المحرر موضوع: ألأموات لا تذرف الدموع ـ فصل4 ،جزء1 ـ رواية  (زيارة 1392 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل نذير حبش

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 61
    • مشاهدة الملف الشخصي

                                         ألأمواتلا تذرف الدموع
                                                    رواية
                                                 نذير حبش

ألرواية التي تجسد (عدم الفاعلية) ، عدم فاعلية الدول ، المؤسسات والأشخاص، تروي تاريخاً ، يقول مؤلفها ((أروي تاريخاً لا أؤرخ لرواية))، تستغرق الفترة من آذار 1991 إلى ديسمبر 2002، تدور أحداثها في العراق ، سوريا(سجن مخابرات فرع فلسطين في دمشق ، معسكر عذرا للمخابرات ومخيم أبو الهو ل) ، لبنان ، هولندا وأماكن أخرى.
طبعت طبعة خاصة في حزيران 2004 ، نشرها يتطلب موافقة المؤف/الناشر،  ومن يخالف ذلك يكون تحت طائلة المسؤلية. نقوم ببعض القطع في النص لأسباب معينة.

إذا فقدت الحنانَ في صدر أمك فلا تبحث عنه في صدر أخرى ، وإن لاقيت القسوةَ من كف أبيك فلا تترجى العطفَ من أكفّ الأغرابِ، فالعالم إنْ هو إلاّ مائدةٌ ، والحياةُ ليست أكثر من وليمة اللئام! ( فصل 33  ص 173:في سوريا)

                                              ألفصل 4 جزء 1

على الجانب المقابل للكنيسة الكبيرة (الطاهرة) من الشارع الكبير ، الذي يفصل بينها وبين الحي القديم ، ألقصبة العتيقة ، يجلس أيوب أو (أ,با ـ بتخفيف صوت الباء) كما اعتادت البلدة أن تختصر الإسم، فوق سطح بيته الملاصق لبيت جاره سليم (أبو يعقوب) ، كمعظم من تقابل بيوتاتهم الكنيسة ، واللذين تقع دورهم بمحاذاة الشارع. عجوز قد نسيته السنون ، وما عاد هو أيضاً يهتم لأمرها، حتى لم يعد يعرف عدد سني عمره ، إنما يحدده حسب الحوادث والظواهر التي  شهدها في حياته، يضرب ظهره المتحودب على جدار الحائط لجاره سليم ، كعباد شمس حين تمتليء وتثقل زهرته ، أثقلته هو الآخر سنوات عمره. عاضت عن قسمات وجهه الأخاديد التي حفرتها السنون، وتوارت ناظراه الغائران خلف حاجب كث ألهبته قساوة الأيام شيباً. أللفافة في فمه أصبحت جزءاً من طقوس جسده وحياته المديدة كتراتيله الدائمة للإله. دون أن يبدد الوقت لتعمير لفافة أخرى ، فمن يده اليسرى يتدلى كيسه القطني، كان ذلك آخر ما خاطته زوجته (بهية) بالإبرة اليدوية منذ عشرين عاماً قبل وفاتها، ليحفظ تبغه الجاف. فما احتاج يوماً لغير مسبحة صلاته وزوادته حين كان يخرج لفلاحة الحقل، أو الإعتناء بزروعاته ، وقربة الماء وكيس تبغه هذا.

ماكنة الخياطة في القرية ، حينها ، إمتلكنها فقط الراهبات اللائي كنّ يسكن في الطابق الثاني في بيت ملحق بالكنيسة الكبيرة، كنيسة الطاهرة، مقابل بيت(ص 20)  المرحوم (القس جبرائيل حبش)، وكان هدير ماكنة خياطة الراهبات يملأ الشارع. كل تلك السحاقيات اللواتي لا يمِلن إلى عالم الرجل، أو تلك التي ارتكبت حماقات الطفولة مع أحد أولاد الجيران، مثلما يخبرنا علم النفس وفلكلور القرية، ولخشامتهن وانعدام الثقافة الجنسية ، كن يخشين من أن يكون غشاء البكارة قد انفتق ، فيلتحقن بالرهبة.
والبعض الآخر منهن كن يحلمن ـ وما زلن كذلك حتى اليوم ـ كن يحلمن بالعيش السهل، في بيوت وقصور فاخرة سميت بالأديرة ، كان الأجدر أن تُستغل للصالح العام ، ويأكلن ما لذ وطاب، مخلفين وراءهن الرهبنة الحقيقية ، خدمة أهاليهم في عيشتهم المتعبة، من أصحاب الضآن والمهن اليدوية، ويوم كانت متطلبات الزراعة اليدوية الغير المؤللة في القرية مضنية. فما أطيب للكسالى بهكذا عيشة، رغد ونعيم مجّانين وإطلاق غاز المعدة، وفوق كل هذا التبجيل الذي يتوجهن به جهل المجتمع !

ودون أن ننكر على بعضهن بأن رهبتهن آتية من رغبة حقيقية، يصدقن ما يلقنهن في صغرهن ، فيصدقنه، من كاهن يقول ما لا يفعله. لكن بعد إلتحاقهن بالرهبنة ، تلك الفتيات ، ألكثيرات منهن يتعرفن على حقيقة الدير وما يحتويه من نفسيات مريضة، فيسارعن إلى ترك الرهبنة والعودة إلى الحياة الطبيعية بقوة وأكثر  عزيمة ورغبة إلى الحياة العائلية. أما اللائي يتملكهن ظاهرة الخجل فيقضين باقي أعمارهن يتأفأفن داخل الدير،  وبعضهن يملكن وظيفة كأن يصبحن معلمات(ص21) ، فإنهن يصبن  غضبهن ، ويظهرن عقدهن على تلميذاتهن بنتف شعورهن وما إلى ذلك !

يدنو سليم ابن الخامسة والسبعين ، عُرف بفطنته وهو أقرب إلى المتفلسفين في الحياة، يمكن ضمه إلى الشكاكين بالفطرة، فلا يجاري أفكار المجتمع وأعرافه بسهولة، كما يفعل التلمذانيين اللذين لا يخالفون ما لقن لهم، وما زالوا يتلقون طوال عمرهم حتى يدركهم الموت، منشغلاً بكيس تبغه هو الآخر يعمر لفافته.

يدنو إلى أيوب دون أن يحدث جلبة، نظره يلاحق نعش الفقيد وإلى الجموع التي تتبعه. يحاول أن يستطلع ما يجري في ذاك المشهد البعيد نسبياً ، فهو أصغر عمراً من جاره ، ما زال يحتفظ ببصر  قوي، ليس مثل جاره وصاحب عمره أيوب.

      تعال أجلس يا أبا يعقوب.

أيوب لجاره ، بصوت مبحوح وفيه حجرشة، من غير أن يحول بصره الضعيف عن كيس تبغه، إنه دائم الإنهماك في تخليصه من العيدان والعقد الغير المرغوب فيها، فهي تمزق ورقة اللفافة وعلاوة على ذلك فهي صعبة الإشتعال.
هؤلاء الشيوخ لهم عاداتهم وقابليات لا تملكها أجيال اليوم. يعرف جاره كما لو كانوا يشعرون ببعضهم البعض روحياً ! قد يكون بساطة الحياة من حيث متطلباتها جبلتهم على الصدق ونقاء السريرة، التي أصبحت في أيامنا هذه صعبة المنال !؟! لم يفكروا مثلنا بالإكتناز وبالإزتزادة والإدخار للغد كما نفعل نحن ، ومزاحمة جارنا في رزقه ونحاول أن نربح منه ما أمكننا على حساب لقمة أطفاله(ص22)،  لم يفكروا يوماً في الربح من بعضهم البعض، بل تجارتهم كانت اسلوباً للتكافل وتبادل ثمار جهودهم فيما بينهم، لكي يستنفع كلٌ  من صنعة ونتاج صاحبه.
أما نحن ، حالما قابلنا شخصاً فأول ما نقوم به حساب الربح والخسارة. تحسب ما هي أرباحك وكم سوف تكون خسائرك وتقارن وتوازن بينهما، كما لو كنت تعقد صفقة تجارية لا علاقة صداقة ! أو قد نكون مخطئين ، فربما كان لهم جشعهم وأنانيتهم وحقدهم وحروبهم !؟!

تقترب (أمل) بنت الثلاثة ربيعاً نحو (جد أبيها) أيوب (أُوبا) بهدوء، تلازم جدها في الصباحات الدافئة المشمسة في الأيام الربيعية ، وتلتجيء إليه في الأيام  التي تبعث على عدم الإرتياح، كيومهم هذا. كانت تعبث مع النملات التي لا تكل ولا تمل جيئة وذهابا، ولكن ذلك اليوم الذي لا يعرف له قرار، كانت قد فقدت بوصلتها ، فكانت تدور حول القن بغير انتظام.

وجه يشع براءة وبشراً، تبث الدفيء أينما حلت، وتطري جو المكان بكلامها البريء حينما تطلق العنان للسانها، تزداد طمأنينة كلما اقتربت أكثر منه، فجدها بالنسبة لها هو الملاذ الآمن. تلف ضراعيها الناعمين بحنان ملائكي حول رقبة جدها من الخلف، ألمغطاة بمنديل الرأس التقليدي لبلاد الرافدين وتشبكهما ببعضهما.

جدي ... بدلال الطفولة ، فقد اطمأنت تماماً فهي تهاب الجموع إذ لا تدرك سبب تجمعاتهم. كنسمة سماوية داعبت الجد ، يحول انتباهه عن جاره لبرهة لكائن ملائكي لا يمكن تجاهله ، ورغم ثقل حركته، يمد يده اليمنى ليشبك أنامل الصبية برفق. يشعر كلما لامس أحد من أحفاده بكهرب يسري في عروقه، ألأطفال لديه من عالم الروح ، بعد لم تدنّسهم حياة الدنيا. برفق يجذب الصبية إليه ليمسد على شعرها الحريري كعادته، فهو يحاذر من أن يخدش تلك الأنامل الطرية الملائكية ، فالسنوات قد نحتت له كفين خشنين ، كصلصال أرض زكية قد ضنت عليها السماء بمائها، بعد تاريخ من الوصال والود.

...جدي إلى أين يأخذون هذا الصندوق ؟ بدهشة الأطفال تسأل أمل.

في سره ـ الذي كان قد فقد أحد أحفاده في الحرب الأولى ، ألإيرانية ، وكان قد ترك الفقيد ثلاثة أطفال وأرملة في عز شبابها ـ وهو يمرر يده على أنامل حفيدته الناعمة (ابنة حفيده) وهو يدرك أنها لن تفقه ،صبية بنت الثلاث سنوت، بعد من حديثه شيئاً ، وما لبثت بعد سؤالها حتى انشغلت بالنظر إلى الجموع وهي ليست مدركة شيئاً لحقيقة ما يجري حولها.
{ آه صبيتي تمنيت لو كنت قد ذهبت قبل هذا الشاب حيث ياخذونه الآن، لمَا كنت قد رأيت شباباً بعمر أحفادي يموتون، وأطفالاً بعمر أبناء أحفادي مثلك يتيتمون، وشباباً لم يخط شاربهم يشيخون}.

يقطع تفكيره الصامت ، يهمهم ، ثم يوجه أيوب حديثه إلى جاره سليم مسترسلاً ، بعد أن استدار نحوه، وسحب نفساً من لفافته، ثم نفذه ليخرج الدخان كمدخنتي كور فوق الشارب الأبيض الكث المتموج بلونين ، الذي خلفه الدخان طوال تلك السنين، ألأحمر المائل إلى الصفرة الذي خضب بياضه.

أعرف أن الرب يعاقبني بطول عمري..لقد صدق ذلك الكاهن حين أراد مني أن أعطيه قطة أرضي، القريبة من مدخل البلدة..حينها كي يقيم عليها داراً له ولعائلة أخوه، بعد أن كان قد اغتنى بعد  ما أصبح كاهناً بزمن قليل ، فرفضت..وقال لي بصراحة حينها، بأنه سوف يصلي ضدي كي يعاقبني(ص23) الرب..نعم رفضت، ألأرض غالية بغلاوة أولادي..لا..لا ، لن أكذب ..فسوف أقف يوماً أمام الرب الرحيم.

         عن أي كاهن تتحدث أيها المؤمن ؟!

ينتفض سليم ، كمن اخترقت جسده رصاصة، وقد هم برشم (رسم) علامة الصليب على وجهه ! جحظت عيناه ، تقطبت جبهته، يكشف رأسه المغطى بالشماغ التقليدي ليعلن عن شعر أشعث طويل لم يعمل فيه مقص منذ عشرين عاماً ، حينها نصحه حكيم البلدة (قنديل) بإطلاق شعره، كي يتخلص من شعوره بالبرد في جلدة رأسه، ولحسن حظه لم يخف شعره كما هي العادة لدى معظم الرجال، كلما  أدركوا الشيخوخة ، كمل لو كان شعر ابن العشرين ، ألزبد يتطاير من فمه.

أتقصد القس (.....) !! أقولها ، يوم يأخذ الله أمانته ، ونقف عراة أمام وجهه القدوس، ما تتناقله كل البلدة.. ـ يردف سليم كل البلدة، يوحي بالقول أنه لا يكشف سراً ـ فهو قليل النبش في سيرة الآخرين كما هو معروف ، ألقس (......) أُخِذ له ، وبلغته الفلاحية البسيطة ، ألتصاوير في هذا الذي يسمونه الفاديو ـ يقصد الفيديو ـ وهو يتنجس مع فاجرات ... وليست واحدة أو إثنتين، نساء متزوجات وأخريات لم يزلْن باكرات..وهذا العمر كله يلطخ ثوب الكهنوت الطاهر...عن أي أرض تتكلم أيها المؤمن !؟! أتظن أن أرضك الوحيدة في هذه الدنيا ؟ (ص24) لقد نهب نصف أراضي البسطاء بأموال الكنيسة، أموال الشعب وقيّد الأراضي والبيوت باسم إخوته وأولادهم !!
أَما زلت أيها المسكين تشعر بالندم لعمل لم يكن خطيئة ولا جرماً ؟! أرضك حللها الرب لك ، وسوف يجازيك الرب خيراً ، لأنك حفظتها لأولادك وأحفادك، لا بل الرب أوصانا بالحفاظ على خبز الأبناء، ألم تسمع ما يقوله الرب في كتابه المقدس ((لا يلقى خبز الأبناء للخنازير)).. ليذهب هذا الندم ،  وأنا أحمل هذا الذنب عنك، لو كان ذنباً ، حينما أقف أمام الباري يوم الدينونة.

يمسح أيوب جبهته وناظريه الدامعين ، الشبه المغمضين ، بهدب منديل رأسه المتدلي، بعد أن كانت حفيدته قد حررت يداها عن رقبة جدها، وراحت تبحر نحو الجموع ، ثم يرشم علامة الصليب ويستغفر ربه بكلمات تكاد تكون غير مسموعة إلا لنفسه. وكما قد أُزيح عنه جبلاً كان جاثماً على صدره من جانب ، وبعد هذا العمر المديد لا يرغب حتى الظن بحق أحد من جانب آخر.

ماذا تقول !؟! لا تنس سليم بأننا بين رمشة وأخرى قد نلحق بهذا الشاب المسجى، ونواجه وجه الباري القدوس !
لا ، بثقة أكبر يقولها سليم، هذا كلام المدينة كلها ، رأوه بأم العين منذ زمن وهو على هذا الحال وبعدها سجلوه بالفاديو.

يتنهد أيوب وهو يردد بينه وبين نفسه { كاهن ويأتي بهكذا أفعال ؟! ثبت إيماننا يارب }.( ص25)
ويحاول أُوبا (أيوب) أن يتقصى عما جرى لهذا الكاهن الفاسق، مدفوعاً بإيمانه الثابت ، فيتسائل.

      ولم يطردوه من الكهنوت وتسجنه الحكومة ؟!

يتبع ج2 من فصل 4