المحرر موضوع: اللحظات الأولى لدخول القوات العراقية لقلب المدينة  (زيارة 1477 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل وداد عبد الزهرة فاخر

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 131
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
تداعيات الغزو الصدامي للكويت
1  من  2



اللحظات الأولى لدخول القوات العراقية لقلب المدينة
[/b]




وداد فاخر *
كنت بين النائم والصاحي عندما سمعت ما يشبه الطرق الخفيف على باب الشقة ، فتحت عيني قليلا فوجدت كل شئ هاديء والصبح يأذن بالولوج إلى عالم الدنيا في يوم الثاني من آب / أغسطس اللآهب . نظرت لراديو الساعة الذي أضعه جنب سرير النوم فكانت الساعة الخامسة إلا ربعا صباحا ، كان كل شئ ساكنا عندما نظرت للممر الذي تقع فيه شقتنا في مجمع المثنى . لا احد هناك خارج الباب ، ترى هل كنت احلم ؟ ، وفجأة رد على تساؤلي صوت طلقات رشاش قريب جدا تبعه صوت دوي انفجار هائل . وعندما هرعت للنظر من الشباك المطل على تقاطع الدوار الأول مع شارع الجهراء ( شارع فهد السالم ) مرت بسرعة فائقة قذيفة آر بي جي واستقرت ككرة الباسكت بول على أحد أقراص الأنتين الهوائي لمحطة تلفزيون الكويت التي تقع خلف المبنى الذي اسكن فيه . وظهر أمامي خط طويل على جانبي الشارع من جنود يحملون أسلحة خفيفة وأجهزة مخابرة ، يضعون خوذ حربية على رؤوسهم وكأنهم في حالة حرب . نظرت بدهشة وغرابة للصفين الطويلين من الجنود الذين يهرولون اتجاه التقاطع وكأنهم في تدريب عسكري عادي . قلت بدون وعي : حتما جرت اشتباكات حدودية مع العراق ، لذلك خرجت القوات الكويتية للسيطرة على مراكز المدينة . عقب ابني الذي يقف إلى جانبي قائلا : بابا هؤلاء الحرس الجمهوري العراقي ، وليسوا كويتيين . وقد عرفهم ابني من المثلث الأحمر الذي يضعونه على ذراع كل منهم .
في المساء السابق لعملية الغزو كنا متوقعين ما لم يكن متوقعا .. فكل شئ كان يشير إلى حدوث كارثة ، كون من يحكم في العراق حفنة من الجهلة والأميين الذي يحاولون حرف أنظار المواطنين المبتلين بسلطتهم الفاشية نحو الخارج لكي يشغلوهم ما أمكن بحروب ومشاكل عبثية عما يجري من أحداث مريعة في الداخل ، ويثيروا شهوة السفلة واللصوص ومنتهزي الفرص من حثالة البروليتاريا التي تكون دائما هي الفارس الأول في كل الأزمات والحروب  والثورات .
وظهرت بسرعة البرق التربية السيئة لجيل تربى في حضن البعث الفاشي لأكثر من عقدين كاملين ، صرخ أحدهم بأول سيارة متجهة من الدائري الأول باتجاة تقاطع فهد السالم ، طالبا من السائق ترك السيارة والمفتاح بداخلها والخروج رافعا يديه للأعلى ، لتتوالى مسرحية الغزو البشع بأقسى وأبشع صورها الكريهة على الناظر الطبيعي للأحداث . ويصعد بعض الجنود لقيادة سيارات آخر موديل لم تقع أعينهم عليها لحرمانهم من قبل ( الحزب القائد ) حتى من لقمة العيش ، ليصدموها عنوة بالسيارات الأخرى ، أو يضربوها بأعمدة النور في الشارع بطريقة سادية غريبة.
وبدأ كل شئ معتما على طول شارع الجهراء الذي يعج بالحياة في مثل هذه الساعة المبكرة من كل يوم اعتيادي في الكويت ، ولدقائق معدودة كان كل شئ يلفه الحزن والغموض وعلت الحيرة على الوجوه التي عقلت ألسنتها المفاجأة المحزنة . وعندما سارعت بالاتصال ببقية رفاقنا وأصدقائنا لكي أضعهم في الصورة الحقيقية للحدث لم يصدق معظمهم الخبر المفجع ، كونهم حتى ذلك الوقت كانوا بعيدين جدا عن موقع الجريمة الماثلة أمام عيني ، ولم يستوعبوا خطورة وجسامة ما حدث تماما ، بينما ضحك البعض منهم وهو يردد : حتى هنا ما خلصنا ؟! .
بقيت مسمرا نحو الشباك الذي يطل على فندق ( ميريديان ) ، وأنا لا اصدق كل ما جرى، وحمدت الله إنني غيرت وجهة سفري من رومانيا إلى قبرص الذي كان من المأمل أن نطير إليها صباح الجمعة بينما سبقنا الغزو الصدامي بيوم ليضع حدا لآمالنا وينهي فترة سعيدة من حياتنا في وطن آمن سعيد مثل الكويت آوى الالآف المؤلفة من المعارضين العراقيين للسلطة الدكتاتورية الفاشية وفقراء الناس ، وشكل دخلا لا يستهان به من مساعداتهم لأهلهيم وذويهم أيام الحرب الكارثية مع الجارة إيران مضافا لكل ذلك ما دفعته الكويت من مليارات ناهزت الثلاثين دعما لـ ( المجهود الحربي العراقي ) وقتها ، وحماية لـ ( البوابة الشرقية ) للوطن العربي ! . وطاف حينها بذهني بيت من قصيدة للشاعرة الكويتية ( الدكتورة سعاد الصباح ) تقول فيه  :(  أعطني خوذة جندي عراقي وخذ ألف مقاتل ) ، بينما عيني لا زالتا مسمرتين نحو جنود ( القائد الضرورة ) و ( حارس البوابة الشرقية للوطن العربي ) وهم يعيثون فسادا وتخريبا في بلد وقف معهم وآزرهم في قوة وشدة غيهم وغرورهم الذي أودى بهم للمهالك ، وقتل وشرد الملايين من أبناء جلدتهم والمنطقة .
وبين هدير صوت محركات السيارات المتزاحمة التي تركت تشتغل على طول التقاطع من جوانبه الأربع ، وصراخ الجنود ، وخوف الصغار الذين أحاطوا بي في شقتنا وجدت نفسي لا اقوي على فعل أي شئ بعد أن تيقنت تماما من حدوث الكارثة . وتتالت الأحداث بسرعة البرق .. طائرات هليوكوبتر تحلق في السماء ، ودبابات تمر بسرعة منحرفة نحو شارع الخليج العربي ( شارع البحر ) ، تتبعها عربات  عسكرية بمضادات جو تقبع في خلفها . وظهرت سيارة بيك آب عسكرية اتجهت نحو شارع ضاحية الشرق  يقف فيها بطريقة استعراضية غريبة ضابط كبير بنجوم وتيجان وسيوف لماعة يحيط به ثلة من الضباط الكبار وكأنهم في استعراض عسكري ..
البلد الآمن الصغير بدا يثير الخوف والرعب وسط هرج ومرج خلقه الجنود الغزاة الذين تربوا على القتل واقتراف الجريمة . ووسط كل ذلك الخوف تسائل الرفاق عن أفضل الوسائل للتخفي عن عيون مخابرات الفاشست الذين أصبحوا يعيشون فيما بيننا ، والدور المستقبلي لسفارة النظام الدكتاتوري التي تمتلك المعلومات الكافية عن جميع فصائل المعارضة العراقية في الكويت . كان كل شئ يدعو للحيطة والحذر ، وتهيأ الجميع للتصرف لكي لا يقع بين فكي كماشة العدو الفاشي ، وحماية نفسه وأهله من عدو أصبح يعيش معه وفي داخل بيته .
وعند حلول غروب ذلك اليوم المفجع وصلت الزيلات العسكرية محملة بأطنان من الرقي وبصناديق البيبسي كولا ، وأنواع المشروبات الغازية، كي توزع على الجنود المنتشرين في شوارع الكويت . قال احد الأصدقاء متهكما : إشتغل البوك ( السرقة ) . وخمنا جميعا إن كل ما حملته الزيلات العسكرية قد سرق من سوق الخضار في الشويخ ( جبرة الخضار ) -  تلفظ بالجيم المثلثة  المعجمة - ، والغزو غزوا إن كان من أخ أو عدو أو صديق ..
قضينا ليلة حزينة بائسة وسط مخاوف وتشاؤم لما سيحدث في المستقبل ، بينما عاد صديقي الذين شاركاني الحيرة في ذلك اليوم الأليم المحزن لشقتهما في البلوك السادس من نفس المجمع . وحمدنا الله أن التلفونات كانت حتى ذلك الوقت تعمل مع الكهرباء والماء ، بينما استمر ضجيج الجنود تحتنا في التقاطع حيث تمركز بعضهم بكامل أسلحتهم معلنين عن الحقيقة الجديدة الماثلة امام اعيننا التي تنبأنا بحقيقة الغزو التي يجب أن نتعايش معها مستقبلا .
وفي اليوم الثاني استطعنا أن ننزل للشارع بحثا عن ما نستطيع خزنه من مواد غذائية في بلد كانت 90 % من مساحته مخازن للمواد الغذائية والاستهلاكية . ورغم ادعاء إعلام النظام بأنهم سحبوا جزءا كبيرا من القوات الغازية إلا إن ما رأيناه على الطبيعة من باصات ولوريات  أفرغت حمولتها من الشباب والشيوخ أمام مجمعنا ممن ساقهم النظام من أمام محلاتهم ودور سكنهم للجيش الشعبي كذب ذلك الادعاء ودحضه بالكامل .
وفي اليوم الثالث قررنا الرحيل من شقتنا واللجوء لبيت احد معارفنا من الكويتيات ، فقد أحيط المجمع عصر ذلك اليوم بعشرات السيارات الخاصة وسيارات الحمل الصغيرة ، وكان هناك خليط من الرعاع قد بدؤوا في كسر مخازن المجمع وسرقة ما تحويه من مواد وحاجات ثمينة لأشهر الشركات ودور الأزياء العالمية . وعندما نظرنا من الشباك المطل على المريديان جاءتنا أصواتهم لتشي بجنسيتهم العربية وقد جاء اغلبهم مع أولاده وزوجته وانهمك في جمع الحوائج ووضعها في سيارته . بكت زوجتي وهي تردد : حرام عليكم . بينما كان الحراس من الجنود يتفرجون على اللصوص في عملية ( فرهود ) لا مثيل لها ، دون أن يتدخل أي منهم لوقف عملية ( الفرهود ) الجارية بهمة وحماس من قبل الناهبين ( الغيارى ) .
وجرت الأحداث بطريقة دراماتيكية سريعة ، وعرف الجميع أن ذاك الليل ليس له من آخر في ذلك الوقت العصيب ، وحلت وجوه غريبة في الشوارع المخيفة المقفرة بدل سكان البلد ومقيميه الأصليين ، وجوه غريبة عفرها الغبار وبدت علائم الجريمة واضحة على محياها ، وفر معظم السكان والمقيمين بطرق عديدة .  وحدها أكباش الذبح ذات اللون الفاقع الأحمر التي تكون دائما هي الفداء في كل مذبحة ظلت تنتظر مصيرها الغامض بدون رعاية ، أو توجيه وسط هرج ومرج في بلد لا حدود ولا منافذ له إلا في حالتين أما الدخول للعراق أو الهروب عن طريق السعودية ، وأحلاهما مر  . وبدأ كل شيء يلفه الغموض والقتامة ونذر الحرب تتصاعد في وتيرة مخيفة ومفزعة ، بينما انشغل اللصوص ومنتهزي الفرص وتجار الحروب بسرقة اكبر ما يستطيعون من مواد استهلاكية وكمالية وسيارات وأجهزة ومعدات ثقيلة، وانشغلت ( الدولة الغازية ) عن الجميع بكامل رجال مخابراتها وعسسها في جمع المقسوم والهروب به لداخل العراق ، وبدأت اكبر عملية ( فرهود ) في العالم لنقل معظم مخازن ومعدات الدولة لداخل العراق  وشمل ذلك حتى حديقة الحيوان . ونشط ( نشامى ) الحزب والمخابرات والجيش الشعبي في سرقة كل ما تقع عليه أيديهم مهما رخص أو غلا ثمنه ، وفي المقابل شحت كل المواد الغذائية وما تبقى في جيوبنا من نقود .
وبانتظار الفرج كنت اعمل متطوعا في المستشفى ليل نهار تاركا ( الذراري ) وأمهم لرحمة القدر ، بينما بدأت الحرب أوزارها واشتد أوارها باشتداد القصف الجوي العنيف .. وبين الخوف على الوطن المستباح من قبل الفاشست والحقد على الفاشيين كان الجميع يأمل بفرج قريب بواسطة أهون الشرين ، الحرب .....

 * كاتب عراقي - فيينا