في العراق، مهزلة إسمها العرف العشائري.
عبدالغني علي يحيى
إسترعى انتباهي مقال في صحيفة (صوت العراق) الأكترونية لكاتبه (سيف الله علي) بعنوان (مهازل العرف العشائري في عراق اليوم). استعرض فيه من منظور انتقادي، حوادث بت فيها ذلك العرف تذكر المرء بحكايات (قرقوش) التي تجمع بين الملهاة والمأساة ويضرب بها المثل في الطغيان والجور. وختم مقاله بحادثة أدرجها في (شر البلية ما يضحك) وهي: اصاب عطل (بنجر) سيارة كانت تقل ركاباً بينهم فتاة، ونزل منها سائقتها لنزع الاطار (البنجر) وبسبب من ثقله ضرط فما كان من الفتاة إلا ان تضحك، ومن شدة الضحك فارقت الحياة. الطريف أن أهلها لاذوا بالعرف العشائري لمقاضاة السائق الذي غرم بمبلغ (5) ملايين دينار، وحين اعترض ردوا عليه: (لولا ضرطتك لما ماتت)!
يقال ان شرطياً في العهد الملكي ضرط في مجلس وجيه بأحدى القرى، فلم يستطع بعض من الحظور من التغلب على ضحكهم، آنذاك هددهم الشرطي قائلاً: (اتضحكون على ضرطة الحكومة، سوف أريكم؟) علماً ان الناس في بعض من مناطق العراق كانوا يسمون الشرطي الحكومة. إلا ان الحادث مر بسلام، وغاب الشرطي مع وقف التنفيذ لتهديده، وكأننا بالحكومة مهما كانت ظالمة أرحم من العشيرة واكثر تسامحاً منها، وهو كذلك.
منذ أعوام يزاحم العرف العشائري في العراق القانون في الفصل بين المتنازعين، وبالأخص في الاعوام الاخيرة من عمر النظام العراق السابق 1968-2003 الذي كانت له اليد الطولي في تثبيته في إطار توجهه العشائرية، وقادة التوجه الى ابتكار عناوين مثل: الشيخ العام للعشيرة، ومعاونه، وشاعر العشيرة، وحامل البيرق... الخ من العناوين، بعد أن عرف بمحاربته للعشائرية عندما كان في أوج قوته ومن قبل أن يتحول الى نظام حرب وفاشية ويعود بالبلد القهقري الى الوراء.
وهكذا ومما لايختلف فيه إثنان ان العشائرية تنتعش في اجواء ضعف الحكومة وتراجع حكم القانون ودخول البلاد في الحروب والنزاعات، وفي حينه رأينا كيف مالَ العهد الجمهوري الأول الى العشائرية لمواجهة الثورة الكردية، عندما شكل القوات غير النظامية من العشائر والتي سميت عندما شكل القوات غير النظامية من العشائر والتي سميت فرسان صلاح الدين والوليد، بعد أن كاد قانون الأصلاح الزراعي والغاء قانون دعاوي العشائر ان ينهيا العشائرية واعرافها. ومن منطلق الضعف والعزلة، لجأ نظام البعث الى العشائرية في الاعوام الاخيرة من عمره كما بينا، لذا فأن تجاوز النظام العشائري واعرافه مرهون بسياسة الحكومة قبل كل الشيء، فأذا كانت قادرة على احياء العشائرية، فأنها قادرة أيضاً ان شاءت على إزالتها، مثلما ازيلت في معظم اقطار العالم باستثناء الاقطار المتخلفة، ولا ننسى ان معظم المجتمعات، ان لم نقل جميعها، مرت بهذا الشكل أو ذاك بالنظام العشائري، إلا انها تغلبت عليه عبر التقدم بالمجتمع وتحديثه ودمقراطته والتي ادت تلقائياً الى محوا العشائرية وأعرافها.
إلا أنه يبدو في الحالة العراقية الراهنة، أن لا الحكومة ولا الأطراف السياسية مستعدة لذلك، بل ان العديد من السياسيين سيما من العرب السنة وتحديداً السياسيين الذين عرفوا بموالاتهم للنظام السابق يظهرون انفسهم في المناسبات والمحافل الرسمية بالازياء العربية (العكال) و(العبي) و(الدشاديش)..الخ ولقد رأينا بعضاً من المتهمين في محكمة الجنايات العليا مرتدين للزي العربي الذي لم يسبق لهم ارتداءه في الماضي. في مسعى خائب منهم لأظهار العروبة في العراق بمظهر المتعدى عليها من قبل الشيعة والكرد فكسب دعم من حكام الخليج. علماً أنه من حيث المبدأ ليس من اعتراض على الأزياء الشعبية العربية وغيرها، إلا ان استعمالها من جانب المسؤولين ورجالات السياسة لم يكن تقليداً ولا شائعاً حتى في العهد الملكي، بل ان الميل كان يتجه حتى من قبل افراد العائلة المالكة الى الزي الغربي والى (السيدارة) و(القبعة) وليس(العكال) لهذا أقوال ان النخب السياسية العراقية في تقليدها لأمراء الخليج غير صادقة وتقليدها لهم غير مقنع، والمقلدو دون المقلد كما يقال، أو كما يقول الغربيون: (ثياب الرهبنة لا تصنع الراهب).
لقد أسست الحكومة وزارة باسم وزارة شؤون العشائر وكذلك مؤسسات ذات مضمون عشائري أدنى منها، أما الأحزاب فأنها استحدثت شكلاً تنظيمياً لم يكن مألوفاً من قبل، ألا وهو مكتب شؤون العشائر الذي يفصل في المنازعات وفق العرف العشائري، متوهمة بذلك أنها تكسب العشيرة في نهاية المطاف الى جانبها. ومثل هكذا نهج سواء من الحكومة أو الاحزاب يتقاطع مع الدعوة الى دولة القانون والمؤسساتية والتقدم بالمجتمع. ويجعل من العشائرية تتغشى كالوباء في الجسد العراقي، ونتيجه لذلك تفاقمت حالات الثأر وقتل النساء وظواهر اخرى مدانة مثل المحسوبية والمنسوبية وغيرهما. هذا في وقت لم يتمكن فيه العهدان الجمهوري الأول والعهد البعثي مع الفارق بينهما من تحقيق اهدافهما باللجوء الى العشائرية، مثلما لم تتمكن الحكومة الحالية من انهاء الفساد والأرهاب، بالتوجه الى العشائرية، والعرف العشائري لايقل فساده عن الفساد المتشري في أجهزة الدولة العراقية الآن. لقد تمادت الحكومة والاحزاب السياسية وعلى وجه الخصوص الكبيرة منها في اسناد العشائرية ومغازلتها، واعطائها حجماً لا تستحقها الى درجة السماح لها بالبت في قضايا حساسة هامة شبه مصيرية، إذ ما معنى رجوع الحكومتين المحليتين في محافظتي (الأنبار) و(نينوى) الى العشيرة كي تحكم في موضوعة الفيدرالية بالنسبة للأولى (الأنبار) وحل الخلاف مع قائمة نينوى المتأخية بالنسبة للثانية (نينوى) احقاً ان قضية كالفيدرالية والنزاع بين قائمتين انتخابيتين تستدعيان الاستئناس برأي العشيرة ام رأي رجال القانون والمختصين؟. جدير ذكره، ان الحكومة المحلية في نينوى أهملت ممثل الأمين العام للأمم المتحدة أد. ميلكرت الذي توسط لاجل حل الخلاف بين القائمتين المذكورتين وفضلت عليه العشائرية!! مثال تان على ذيلية الحكومة ودونيتها امام العشيرة والعرف العشائري. ففي (صوت العراق) ايضاً، اشير الى مقال للدكتور محمد ادريس محمد حول فصل عشائري تم بين وزير الصحة السابق صالح الحسناوي وبين المفتش العام في وزارة د.عادل محسن والذي، اي الفصل، عرضه فلم وأهل (العكل) كاعدين على حد قول الدكتور محمد ليفضوا النزاع بين الرجلين!!
ليس الفساد والارهاب والتزوير والمحسوبية والطائفية والمحاصصة وو.. من الامراض الفتاكة التي تنال من العراقيين وتذلهم، بل ان العشائرية واعرافها تؤدي الفعل نفسه، وما لم يتم القضاء عليها قضاء مبرماً، فان التخلف يظل قائماً والمآسي تتواصل وتظل الوطنية العراقية، جريحة مهانة ويظل المثقف العراقي ورجل القانون، يشعران بالصغار والدونية في بقاء العرف العشائري، واقوالها بصريح العبارة، ان اكثرية رؤساء العشائر كانوا أدوات طيعة عملية لأجهزة الأمن والأستخبارات في السابق بأستثناء قلة منهم أثرت المنفى على الرضوخ للنظام، ومع هذا فان ذلك لايبرر الابقاء على النظام والعرف العشائريين.
في الختام، قبل نحو 3 اعوام، اجرت فضائية عراقية مقابلة مع رئيس عشيرة كردي من المناوئين للحكومة الكردية، إفتخر بانه وعشيرته كانا على طول الخط مع الحكومات العراقية وفي خندقها ولم يكن فقط قد تشرف بمقاومة اية حكومة من الحكومات العراقية السابقة والتي كانت جميعها دكتاتورية بعض منها فاشية، غير ان النظام الديمقراطي عندما قام في كردستان أولاً ثم في بقية العراق، آنذاك انتقل الى مقاومة الحكومة الكردية!!!!
Al_botani2008@yahoo.com
رئيس تحرير صحيفة (راية الموصل) - العراق