المحرر موضوع: حركة التحرّر الآشورية والتدخـّل الفرنسي  (زيارة 5159 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Ashur Giwargis

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 880
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
حركة التحرّر الآشورية والتدخـّل الفرنسي
(1919- 1922)


هذه المقالة هي الجزء الأوّل من سلسلة تاريخية تنشرها باللغة الإنكليزية، مجلة "النجم الآشوري" (The Assyrian Star) الفصليـّة الناطقة بإسم إتحاد الجمعيات الآشورية في الولايات المتحدة، والسلسلة تتناول ستة بحوث عن مرحلة مشروع الوطن القومي الآشوري في القرن العشرين، بدءاً من عددها لربيع/2006.

آشور كيواركيس* - بيروت

كثيراً ما نقرأ عن الحركة القومية الآشورية في القرن العشرين، ولكن قلما نقرأ عن التدخل الفرنسي في حركة التحرّر الآشورية، والأقطاب التي اعتمدت على فرنسا ووعودها، ولهذا الموضوع نقاط طالما فضّل الكتاب والمؤرخون الآشوريون عدم التطرّق إليها كونها أثارت – وللأسف – لا زالت تثير عواطف البعض بدون النظر إلى القضية الآشورية في بدايتها بموضوعية، ولكن رغم ذلك  يجب على الأجيال المعاصرة واللاحقة الإطلاع عليها أمانة للتاريخ.

لكي نفهم التدخل الفرنسي في القضية الآشورية علينا فهم تاريخ الصراع بين فرنسا وبريطانيا في المراحل السابقة للحرب العالمية الأولى، وذلك منذ قرون قامت خلالها الدولتان بمحاربة بعضهما حين لم يكن هناك شيوعية سوفياتية ولا رأسمالية أميركية، ونذكر مساندة فرنسا للأميركيين في تحرير أميركا من بريطانيا في القرن الثامن عشر، ثم  منافستها لبريطانيا على أوروبا نفسها خلال مرحلة "الإمبراطورية الأولى" (1799-1814) في تاريخ فرنسا حين سيطرت الأخيرة على كامل أوروبا وكسرت شوكة بريطانيا، مما أدخل البلدين في صراع مرير في مرحلة "الإمبراطورية الثانية" (1852 – 1870)، لينتهي ذلك إلى سيطرة فرنسا على أراضي واسعة حتى خارج أوروبا، بما فيها آسيا وأفريقيا في مرحلة "الجمهورية الثالثة" (1871 – 1940) التي بدأت مع خسارة فرنسا أمام ألمانيا في حرب 1870، وتوحيد ألمانيا بعد سنة على يد  أوتو فون بسمارك.

إذاً لقد كانت الحرب العالمية الأولى إحدى مراحل "الجمهورية الثالثة" بالنسبة لفرنسا، تخللتها منافسة على أراضي جديدة مع  بريطانيا التي ستكون حليفتها ضدّ ألمانيا والإمبراطورية العثمانية، وهذا التحالف "الإضطراري" هذه المرة بين روسيا (أورثوذوكسية) وبريطانيا (انكليكانية) وفرنسا (كاثوليكية)، يعود إلى أسباب استراتيجية وجدت من خلالها هذه الأطراف بأن تحالفها في حرب عالمية هي المتنفـَّــس لها لمستقبل سياسي واقتصادي أفضل في العالم ككلّ، ولم يكن السبب الرئيسي لتلك الحرب فيما بعد، قتل الإمبراطور فرانسوا فردينان فحسب، بل هذه كانت حجّة تمّ استغلالها للأسباب التالية :

1- الحقد بين ألمانيا وفرنسا منذ انتصار الألمان في حرب 1870
2- التقدّم الصناعي الأوروبي والحاجة إلى أسواق عالمية فيما كانت تركيا تسيطر على أجزاء كبيرة من العالم.
3- طمع روسيا بمضيقيّ البوسفور والدردانيل لتفتح أسواقها على حوض المتوسط.

وهنا لا بدّ من ملاحظة عامل مشترك آخر وهو سيطرتها على بلاد آشور منذ ما قبل الحرب وخلالها، كما لا يمكننا كذلك تجاهل نقاط الإختلاف المذهبي بين هذه الدول الثلاث التي تنافست دائماً فيما بينها على تولي شؤون مسيحيي السلطنة العثمانية (الأرمن والآشوريين ومسيحيي سوريا ولبنان) في أصعب ظروفهم، وخصوصاً الصراع الأنكليكاني – الكاثوليكي - الأورثوذوكسي داخل أراضي السلطنة، فبعد اتفاقية 1535 بين تركيا وفرنسا سُمحَ للأخيرة بإرسال بعثاتها "التبشيرية" إلى أراضي السلطنة... وهكذا كان قد بدأ الصراع حول السيطرة على كنيسة المشرق المنتشرة في مناطق استراتيجية هامة بالنسبة للحلفاء فيما بعد، والتي يتمتع أبناؤها بروح قتالية عالية، ولكن رغم قساوتهم، إلا أنّ عزلتهم بين جيرانهم "الجهاديين" ستجعلهم يعيدون النظر في تجنبهم للعالم المسيحي الخارجي، مما سيسهّل مرور المؤامرات عليهم حين يشتدّ الخناق حولهم. وما يفتح الطريق إلى البيت الآشوري أمام "راعي جديد" لمشروع جديد كان دائماً القرارات الآشورية الإنتقامية بدون دراسة العواقب، فعند الآشوريين كان كل من يعارض رئاسة الكنيسة (عائلة المار شمعون) ينضمّ إلى الكثلكة انتقاماً، ويمتثل به بعض رجاله ليس إيماناً منهم بأن السيدة العذراء هي "والدة الله" (بحسب الإيمان الكثوليكي) بقدر ما كان ذلك بسبب الولاء الأعمى لزعيم عشائري حتى ولو كان قراره خارجاً عن إيمانه.

وبالنسبة لما عُرف بـ"الحماية البريطانية" للآشوريين، لم يكن ذلك إلا "الإستغلال البريطاني"، بحيث اتضحت نوايا بريطانيا في مساعدة الآشوريين على مراحل متقطعة وإهمالهم في مراحل أخرى، ولكن فشل القيادة الآشورية التي آمنت بوعود روسيا وبريطانيا كان نتيجة لمسببات خارجة عن إرادة الآشوريين أنفسهم، وأهم أسباب ذلك الفشل تتلخـّص بالتالي:

أولاً : الإنسحاب الروسي المفاجئ من مدينة أورميا ومحيطها في نهاية عام 1917 بسبب الثورة البولشيفية في روسيا، مما تسبّب بعزل الآشوريين، وأطلق ذلك يد الأكراد والإيرانيين والأتراك في ارتكاب المجازر بكلّ حرية.

ثانياً : دخول العراق إلى منظمة عصبة الأمم في تشرين الأوّل عام 1931، مما سمح للحكومة العراقية وأعوانها من بعض الزعماء المعادين للبطريرك مار إيشاي شمعون، بتكذيبه أمام الرأي العام العالمي، وأيضاً ساعدت عضوية العراق في المنظمة الدولية على التعامل مع الإنتداب البريطاني كدولة مقابل دولة، وقد تم الإتفاق بين الدولتين على تخصيص حصص نفطية لبريطانيا التي غضت النظر فيما بعد عن المجازر التي لحقت بالشعب الآشوري بعد عامين من دخول العراق إلى عصبة الأمم، وبعد أيام من حجز عائلة المار شمعون في جمعية الشبان المسيحيين في الموصل (Y.M.C.A) وأيضا نفيهم بعد المجزرة إلى جزيرة قبرص بأمر الإنكليز مباشرة وعلناً - وكان ذلك نهاية الفكر الثوري في الحركة القومية الآشورية التي تحوّلت إلى حركة شاعرية تطغى عليها الأحزان على الماضي والنوستالجيـّة وضياع الإستراتيجية البعيدة المدى، حتى لحظة كتابة هذه الأسطر.

أمـّا فيما يخصّ ما يُسمّى "الرعاية الفرنسية"، فإنّ ما سهَّل التدخل الفرنسي في الحركة التحررية الآشورية منذ البداية كان اعتناق بعض العوائل الآشورية من عشائر هكاري، للمذهب الكاثوليكي منذ العام 1903، وذلك انتقاماً من عائلة مار بنيامين شمعون، ونذكر بشكل خاص نمرود بك، أيضاً من عائلة المار شمعون، بسبب الخلاف الداخلي ضمن الأسرة البطريركية في قودشانيس على الكرسي البطريركي، وهكذا ولأوّل مرة، استغلت الديبلوماسية الفرنسية هذا الخلاف بين العشائر العنيدة التي كان من الصعب اختراقها كما وصفتها الإرساليات "التبشيرية"، حيث توجه في 28/آب/1902 نائب القنصل الفرنسي في ولاية وان، وهو دومينيكاني يُعرَف بلقب Le Père De France أي "الأب الفرنسي" إلى البطريرك مار روئيل شمعون الذي رفض التعامل معه، فتوجّه إلى إقليم غاور حيث كان بانتظاره أويشالم شقيق نمرود، الذي أخذه إلى مقره في خنانيس وتم الإتفاق على حماية "كلدان المستقبل" حيث أبرق الأب الفرنسي إلى قنصل بلاده في مدينة وان التركية طالباً منه حماية أتباع نمرود من الأكراد، ومدّهم بالدعم المادي (1) .

وبعد أن تقرر تنصيب مار بنيامين شمعون بطريركاً بحسب الأصول المتـّبعة في قانون كنيسة المشرق (مار بنيامين هو إبن أخ البطريرك مار روئيل الذي توفيَ في 29/آذار/1903)، وبالتحديد في 04/شباط/1903 توجه نمرود وإبن عمه يوخنا، ويوسف إبن يوخنا إلى الموصل وتفاوضوا مع بطريرك الكلدان حول انضمامهم إلى الكثلكة فرحّب بطريرك الكلدان بذلك وانضمّ نمرود وأتباعه وبينهم مار إيشوعياب أسقف منطقة دوري (2).


المنضمّون إلى الكثلكة في الموصل عام 1903، من اليسار: يوخنا، نمرود بيك، الأب صموئيل جميل، بطريرك الكلدان مار عمانوئيل، مار إيشوعيـّاب أسقف دوري، الخوراسقف يوسف (إبن يوخنا).


وهكذا "عاقب" نمرود القسم الآخر من عائلته لعدم تعيينهم بطريركاً من طرفه، وذلك بتحريض الإرسالية الكاثوليكية في ولاية وان (3)، وبقيَ نمرود بك معارضاً للبطريرك لفترة طويلة حيث وقف ضد قرار القيادة الآشورية في دخول الحرب إلى جانب الحلفاء - "خوفاً على مصيرهم" – كما ادّعى آنذاك - رغم أن المجازر بحقّ الآشوريين كانت مُستمرّة منذ مئات السنين على أيدي جيرانهم وذلك بدون أن يتحالف الآشوريون مع أحد، ثم إنّ نمرود بنفسه هو من طلب حماية الفرنسيين قبل 11 عاماً كما مرّ آنفاً.

وفي عام 1914 تمّت تصفية عائلة نمرود بك على يد بعض رجال العشائر الموالين لمار بنيامين شمعون، وبما أن الطرف الذي كان قد قرر الإنضمام إلى الحلفاء هو طرف عائلة البطريرك، هكذا فقد تم اتهام البطريرك مار بنيامين شمعون بهذه الجريمة من قبل بعض المقربين من نمرود، رغم التأكيدات من جانب عائلة البطريرك والشهود العيان بعدم علم مار بنيامين شمعون المُسبَق بعملية القتل التي ارتكبها رجال العشائر، وبالفعل، لقد عمّ الغضب عائلة البطريرك لدى سماعهم بارتكاب المجزرة البشعة (4)، إلاّ أن الجيل التالي من عائلة نمرود بقيَ على موقفه، وقد جرت محاولة صلح أخرى في بداية العشرينات حيث تقرّر زواج ثيودورس مار شمعون (شقيق البطريرك مار إيشاي شمعون) إلى بهيجة إبنة الملك قمبر التي هي في نفس الوقت حفيدة نمرود من إبنته شوشان، ولكن هذه المحاولة أيضاً باءت بالفشل بعد أن تمت دعوة الرسميين العراقيين والإنكليز وسفراء دول العالم  إلى حفل الزواج في منطقة الدواسة في الموصل، قرب المقرّ البطريركي المؤقت في محلة "موسى شكر"، حيث أعلنت عائلة العروس فجأة للسيدة إستير والدة العريس، بأنها تريد زواجاً كاثوليكياً (!) مما سبـّب الإحراج القوي للعائلة البطريركية أمام الرسميين فتمّ إلغاء الحفل ولم تحصل أية محاولة تقارب فيما بعد (5) .


يوناثان كيواركيس (1889- 1966 )


برزت من مقرّبي عائلة نمرود خلال فترة النضال الآشوري شخصيات آشورية تمتعت بكاريزما القيادة، وبواسطتها بدأ مشروع جديد مقابل المشروع البريطاني في العراق بمواجهة النضال الآشوري في المنابر الدولية، والمشروع الجديد جاء على يد شخصية آشورية محبوبة من قبل المهاجرين إلى القوقاز، وهي الملك قمبر وردا من جيلو، صهر نمرود الذي مرّ ذكره، آشوري كاثوليكي (كلداني) تلقىّ وعداً من فرنسا الكاثوليكية في سوريا، بإقامة حكم ذاتي آشوري في الجزيرة السورية، كون فرنسا كانت بدورها تريد سحب مهمّة ما يُسمّى "حماية الآشوريين" من الإنكليز في العراق، فبدأت اتصالاتها بالملك قمبر بواسطة الكنيسة الكلدانية – ساعي البريد الدائم لفرنسا وروما – كما سنلاحظ بين الأسطر.

بعد هجرة الآشوريين الأخيرة إلى جورجيا وأرمينيا في العام 1918، كان الملك قمبر إبن الملك بنيامين وردا الجيلوي، قد استقر في جورجيا بين 170 عائلة من عشيرته، وهناك بدأ اتصالاته مع الرسميين الجورجيين كـمتحدّث بإسم اللاجئين خلال الثورة البولشيفية، ثم غادر مع عائلته إلى اسطنبول التي كان يسيطر عليها الحلفاء، وهناك التقى الأب بطرس عبيد من الكنيسة الكلدانية، الذي أبلغ قمبر بأن الكنيسة تريد الإتصال به على المدى الطويل، وبعد 20 يوم من لقائه الأب عبيد، كان المفوّض السامي الفرنسي الجنرال غورو قد "علم" بوجود قمبر في اسطنبول، فأرسل له رسالة طالباً منه المجئ إلى بيروت للإجتماع به، وفي 07/تموز/1920 وصل الملك قمبر إلى بيروت حيث استقبله مستشار غورو، العقيد Knonish ومجدداً يرافقه رجل دين آشوري كاثوليكي هو المونسنيور منصور قرياقوس رئيس طائفة الكلدان في لبنان.

وفي اليوم التالي التقى الملك قمبر بالجنرال غورو في قصر سُرسُق في بيروت وخلال ذلك الإجتماع أبلغه غورو بأن فرنسا قررت أن تعطي منطقة ماردين والجزيرة السورية إلى الآشوريين وبأنه قرر تسليم المهمّة إلى قمبر بعد أن "استقصى" عنه المعلومات، وطلب منه العودة إلى القوقاز مجدّداً وتعبئة ما أمكنه من المقاتلين الآشوريين وجلبهم إلى الجزيرة السورية على أن فرنسا ستتكفل بكافة رواتبهم ومصاريفهم وإلحاق عائلاتهم بهم فيما بعد.


نموذج عن نصّ الوعد الفرنسي للملك قمبر من الجنرال غورو (بحسب نسخة من كتاب وثائقي جمعه الملك قمبر)

اتجه الملك قمبر فوراً بعد هذا الوعد إلى تفليس مجدداً والتقى بالدكتور فكتور يونان ، كما التقى بمساعده كوريـّل درّو والقس لازار كيواركيس وبعض وجهاء أورميا، وتم إخبارهم بالقرار الفرنسي، وبدأت فوراً عملية نقل المقاتلين حيث كان الملك قمبر يرسلهم على شكل مجموعات من 50 أو 100 مقاتل إلى مدينة الإسكندرونة في سوريا ومنها إلى منطقة الجزيرة وذلك تحت إشراف النقيب Hariot، ثمّ توجه قمبر إلى أرمينيا حيث زار الآشوريين في بلدات Kuylasar, Dogun, Arzin وهناك جهّز 450 رجلاً ولكنه لم يستطع إخراجهم من أرمينيا بسبب ضيق الوقت وانقطاع الطرقات من جراء المعارك بين البولشيفيين والأتراك، وهكذا اضطرّ لمغادرة البلاد مع ثمانية من مساعديه عبر الجبال واستراحوا ليلة واحدة في منطقة Delegin على الحدود بين جورجيا وأرمينيا، وتابعوا إلى تفليس التي وصلوها في اليوم التالي.

وهناك كان في استقبال الملك قمبر موفد العقيد Korbal آمر منطقة تفليس في الجيش الفرنسي، وأرسل قمبر مجدداً مجموعة أخرى من المقاتلين إلى سوريا، وتلك كانت الدفعة الأخيرة حيث قرّر بعدها الذهاب بنفسه إلى سوريا مع اشتداد المعارك بين جيش القيصر والثوار الشيوعيين في جورجيا، وقد انتقل إلى سوريا بعد حصوله على شهادة خطية من السفير الفرنسي تؤكد قيامه بالمهمة الموكلة إليه بصدق تام.

خلال هذه المرحلة توضّح موقف الملك قمبر من المعسكر الآشوري الآخر، بحيث بعث برسالة إلى ممثلي الآشوريين في مؤتمر السلام بتاريخ 30/12/1920 مُشجّعاً إياهم ومذكراً بممثلي الأمس حيث وصفهم كالتالي : "لقد باعوا أمتهم وملأوا جيوبهم على حساب أطفالنا وأقاموا في الغرف الفخمة في لندن" (6) ويقصد بذلك السيدة سورما مار شمعون (شقيقة البطريرك مار بنيامين شمعون) التي كانت تترأس الوفد الآشوري إلى مؤتمر باريس والتي احتجزها الإنكليز في لندن لحين انتهاء المؤتمر(7)، ومن الجدير بالذكر بأنه في الوقت الذي كانت السيدة سورما مُحتجزة في لندن بأمر من وزير الخارجية البريطاني اللورد كيرزون، كان معارضو القيادة الآشورية في العراق وعلى رأسهم العقيد الإنكليزي Cunliffe Owen (آمر مخيـّم بعقوبة آنذاك) يدمّرون المخيمات على رؤوس اللاجئين ويجلدون رجال الدين بالأحزمة ويحتجزون قداسة مار يوسف خنانيشوع وزيا مار شمعون شقيق الشهيد مار بنيامين وغيرهم من مساندي القيادة، ويحرّضون الجنرال آغا بطرس (الحليف السياسي للملك قمبر) على العودة إلى هكاري وضرب الأتراك مجدّداً، مستغلين غياب القيادة الآشورية ومنازعة مار بولس شمعون على فراش الموت في دير مار متى – جبل مقلوب (8 )، ولدى وفاة البطريرك مار بولس شمعون عام 1920، تم انتخاب البطريرك مار إيشاي شمعون، فقام الإنكليز مجدداً بتحريض آغا بطرس والملك خوشابا بواسطة العقيد الإنكليزي كانليف أوين ضدّ تنصيب مار إيشاي شمعون على أنه غير شرعي (9)، فأثيرت البلبلة ولكن أنصار المار شمعون تصدّوا للعقيد البريطاني الذي جاء لتخريب حفل التنصيب، حيث عاد أدراجه خائباً (10)، وكانت لهذه المشاكل تأثيرها الكبير على وحدة الآشوريين في العراق في السنوات اللاحقة، حيث فقدت عائلة المار شمعون ثقتها بآغا بطرس واستمرّت العراقيل داخل البيت الآشوري فيما كان الشعب الآشوري في أحلك ظروفه، وفيما كانت شعوب المنطقة تقرّر مصيرها في المؤتمرات الدولية التي ستغيّر خارطة المنطقة.

رغم مقاطعته السياسية للقيادة الآشورية هو الآخر بسبب مقتل نمرود منذ 6 سنوات، إلا أن الملك قمبر قد امتاز بنفسه بصفات القائد، فقد نظم مقاتليه في منطقة الجزيرة السورية عام 1920 بمساعدة النقيب Hariot والملازمين Marandin و Philippot وقد انضوى تحت لواء هذه القوات آشوريون من مختلف الطوائف، وبشكل ملحوظ من طائفة السريان الأورثوذوكس بما أن وعد الحنرال غورو قد ضمّ مناطق ماردين وأورفا، وكذلك آشوريين من الكنيستين الكلدانية والشرقية، وبينهم عدد كبير من عشيرة جيلو.

وبواسطة تلك القوات استطاع الملك قمبرالسيطرة على مناطق واسعة من الجزيرة مما أثار نقمة القبائل العربية (كما حصل في العراق)، وبدأ بمراسلة باقي الزعماء الآشوريين في العراق يدعوهم للمجئ إلى سوريا وذلك بطلب من الفرنسيين، فأعجبت الفكرة الجنرال آغا بطرس المعارض لعائلة مار شمعون، وبعد علم الإنكليز بهذا التحرّك الذي قام به الفرنسيون، بدأ القلق البريطاني الذي يتأكد لنا من خلال المقطع الأخير من رسالة المفوّض السامي البريطاني في العراق، السير Percy Cox إلى المسؤولين البريطانيين بتاريخ 22/نيسان/1921 والتي يعرب فيها عن احتمال تورّط آغا بطرس مع الفرنسيين، ويضيف حول بعض المتعاونين مع هذا المشروع في المقطع الأخير من رسالته تحت عنوان "سرّي"، ما يلي : "لديّ شكوك بأن الحكومة الفرنسية ستطلب من الآشوريين الإنتقال إلى منطقة الجزيرة وماردين، وهناك ما نسمعه عن بعض القادة الآشوريين الذين تمّت رشوتهم من أجل ذلك... " (11) وبعدها بدأ التضييق على الجنرال آغا بطرس والأسقف مار سركيس (أسقف جيلو، قبيلة الملك قمبر) من قبل الإنكليز خوفاً من أن يأخذوا منهم الآشوريين إلى الفرنسيين، ثم بعد أشهر نـُفيَ الأوّل والتجأ الثاني إلى الحكومة العراقية ليصطفّ إلى جانب بعض الزعماء المعارضين للقيادة الآشورية المتمثلة بعائلة المار شمعون.


الملك قمبر مع  ولده ومار سركيس أسقف جيلو


أما الفرنسيون فلم يهتموا لهذا كله، بل جلّ ما يهمهم كما يذكر الجنرال غورو في تقاريره لحكومته : "توظيف أداة عسكرية فعالة في سوريا لفرض النظام وحراسة الحدود، من قبل الكلدان الآشوريين المستعدين لتقديم حياتهم في سبيل فرنسا..." (12)

ومن الجدير بالذكر بأنه مع بداية فترة التدخل الفرنسي في القضية الآشورية عام 1919-1920 ، بدأت فرنسا للمرّة الأولى ابتكاراً جديداً وهو إسم جديد للشعب الآشوري، وذلك بطلب من رؤساء الكنيسة الكلدانية من الجنرال غورو شخصياً ومن بيروت وبدعم إرساليات الكثلكة في حلب والموصل وجبل لبنان، حيث درجت عبارة "Assyro-Chaldeens" الفرنسية، واضطرّ كل حلفاء فرنسا من الآشوريين إلى استعمالها لكسب ودّ روما وفرنسا في المؤتمرات الدولية، ومنهم الجنرال آغا بطرس نفسه الذي استعمل الإسم الآشوري الصحيح في مراسلاته مع الإنكليز، والإسم الفرنسيّ الصناعة في مراسلاته مع الفرنسيين وعصبة الأمم، وكذلك فعل الملك قمبر بحيث باتت تعرف ميول القادة الآشوريين لفرنسا من خلال طريقتهم في تسمية شعبهم .


الجنرال قمبر مع ضباط كتيبته في سوريا


وبتاريخ 24/نموز/1922 حصلت فرنسا على قرار الإنتداب لسوريا ولبنان من عصبة الأمم مقابل انتداب بريطانيا للعراق وفلسطين وشرق الأردن وبعدها لم يعد هناك أي داعي لـ"الحكم الذاتي الآشوري في الجزيرة"... فقرّر الفرنسيون حل الكتائب الآشورية التابعة للجنرال قمبر وضمها إلى الليفي الفرنسي “Légions Etrangères” (الفرق الأجنبية)، وهكذا ذهبت جهود الجنرال قمبر أدراج الرياح، وغادر سوريا إلى لبنان حيث رفض الآشوريون الذهاب إلى سوريا، ومن هناك إلى فرنسا حيث التقى بالجنرال آغا بطرس وعملا معاً على مراسلة المؤتمرات الدولية وبشكل خاص معاهدة لوزان - 1923 ومؤتمر جنيف - 1924، إنـّما بدون فائدة حيث توالت المؤامرات على الشعب الآشوري من قبل "الحلفاء" في كافة المؤتمرات الدولية اللاحقة حين انكسرت أبسط قواعد المساواة والعدل الدولي التي نصّت على أنه "لا قيمة للقوة أو الضعف أمام قانون الأمم، حيث يتساوى القزم والعملاق" (13).

وهكذا نستنتج بأن المنافسة الأوروبية / الأوروبية قد انعكست إلى منافسة آشورية / آشورية بدأت بمشروع "الإتجاه الآخر" وبكمين فرنسي على الطريقة الإنكليزية، مُستغلة الإنشقاق داخل البيت الآشوري، حيث لم يتصرّف الآشوريون بأصعب ظروفهم كوحدة سياسية صلبة أمام التدخلات الخارجية، فالعشائرية والإستكبار والثأر والأحقاد الشخصية لعبت دورها المدمـّر إلى حدّ بعيد، وكان الطرفُ الآشوري الخاسرَ الوحيد، فيما ربح الفرنسيون والإنكليز والعرب والأتراك... ولا يزال الشعب الآشوري حتى اليوم مهمّشاً ومضطهداً في أرض آشور مع استمرار تلك العلل داخل البيت الآشوري.


* آشور كيواركيس؛ كاتب آشوري مقيم في بيروت، له عدة بحوث تاريخية ومقالات سياسية تتناول الشأن الآشوري، معظمها منشور في الصحف العربية والآشورية وعلى مواقع الأنترنيت.


المصادر:
1-   The Church of the East and the Church of England, J.F.Coakley, Oxford,1992 – P: 257
2-   J.F.Coakley, P: 259
3-   "المسألة الآشورية في العصر الحديث"، ماتفييف، ص: 75-76
4-   مذكرات جدّ الكاتب، يوناتان كيواركيس، من عائلة مار صليوا – جيلو (بيت ياغمالا - قرية مار زيـّا)، والذي كان منذوراً لكرسي مار صليوا - أسقفية غاور خلال الحرب العالمية الأولى حيث كان يعيش في البطريركية في قودشانس، وكان شاهداً على ردّة فعل العائلة.
5-   مذكرات يوناتان كيواركيس الذي كان حاضراً أيضاً مع عائلة المار شمعون في الموصل أثناء الحادثة قبل الإحتفال المقرّر.
6-   بالرجوع إلى الرسالة الأصلية بخط يد الملك قمبر، من وثائق شقيقته المرحومة هيلين مالك وردا.
7-   "المسألة الآشورية في العصر الحديث"، ماتفييف، ص: 118
8-   "الآشوريون والحربين العالميتين" – الزعيم الراحل ياقو ملك اسماعيل، طهران، 1964، ص: 157-158 (بالآشورية)
9-   "المسألة الآشورية في العصر الحديث"، ماتفييف، ص: 121
10-   "تاريخ سلسلة البطاركة الشمعونيين"، ثيودوروس مار شمعون، ص: 146 (بالآشورية)
11-   “The Assyrian National Question”, Sargon Dadisho, P: 78
12-   “La Question Assyro-Chaldeenne – études et notes, 1920-1921”, Gen. Gouraud, P: 12,17,18,19
13-   Emirech De Vattel, “The Law Of Nations”, Article: 18, Equality Of Nations