اي السليمانية زاموا في النصوص الآشورية ..ويبدو من وصف آشورناصربال الثاني ان الطريق الذي اختاره الى زاموا كان يمر من معبر بازيان انطلاقا من النمرود فالزاب الأسفل فنامري فكلار. غير أن إبنه شلمنصر الثالث نقل ميدان المعارك الى عمق زاكروس الى مازاموا-  أي الى منطقة بحيرة أروميا حيث مدن الحضارة المانوية (الماناي) التي تحالفت لاحقا مع الأمبراطورية الآشورية ولعل هدف شلمنصرالثالث من توغله في زاموا الكبرى السيطرة على الطرق التجارية المارة الى بابل وكركميش فضلا عن الهيمنة على مناجم الحديد والذهب في حسنلو والأناضول على التوالي. وبنقل شلمنصر الثالث المعارك في عمق زاكروس، أصبحت منطقة شهرزور او السليمانية جزءا لايتجزأ من الأراضي الآشورية تبعا لنمط التوسع الآشوري في الغرب والشمال لكن شلمنصر الثالث لم يضم زاموا اروميا (أي زاموا البعيدة) الى الأمبراطورية ..وعلى عهد إبنه شمشي أدد ألخامس تجددت الحملات في عمق زاكروس لتتلوها فترة اجتاحت خلالها اورارتا (ارمينيا) حسنلو واستولت على منطقة غربي اورميا .وبعد 75 سنة تقريبا تجددت الحملات الآشورية على عهد تكلاثبليزر الثالث الذي واصل التوسع الآشوري في قلب زاكروس ونحن نلتقي لأول مرة بأسماء بارسوا وميديا وايليبي . ويبدو أن ألاشوريين كانوا يولون أهتمامهم هذه المرة الى طريق خراسان الكبير او طريق الحرير لاحقا ليس لأرباك حركة التجارة او السيطرة عليها فقط بل لضم مناطق في عمق زاكروس الى نظام المقاطعات الآشورية..ويخبرنا تكلاثبليزر الثالث أنه فرض على شيوخ الميدين الأتاوات وعين عليهم في جبال الوند وماوراءها حكاما آشوريين. وعندما تولى سرجون الثاني العرش عمل على التوسع شمالا وشرقا فسحق الأمبراطورية الأورارتية ودمر احدى اهم مدنها (موصاصير) وفيها معبد الإله خالدي وضم بحيرة أروميا ومعها جانبي طريق خراسان الكبير الى الأمبراطورية الآشورية وبالنتيجة تلاشت اورارتا من التاريخ لتحل محلها ارمينيا كما تلاشت قبلها حضارة ايدا المنيانية أما الفرس فرفضوا الذوبان في الحضارة الميدية وتمكنوا بالقضاء على الدولة الميدية بعد اقل من خمسين سنة من قيامها ليعطوا اسمهم لبلاد فارس والحضارة الفارسية فيما بعد..
وكانت التلال الكثيرة المنتشرة في المنطقة مراكز مدنية صغيرة ومعسكرات في طريق الحملات التي كان العراقيون القدماء يقودونها صوب زاكروس وعيلام ومراكز إدارة مناطقية للموارد الزراعية والضريبية ضمن الأمبراطورية، فضلا عن كون بعضها مراكز تجميع للأتوات وبخاصة الخيول والمواشي القادمة من زاكروس وعيلام. وهنا لابد أن نتفادى اسقاط مفاهيمنا ونظرتنا عن المكان الجغرافي على الجغرافيا القديمة لأختلافها عن الجغرافيا الحديثة ولاسيما فيما يتعلق بتوزيع المدن طوبوغرافيا وموقعيا وديموغرافيا. فالمدن القديمة كانت تؤسس بدوافع اساسية واخرى ثانوية وأهم الدوافع الأساسية الحفاظ على البقاء من خلال أختيار مواقع محصنة طبيعيا كمناطق التقاء الأنهار او المناطق المرتفعة الملائمة لبناء تحصينات اصطناعية تعزز التحصينات الدفاعية الطبيعية كما نلاحظ أن معظم المدن القديمة كانت تشاد على مجاري الأنهار وهذا بدهي من خلال أزدهار أولى الحضارات على وديان الأنهار الكبرى في العراق ومصر والهند واليانغتسي وانهار الشرق الأدنى الأخرى..ويتبع وفرة الماء توفر الموارد الزراعية مما يدعونا الى التفكير بأن سبب انتشار التلال في المنطقة انما يعكس انتشارا هائلا بالمراكز المدنية الصغيرة تتحول الى مراكز دفاع كلما اقتربنا من جبال زاكروس وأن انتشار الناس لم يكن متمركزا في مدن كبرى تتلوها اقضية فنواحي اصغر حجما كما هو الحال في عصرنا بل كان يتبع توفر المياه والموارد الزراعية فضلا عن قوة الدولة من ضعفها ..وان تغير اي من هذه العوامل يؤدي الى تغير الوضع الديموغرافي في المستوطنة..فكما ان مصر هبة النيل فأن الحضارات العراقية القديمة هي هبة الرافدين والروافد التي تصب فيهما..من هنا فأن البيئة هي المحدد الأول للحضارة تتلوها العوامل البشرية وأهمها الصراع للهيمنة على الموارد مما يفرض حال من التداخل بين التاريخ الطبيعي والتاريخ الأنساني فالكوارث الطبيعية في أواخر القرن الثالث عشر ق.م. المصاحبة لأنتهاء عصر البرونز كالمجاعات والزلازل صاحبت تغيرا في المناخ تسبب في نزوح اقوام بربرية من جزر المتوسط الى أمبراطوريات الشرق الأدنى ناشرة الخراب ومدمرة الحضارة الحيثية والمصرية ومدن الساحل الفينيقي واعالي الفرات كأرسلان طاش وايمار في سورية. غير أن مدن العراق لم تتاثر بالغزو الغربي المدمر ربما بسبب التفوق العسكري الهائل لتوكولتي نينورتا الأول أو لنفاد قوة الأقوام المهاجمة قبل عبورها الفرات..الى الجزيرة الفراتية في سوحو(الأنبار) وحوض الخابور والجزيرة السورية في منطقة الحسكة وغربي جبل سنجار.. من هنا فأن ميتورنات او مدن حوض ديالى (وهي المنطقة المحايثة لزاكروس في خاصرة العراق) تحظى بأهمية ستراتيجية واقتصادية كبيرة ومزدوجة لأن قربها من زاكروس يعني فقدان الأمبراطورية الآشورية لواحد من اهم مواردها وانتقال هذا المورد لقوة معادية سيرجح كفة هذه القوة على آشور مما جعلها منطقة لاتقل في اهميتها وحيويتها عن زاموا مما يفسر توغل الآشوريين في عمق زاكروس في المناطق الشرقية المجاورة لميتورنات(ديالى) وزاموا وبنائهم مواقع عسكرية متقدمة في الجبال للحيلولة دون اي هجوم يمكن لمقدمته الوصول الى حوض ديالى بل وعبور حمرين..وللسيطرة على منابع الأنهار التي تزود حوض ديالى بالمياه فضلا عن تأمين طريق خراسان..وكانت السياسة الآشورية للمنطقة تعتمد استخدام موظفين آراميين وعموريين لضمان ولائهم والحيلولة دون تغلغل العناصر الآرية المعادية من جبال زاكروس التي تعد عدوا جدوديا لدا للحضارات الرافدية المتعاقبة منذ عصر كلكامش. تؤكد ذلك اللقى الأثرية فقد تم العثور في ارزوهينا (قوش تبة) على اختام اسطوانية مدون عليها اسماء آرامية مما يؤكد أن حاكم ارزوهينا كان قد عمل في غربي الأمبراطورية سابقا أو انه كان متحدرا من أصول آرامية وهذا أرجح  لأن بيت آديني جزء من آشور في اعقاب معركة قرقر ولأن نينوى كانت مركزا تجاريا مهما للتجار الآراميين. كما أن حضارة أشنونا (تل اسمر) والتي اعتمد حمورابي البابلي تشريعها في سن تشريعاته اسستها اقوام آمورية وفدت من الجزيرة العربية وكانت تشريعات أشنونا مدونة باللغة البابلية القديمة ..التي اطلق عليها لغة المشكينوم وهي كلمة تعني اللسان العامي والأرجح انها لغة خليطة من السومرية و الأكدية - لأن دويلة المدينة في أشنونا كانت تابعة لأكد ثم بعد الفوضى الكوتية الى سلالة أور الثالثة - والعمورية التي كانت سائدة في الخفاجي وتل حرمل حيث أكتشفت قوانين أشنونا..ونلاحظ في المكتشفات الأثرية تواتر اسماء سامية أكدية وبدرجة اقل سومرية تعود الى الألف الثالث قبل الميلاد..إلا أن استخدام الحديد في الحرب الذي صاحب الألف الأول قبل الميلاد وتولي توكولتي نينورتا الثاني إدارة المملكة افرز الحاجة الى تأمين القلب الآشوري شرقي أربخا (كركوك) وشمالي أربا أيلو (أربيل) من خلال توطيد السيطرة على الجبال وضبط الهجمات المتكررة القادمة منها مما وجه أهتمام الآشوريين الى جبال زاكروس ولاسيما مع تولي آشورناصربال الثاني إدارة الدولة ونقل العاصمة الى كالخو..
وكان تنامي قوة أورارتا (المقابلة اليوم لأرمينيا واذربيجان الأيرانية) على عهد آشورناصربال الثاني قد أدى الى قطع الطرق أمام تجارة الخيول الضرورية للجيش الآشوري مما جعل انظار الآشوريين تتجه الى غربي أيران مصدرا بديلا للخيول مما اضاف سببا ثالثا مهما لتعزيز الوجود الآشوري في المناطق المجاورة لزاكروس ومنها حوض ديالى ومنطقة جبال حمرين وكان الآشوريون يقابلون في طريقهم في عمق زاكروس مستوطنات وحصون بابلية وأكدية اقامها العراقيون خلال الألف الثاني ق.م. كالحصن البابلي في سلهازي وتل آشوري (أو بيت عشتار)  بالقرب من (سنندج) الذي اشاد عليه الأكديون معبدا لمردوخ..وما تزال المدينة في الوقت الحاضر تحتضن آشوريين وآراميين فضلا عن ثلة من اليهود ايضا كان الآشوريون قد رحلوا أسلافهم اليها في الماضي الغابر..وقد تطورت العلاقات بين المدن الآشورية وزاكروس في العصر الاشوري الحديث إثرتأسيس الآشوريين لمقاطعتين آشوريتين غربي إيران هما (بارسوا) و (بيت همبان) في أثناء حكم الملك تكلاثبليزر الثالث عام 744 ق.م. ثم أردف الملك سرجون الثاني هاتين المقاطعتين ببناء مدينتين عسكريتين اخريتين هما مدينة نركال (كيشيميم)  او كارنركال التي تقع اطلالها حاليا في مدينة نجف آباد، ومدينة سرجون او كارشيروكين (هرهر) التي تقع أطلالها على الأرجح بين همدان وملايروتبعد 25 كم عن ملاير في الطريق الى همدان وقد بنى الفرس على الأسس الآشورية معبدا للنار وأعادوا تسمية القلعة فأسموها قلعة نوشيجان.. ويقينا فأن تمركز الحصون الآشورية في منطقتي همدان وكرمنشاه يعود الى كون المنطقة بينهما البوابة الأيسر الى الهضبة الأيرانية التي يعد الأشوريون السيطرة عليها بمثابة مفتاح للسيطرة على الشرق بأكمله قياسا بالمنافذ الجبلية الوعرة الى الشمال او مناطق الأهوار الى الجنوب ومما تنطوي عليه من صعوبات طوبوغرافية وعسكرية خاصة اذا اخذنا بنظر الأعتبار استخدام الآشوريين للعجلات والخيول بالدرجة الأولى..غير أن الاشوريين كانوا قد وقعوا في خطأ كبير عندما استخدموا حرسا ميديين في قصورهم كانوا السبب في تخريب دولتهم وهذا ماكرره بعدهم العباسيون باعتمادهم على الفرس ثم الترك جندا في بلاط الدولة العربية لاحقا.. كما عمد الآشوريون الى تعيين خصيان من زاكروس حكاما اقليميين على المدن التي اسسوها في زاكروس كانت وظيفتهم بالأضافة الى الشراف على تجارة الخيل وجمع الأتاوات وجباية الضرائب التجسس على نشاطات الزعماء القبليين الميديين كآىشور دا ايناني الذي كلف بقيادة حملة آشورية على الميديين في زاكروس عام 733 ق.م. وعلى الرغم من القلاقل وتتابع الخيانات في المراكز الآشورية في زاكروس وبخاصة في القرن السابع ق.م. فأن المصادر ت ؤكد استمرار السيطرة الآشورية على المقاطعات الأربع التي اسسها تكلاثبليزر الثالث وسرجون الثاني حتى عصر آشوربانيبال. وتصور لوحة آشورية مفقودة كان رسمها فلاندين في قصر سرجون الثاني في مدينة سرجون بالقرب من باريما مشهدا لحصار آشوري على قلعة كيشيميم  قبل أن يحولها سرجون الى مدينة نركال القلعة الميدية المحصنة على قمة جبل بدليل قشر السمك الذي يستخدمه الفنان الآشوري في تصوير المناطق الجبلية وفي أعلى مسنناتها قرون وعول جبلية وبينما يواصل بعض المدافعين القتال يلقي الآخرون أسلحتهم رافعين أيديهم علامة استسلام امام المهاجم الآشوري. نستنتج من هذا الأستطراد أن ميتورنات (ديالى) وارابخا (كركوك) وأربا أيلو (أربيل) كانت جزءا من القلب الآشوري بينما كان العمق الزاكروسي مواقع آشورية متقدمة وظيفتها الحفاظ على أمن القلب الآشوري وسلامته كما نجد تفسيرا لكثرة التلال التي تخفي مراكز مدنية في منطقة ميتورنات..
وهنا لابد من التطرق الى المدن والقلاع الأكدية والبابلية والآشورية في زاكروس وعبر زاكروس في أقليم كرمنشاه وهمدان واصفهان..وهي قلاع تعود الى ثلاث مراحل تاريخية مصاحبة للعصور الأمبراطورية في بلاد الرافدين أولها العصر الأكدي حيث ضم سرجون الأكدي (2276- 2215 ق.م.) بلاد عيلام الى أكد ويرجح أن تكون زقورة ومعبد أتشكاه في اصفهان بناءا أكديا عمدت السلالات الحاكمة منذ الفترة الميدية الى محو معالمها وازالة الكتابات المسمارية منها ثم بناء برج الضحية او القربان على جانب منها غير أن الفحص الكاربوني اكد ان البناء يعود الى العصور السابقة على الوجود الفارسي والميدي في أيران..غير ان المؤكد بناء الآشوريين لأربع مستوطنات او مدن عسكرية في سفوح زاكروس الأيرانية هما بيت همبان (نامار) في كرمنشاه والآخر بارسوا (وتعني المنطقة الحدودية أو الضلع، وهي تسمية لحقت فيما بعد الفرس) في (نيكور) بين أفرومان وسنندج. وكان تكلاثبليزرالثالث قد أسس هذين الموقعين عام 744 ق.م. تلاه سرجون الثاني بتأسيس مستوطنتين أخريتين هما مدينة سرجون (خرخر)التي تعرف ايضا بتليسار أو تل آشوري، سيسيري أو سيسيرتي على نهر خورخورا (كرخا)  ومدينة نركال كيشيشيم التي حولها سرجون الثاني الى مدينة آشورية بعيد دحر الميدين فيها عام 716 ق.م. وموقعها في مدينة نجف آباد في مقاطعة اصفهان حاليا. وكان الآشوريون يبنون حصونا أو يحولون حصونا ميدية الى آشورية عبر طريق خراسان وبمحاذاة نهري تورنات وخرخورا..وكانوا أحيانا يجدون مدنا عراقية كان قد شيدها البابليون او الأكديون قبل قرون في المنطقة فيجددونها ويعيدون بناءها كمدينة كودين تبة غربي ايران في طبقتها الخامسة حيث كانت مركزا لتجارة اللازورد اللابيز لازولي بين بادكشان في افغانستان والمدن السومرية..وهناك مصادر تضع مدينة تل آشوري على نهر ديالى في الحدود بين بابل وزاكروس ويطلقون عليه (سيلحازي) التي سماها تكلاثبليزر الثالث  بقلعة البابليين ..وكان قد شيد فيها معبدا تخبرنا المصادرأنه كان مقرا لعبادة الإله البابلي مردوخ..وكان تكلاثبليزرالثالث قد جلب أسرى من بيت عاديني، ربما بعد معركة قرقر في شمالي سورية، الى تل آشوري..حيث مركز عبادة مردوخ البابلية وهو إله للآراميين من بيت عاديني ايضا... ونلاحظ أن الدول الآرية المتتابعة على حكم ايران تسعى الى طمس معالم الوجود الأجنبي في تاريخ اراضيهم وهذا يفسر سبب اهمال الحصون والمدن الآشورية في زاكروس أو تمويه معالمها ببناء معابد للنار فوقها أو إتلاف الكتابات على حجارتها أو ازالتها وتدميرما يمكن تدميره منها أو استعارة افكارهما ورموزها التعبيرية وإلصاق أسماء ورموز قومية  اخرى عليها. ومن أبرز القلاع الآشورية التي طالتها يد الأهمال أو التشويه قلعة نوشيجان في ملاير بين همدان وخرم آباد حيث بني على الأسس الآشورية معبدا للنار واوقفت السلطات اية تنقيبات في الطبقة الثالثة من التل، وقلعة نهرين التي صحفت الى نيرين في يزد وهي قلعة تشبه في بنائها قلعة بيرتا (تكريت) وقد حولتها السلطات في ايران الى حاوية نفايات وكذلك الأمر في حصون صحنة وسنندج ونكشهروغيرها..
ولتتبع مسار التحولا ت التاريخية وراء اندثار القلاع الآشورية في زاموا وزاكروس وميتورنات وبالأحرى في الشرق الأدنى بأكمله لابد من مقارنة التحول في العقيدة الدينية لدى العراقيين القدماء أي التحول من ديانة الأب الى ديانة الأبن: والتحول في سياق الحضارة الرافدينية القديمة تم عبر مرحلتين الأولى على عهد آشوراوباليت الأول 1365-1330 ق.م. حيث تم تاسيس عبادة آشور كبديل عن مردوخ الذي بلغ اوج نفوذه على عهد حمورابي في القرن الثامن عشر ق.م. من الناحية التاريخية بينما ينتسب بصفته ربا للأرباب الى مراحل ضاربة في القدم من الناحية الأسطورية غذ نراه في بداية الخلق مسؤولا عن خلق العالم..إذ قاتل تيامات التي ترمز الى الشر وانتصر عليها ثم شطرها الى نصفين صنع منهما الأرض والسماء ثم اقتلع عينيها ووضعهما في أعالي جبال الرافدين حيث يتدفق منهما نهرا دجلة والفرات..فمردوخ انتصر في معركة رمزية ميدانها الخيال والأسطورة ..ويصور انتصاره على تيامات انتصارا للنظام على الفوضى وتاسيس لديانة مفتوحة على الأمم، في حين ارتبط آشور بمدينة آشور(قلعة الشرقاط)، وبالأمة الآشورية..وبينما اختار مردوخ أو اختار الملوك والكهنة له مدينة بابل ومعبدها مقرا للأقامة، يقود آشور الجيوش الآشورية ويشارك في القتال ويحرز الأنتصارات في معارك تاريخية غيرت مسار الحوادث في الشرق الأدنى بل وفي العالم القديم بأسره..فآشور إله مقاتل على خلاف مردوخ الذي اكتفى بالمعركة الأولى وبالأنتصار التأسيس الأول..وقد استمرالأختلاف في تنوع الوظائف الرمزية لأبني مردوخ أدد ونبو.. فأدد إله انواء أما نبو فإله حكمة وكتبة .. بينما اعاد الآشوريون تخليق مردوخ عسكريا من خلال إله الحرب نينورتا واعطوا أدد وظائف قتالية فهو من يحرك طيور الصاعقة ويدك بسيوله وهدير رعوده معاقل الأعداء..بينما يواصل نينورتا قتال تيامات وقد اتخذت شكل الأنزو هذه المرة ..والأنزو هو من سرق ألواح القدر وهرب للأختباء في جبال زاكروس فطارده نينورتا الى عقر داره وقتله واسترد منه الواح القدر التي ترمز الى قوة الدولة وازدهار الأرض وأمن أهلها..الدولة في المنظور الآشوري لامعنى لها بلا سيادة وبلا اعداء..لأن الدولة التي لا أعداء لها أما ان تكون لادولة او يكون اعداءها قد نالوا منها بانفسهم او بوساطة من ينوب عنهم وأزاحوا أهلها عن دفة حكمها..وهذا مفهوم طبيعي قبل ان يضع توماس هوبس نظريته عن تشكل الدولة لأن الأرض الغنية بالموارد لاتسلم من غزو الطامعين بمواردها لهذا توجب تشكيل جيش من ابنائها والدفاع عنها . غير أن الآشوريين طوروا مفهوم الدفاع الى قاعدة ربما هي الأفضل في التعامل بين الدول متفاوتة الموارد، وهي ان افضل طريقة للدفاع هي الهجوم..من هنا نرى ان تحول الديانة من الأب مردوخ الى الأبن آشور كان ضرورة املتها الظروف الطبيعية والتاريخية على سكان وادي الرافدين في رأسها ومحاجرعيونها وخاصرتها واضلاعها الشمالية...
وبينما كانت آشور وكالخو ومدينة سرجون ونينوى وارباايلو (أربيل) وأرابخا (كركوك) وزاموا (السليمانية) ونيميت عشتار (تلعفر) وتوشان (زيارة تبة) وكيليزي (قصر شمامك) وميتورنات (ديالى) وإيتا (هيت) وآميتا (العمادية) ومعلثايا (دهوك) وأنات (عانة) ودوركتليمو(تل الشيخ حمد) و سنكارة (سنجار) وعاميدا (دياربكر) وغيرها مما لايحصى مدنا للأله المقاتل آشور، كانت بابل مقرا لعبادة الإله الساكن مردوخ...
ويتضح ان لهذا التحول العقيدي ابعادا مفاهيمية ومعرفية جوهرية في محاولتنا لفهم القوى المحركة للحوادث في التاريخ بل للقوى التي تصنع التاريخ، وتلكم هي العلاقة بين العقيدة والدولة ودور العقيدة في تشكيل الدولة ثم في تكوين طبيعة النظر الى العالم..فالعقيدة الهندوستانية اوالبوذية ولدت حضارة غير قتالية بينما ولدت العقيدة الآشورية وبعدها الأسلام في عنفوانه حضارة قتالية فالهند وبسبب عقيدتها لم تشكل امبراطورية في تاريخها وتعرضت بدلا من ذلك الى غزو الفرس والمقدونيين والهون والعرب والغور والأتراك والمغول بزعامة تيمورلنك قبل ان تستعمرها بريطانيا..من هنا فان تحول الأمم القتالية او الدول العسكرية الى دول مهادنة لابد ان يسبقه تحول في العقيدة وفي النظر الى العالم..أي بكلمة اخرى تحولا بالإله نفسه..ولعل أسوء ما يصيب الأمم من كوارث ان تتبنى آلهة غريبة أوآلهة خصومها الحضاريين وتعدهم آلهة لها..مما يؤدي إلى انصهارها أو ذوبانها في خصمها..
ومردوخ بصفته إلها عالميا فتح ابواب بابل للشعوب كلها للآراميين وقبلهم الكاشيين فالميديين فالفرس فالمقدونيين والسلوقيين من بعدهم فالموالي على العهود المتأخرة.. ونحن بمقارنتنا لآشورببابل نجد تماثلا من جانب وأختلافا كبيرا من جوانب أخرى فآشور هي إبنة بابل لغة وحضارة وتختلف عنها عقيدة ودولة وربا، وتتحدث آشور بلغة واحدة بينما تتعدد لغات بابل بسبب توافد الشعوب الغازية وانتشار الآرامية في الجنوب.وبينما ورث البابليون عن سومر آلهتها واعتمدوا الزراعة في اقتصادهم، شاركت في تكوين الآشوريين بيئة قاسية لاتوفر غير مساحات محدودة للزراعة على ضفاف دجلة فضلا عن الزراعة الديمية..مماجعل الآشوريين في حاجة مستمرة الى الموارد التي توفرها اراض وممالك جديدة تضمنت بابل في مراحل مختلفة من تاريخها.كما تتوفر في بلاد آشور الحجارة التي استفاد منها الاشوريون في تحصيناتهم الدفاعية وفنهم أزاء اعتماد بابل على الطابوق والطين.. كما قابلت فنون التمدن البابلي فنون القتال الآشوري..الأمر الذي يضع المراقب في حيرة أزاء الأندفاع العسكري البابلي في عهد نبوخذنصر الثاني وتاسيس الأمبراطورية البابلية الجديدة في اعقاب سقوط نينوى..والسبب الواضح هو ان سلالة بابل الجديدة آشورية أصلا ونبوخذنصر الثاني هو حفيد نبوبلاصر القائد الاشوري المنشق على الدولة الآشورية قبيل سقوطها...ويمكن القطع أن الدولة الاشورية ترتكز في عمودها الفقري ودمها على الجيش فهي دولة خلقتها الحرب وادامتها الحرب ودمرتها الغفلة عن واجب الحرب..غير ان التداخل بين الشعوب في بابل ثم تغلغلهم في البلاط الآشوري على العهود المتأخرة من الأمبراطورية الآشورية صاحبته عملية تحول أو انمساخ جديد في الآلهة أتضح على عهد أسرحدون وبتأثير واضح من أخواله الآراميين وأمه الآرامية نقية..وهنا لاأستبعد ان نقية ربما لعبت دورا (كأن يكون مؤامرة صمت) في اغتيال سنحاريب لتدميره لبابل ونقل تمثال الإله مردوخ الى آشور.. وهنا نتساءل عن دوافع غزو مصر على عهد اسرحدون بينما كانت مصر حليفا قويا بل الحليف الوحيد للأمبراطورية الآشورية حتى بعد تدمير كالخو ونينوى من قبل تحالف دولي يقوده الميديون من الشرق والبابليون من الجنوب...وهذا استطراد فالمهم هنا هو تحولا ثانيا في العقيدة طرأ على الآشوريين فقد تحولت مجددا من ديانة الأبن الى ديانة الأب وارتكنت الى الراحة بدلا من القتال بحيث اصبح قدر آشور أوباليت الثاني الذي اسس الأمبراطورية في المنفى من حران مماثلا تماما لقدر مروان الثاني..فعلى الرغم من قوة الملك وإرادته القتالية لم يتمكن من استرداد زمام المبادرة لأن خصومه هذه المرة هم من تبنى آشور وعقيدة آشور القتالية دينا جديدا لدولتهم وينعكس ذلك في مدينة بيرسيبوليس التي نشاهد الثيران المجنحه في بواباتها والإله آشور محمولا على بيارق جيوشها..
والمهم في حال الإله آشور مقارنة بمردوخ، انه إله قومي في دولة تهيمن فيها السياسة على الدين بينما يعد مردوخ إله عالمي في دولة يهيمن الدين فيها على السياسة..وهذا فرق مهم يتضح من مقارنة الحاضرتين اي شمالي العراق بجنوبيه..فقد درج الملوك الآشوريون على نقل عاصمتهم والنأي بها عن آشور العاصمة الأولى ومركز قوة الكهنة..فقد اختار شمشي ادد الأول (1813 - 1781 ق.م.) عاصمته في شوبات انليل (تل ليلان في حوض الخابور) على الرغم من بنائه لمعبدين في آشور للإلهين أنو وأدد (وليس لأبيهما مردوخ)، بينما عين ابنه إشمي داكان في ايكالاتوم (تلول الهيجل وربما تل الذهب) للسيطرة على قلب العراق، وانتقل توكولتي نينورتا الأول (1244 - 1208 ق.م)  الى مدينة على الشاطيء الشرقي لدجلة قبالة آشور واطلق عليها اسمه كارتوكولتي نينورتا (تلول العقر) على الرغم من تشييده معبدا لعشتار في آشور، وبنى توكولتي نينورتا الثاني عاصمة له كان اول من عثر على ادلة عليها الدكتور حسين الجبوري (أستاذ التاريخ القديم في جامعة الموصل) اسماها نيميت توكولتي نينورتا في موقع قرية القاضية وقصرالرماح بالقرب من جامعة الموصل، ونقل آشورناصربال الثاني العاصمة من آشور الى كالخو (النمرود) التي كان جده شلمنصر الأول قد اسسها عام 1280 ق.م. ثم شيد سرجون الثاني مدينته المعروفة بدورشيروكين التي لم تسكن بعده لأن ابنه سنحاريب إختار مدينة نينوى عاصمة للأمبراطورية بدلا منها ومن كالخو..مما يشير الى محاولة الملوك الآشوريين النأي بأنفسهم عن نفوذ الكهنة في آشور،مما اعطى الإله آشور بعدا حركيا يتضح من خلال تمثيله بالثور المجنح الذي نحت في حال حركة بخمس قوائم وليس بأربع..وفي الحقيقة فان الفن الآشوري كله يعكس حالة من الحركة في الأتجاهات كلها..بينما يعكس الفن البابلي حالة من الثبات..ومن ناحية أخرى نلاحظ أن مردوخ إله عالمي انتشرت عبادته في انحاء الشرق الأدنى وتعرض تمثاله للأختطاف اكثر من مرة: فقد اختطفه الحيثيون بعد نهبهم لبابل وتخريبها عام  1595 ق.م. واسترده الكاشيون الذين كانوا قد احتلوا بابل واعتنقوا ديانة البابلييين، واختطفه توكولتي نينورتا الأول ونقله الى مدينة آشور واعيد الى بابل في عهد إبنه آشورنادين آبلي، واختطفه العيلاميون بعد هجومهم على بابل وتخريبها عام 1158 ق.م. فاسترجعه نبوخذنصرالأول منهم بعد ان دحرهم في عقر عاصمتهم سوسة، وفي الألف الأول ق.م. هاجم سنحاريب بابل ودمر معبد الأيساجلي ثم حمل تمثال مردوخ الى آشور ليعيده إبنه اسرحدون مجددا الى بابل..وكان نبونيداس لايثق بمردوخ وحاول بتأثير أمه كاهنة حران، أدة كوبي، وابيه الأمير الآشوري تأسيس عبادة القمر بدلا من مردوخ وآشور كليهما، فاتهم بالجنون وقام كهنة مردوخ بالتآمر عليه بجلب قورش الى بابل الذي دخلها بدون قتال في 539 ق.م. وكان أول شيء عمله قورش في بابل دخوله الأيسالجي وأمساكه بيديه كف الإله مردوخ معربا له عن شكره ومتخذا أياه إلها لأمبراطوريته الجديدة التي اقامها على انقاض الأمبراطوريتين الكلدية في الجنوب والآشورية في الشمال..وهكذا فبينما حافظ الإله آشورعلى امته وحافظت امته عليه وانتهيا معا، تعددت الأمم التي عبدت مردوخ واستمر معبودا على عهود امم متناحرة فقد عبده العموريون الذين استوطنوا بابل والكاشيون الذين غزوهم من الشرق ثم عبده الآراميون وعبده الفرس بعد غزوهم بابل وانهائهم للدولة الكلدية التي اسسها نبوبلاصر في اعقاب سقوط نينوى على نحو مماثل لعبد الرحمن الداخل في تاسيسه لدولة اموية في الأندلس في اعقاب سقوط دمشق..
وهنا ننتقل بضعة قرون في التاريخ لنعود الى بغداد وريثة الأمبراطورية التي اسسها خلفاء دمشق عبر زاكروس  بالروح القتالية نفسها التي اسس بها الآشوريون من قبلهم لأمبراطوريات العراق الأولى عبر زاكروس أيضا..ونحاول التعرف على اسباب انهيارها من خلال تتبع التحولات التي طرأت على العلاقة بين العقيدة والدولة: ونفترض أن الخلاف بين آشور ومردوخ لم يتوقف مع غيابهما من التاريخ بل أن الأحوال المصاحبة لعصر عبادتهما استمرت في الشرق الأدنى على الرغم من الأختلافات في الزمان والمكان والأوضاع الأجتماعية والسياسية: فأنفتاح عبادة مردوخ على الأقوام  في الشرق والغرب، ولد ضربا من العالمية إنعكس في العصر العباسي بمايطلق عليه بالشعوبية التي على الرغم من اعتماد القائلين بها كأبي عبيدة معمر بن المثنى وعبد الحميد الكاتب على نص قرآني، اتخذت منحى يتعارض مع روح النص الذي يفترض انها ارتكزت عليه..بينما نلاحظ في حواضر الشمال آشور وقد أحتفظ بخصوصيته القومية ولم تنتشر عبادته في زاكروس او سورية والساحل الفينيقي..ولعل دور كتاب الدواوين والمرتزقة الترك والفرس في العصر العباسي الذي يصفه الجاحظ بحكم العجم اشبه بدور الكتاب الآراميين والجند الميديين في البلاط الآشوري من حيث النتائج السلبية التي دمرت الثقافة العربية والدولتين الآشورية والعباسية.. بمعنى ان الدور التثقيفي للآراميين والسياسي للميديين تكرر على العهود العباسية المتأخرة، بل حاكى العباسيون أسلافهم الآشوريين حتى في التزوج بالميديات والآراميات..من هنا نفهم دوافع الخلاف بين ادة كوبي وابنها نبونيداس وهو ابن امير آشوري في بلاط نبوخذنصرالثاني وبين كهنة الأسيجالي..وهو خلاف تجدد بين المنصور وأبي مسلم الخراساني ثم بين الرشيد والبرامكة على العهد العباسي ..وبينما انتهى في العهود القديمة بتدمير نينوى بتعاون بابل، انتهى في العصر العباسي بالغزو المغولي بتعاون بيضة الكوفة من اليهود والموالي الذين كان الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قد هجرهم من الحجاز الى الكوفة..
كما يرتبط مردوخ،  بسبب غيابه وعودته الى الأسيجالي، بتقاليد وطقوس عاطفية متنوعة ومتعارضة  اهمها شعور الناس في بابل ان غيابه جاء بسبب خطيئة ارتكبوها وترتب عليها نقمة تسببت في انتشار القحط والأوبئة والمجاعة والهزائم المتكررة في الحروب بينما قرنوا رجعته بالتوبة والأمتثال لتعاليمه والخضوع المطلق بطريق العبادة وتقديم النذور والأضاحي واقامة المآدب ..وكان في كل مرة يعود اليها بعد اختطافه الى الأسيجالي، يهرع اليه الآراميون من قراهم في جنوبي العراق جريا الى بابل للتضرع والنياحة والبكاء ..فغياب مردوخ هو اشبه بدمار المدن وانهيار اسوارها ورجعته هي اشبه بعودة الحياة الى المدن واسترجاع عمارتها ..وفي كل مرة يغيب فيها، يقيم الناس في بابل المآتم ويرتدون ثياب سوداء..وحزنهم في الواقع لم يكن على مردوخ بل على بابل المخربة ..اما شعورهم بالذنب فينبثق من تصورهم ان مردوخ لم يغادر بابل إلا من جراء خطيئة أرتكبوها مما ولد لديهم وضعا نفسيا خاصا يتسم بالمازوكية والأنسياح العاطفي بل وجلد الذات وما الى ذلك من ممارسات تكفيرية عنيفة أورثوها للموالي على العهود الإسلامية..وهذا لامثيل له في آشور ونينوى او في الحواضر الآشورية الأخرى، لأن الإله آشور لم تتعرض معابده للغزو ولم يختف عن رعاية امته لحظة واحدة بل هو إله مقاتل يشارك جيشه في المعارك وان تدمرت نينوى مرة، فإنها لاتعود مجددا كما تعود بابل.. بل تدمر مرة واحدة ..ذلك لأن بابل دين أما نينوى فدولة، والمسافة بين الملك الآشوري والإله آشور تكاد تكون معدومة أما المسافة بين مردوخ والملك البابلي فهائلة مما يفسر قوة الكهنة في بابل وضعفهم في نينوى وقوة الملك في نينوى وضعفه في بابل..
وفي تتبعنا لملامح الإله آشور في النمرود وملامح الملك آشور ناصربال الثاني نجد تماثلا هائلا بينهما..والأختلاف الوحيد يبدو في لباس الرأس وبوجود الأجنحة للمردة والإلهة من جهة وغياب الأجنحة لدى الملوك ..كما نلاحظ ان الملك الآشوري ينعت المتمردين والعصاة بالآثمين ويسمي نفسه بالكاهن الأول للإله آشور، بما يؤكد مجددا قوة الدولة في آشور وكالخو ونينوى  أزاء قوة الدين في بابل وسيبار ونيبور(نفر) وسواد العراق..أي بكلمة أخرى ديانة الأبن أزاء ديانة الأب!
بيد أن تبدلا في العقيدة القتالية وفي النظرة الأمبريالية الى العالم حدث في الأمبراطورية الآشورية على أواخر عهدها ربما بسبب استعارتها لعيون أعدائها في النظر الى العالم مما تسبب في غياب نجوم آشور الثلاث واسترجاع مردوخ لمواطيء قدم له من خلال اولاده ..واحتلت عشتار التي فقدت عينيها هي الأخرى محل نينورتا.. فتسلل الأنزو مجددا الى البلاط الآشوري..وتضاعف اعتماد الآشوريون على اعدائهم في الجيش والإدارة على نحو يذكرنا ببغداد العباسية التي بدأ الغرباء فيها عبيدا وانتهوا اسيادا يسملون عيون الخلفاء ويستبيحون نسائهم..مما أدى الى سقوط نينوى..ومع سقوط نينوى تعرضت القلاع الآشورية الجزرية في اعماق زاكروس واورارتا والأناضول للأندثار التدريجي وشيدث في مكانها وفوقها معابد للنار وكنائس وجوامع بينما استمرت قوة الدين في مساحة هائلة من اللاوعي السياسي والحضاري واتخذت شكل الصراعات الطائفية في الهلال الخصيب وهي صراعات غالبا ماتظهر في اعقاب هزيمة عسكرية تترتب على تبدل في العقيدة من ديانة الأبن الى ديانة الأب، فتأتي على الدولة وتدمرها من اركانها ..وهذا ماحدث في سقوط نينوى ودمشق الأموية..وبغداد من بعدهما مرتين..