المحرر موضوع: مَهرا لعينيها ومحمد علي الخفاجي ...  (زيارة 925 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل خلدون جاويد

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 288
    • مشاهدة الملف الشخصي
مَهرا لعينيها ومحمد علي الخفاجي ...

خلدون جاويد

 الشاعر رياض البكري هو من أطلعني على ديوان " مهرا ً لعينيها " الذي هو آية من الجمال الشعري . حديقة غناء خلابة . عرّفني أيضا على خاله رفعت البكري : العاشق للشعر حد الذوبان ، وقد دعانا الأخير الى مهرجان شعري في كلية الآداب ـ الصليخ ، بغداد ، 1965ـ  فذهبنا مأخوذين بجذل الشباب وأفراحه وإكتشافاته . شعرنا وقتها أننا أمسكنا بدفة المركب ! بل إن رفعت البكري قد أسلمنا مفتاح الولوج الى مملكة  !...
 من هناك بدأت رحلة التعرف على عالم جديد يشبه تعرّف وزة هينس كريستيان أندرسن على بقاع ماء وغابات جديدة .. على  الصحافة والعلاقات والقراءآت والمقاهي والنوادي .. ألمهم  إن في السفر نحو الأشياء  يتكوّن الإنسان لافي مكوثه في ضاحية بعيدة .
 كان حلمنا أن نرى محمد علي الخفاجي : الشاعر الصائغ لأرق حرف وأجزل جملة . كيف لا وهو مِن أنجب ِ تلامذة  قيس بن الملوح وعمر بن أبي ربيعة وسحر ديباج أبي نؤآس ، مرورا بجنائن الشعر حتى العصر الحديث . وحيث تجد في شعره نكهة السياب وعمر أبي ريشة والياس أبي شبكة وفؤآد الخشن ونزار قباني  وكل شاعر رقيق رومانسي غزلي عاشق ولهان . وهذا ما أشار له الكثير من نقاد شعره على صفحات " جريدة كل شيء" الجريدة الجذابة والمتنوعة آنذاك  .
 في كلية التربية ، بعد عام تقريبا ، وفي نادي الكلية الذي يضج بأغاني اُم كلثوم عامة ، وخاصة تلك الاُغنية المقررة كل يوم ! الربيع للمطرب الموسيقار فريد الأطرش ،  إلتقيناه  بلحمه ودمه شاعرنا الأثير والكبير محمد علي الخفاجي . صادف ونحن نلتقيه أن يكون ديوانه معنا نحمله بالكف أينما ذهبنا . الشاعر رياض البكري كان كثير الإطلاع نبّاش كتب ومجلات ودواوين شعر وقصائد تاريخية شهيرة، وبرامج إذاعية أدبية . وها هو الآن يحاور شاعرنا الباهر . ما أروع أن يجالس الشاعر الناس ويتحاور معهم ، إنه يمنحهم أريج الروح الذي لاينسى . اُقارن ذلك مع  عنجهية بعض الأسماء التي ترد في خاطري عندما يتعالون على الجلوس مع شعراء صغار أو اُدباء ناشئين . أعرفهم لكني لست ُ نمّاما ً بالأسماء كي لاأكون مرمى هدف لمن لايستألون ذِكرا ً.
 تعلمنا من محمد علي الخفاجي طراوة الحرف أريجه ، نورانيته ، كثافة وجزالة التعبير ، حفظت له بعضا من قصائده التي اُرددها في جلسات السمر مع أصدقائي . ومما اُعجبت به قصيدة  لاأحفظها كاملة للأسف  :

أفديه عُري ّ َ الجـِـيد
أفدي الشامة  المراودة ْ 
على سرير متنك الرُخام
ظلت راقدة ْ
كقطرة من عنبر ٍ
فوق حزام حاصدة ْ
أو حبة هندية البخور
فوق المائدة ْ
أو تلك عين ُمُعجَب ٍ
ظلت عليها جامدة ْ
أم ريشة الله التي
مرت عليها شاردة ْ
قد عثرت ْ فأسقطت ْ
قطرة حبر واحدة !

 والشعر الجيد يُحفظ  خاصة من قبل الشبيبة التي لاتتلوث قلوبهم  بالمحاسد والمكاره  مثل البعض ممن  لايرون الجمال عند منافسيهم . وقلما أحب حلاقٌ حلاقا ً !. كان طلبة الجامعة  من أصدقائي  يحفظون له ، على سبيل المثال ـ قصيدته الرائعة التي مطلعها  : " حقول الآس إني جئت ُ وحدي .... إليك وسوف أذهب عنك وحدي " وكذلك قصيدة مهرا لعينيها التي مطلعها " بزرقة عينيها أغوص وأبحرُ ....  وأطوي شراعي في مداها وأنشرُ " . " على جدران كلية " الخ
 إلتقيناه  مرارا في مقاهي بغداد ، سعدت بزيارتي له في كربلاء واستقباله المضياف لي .. وارساله قصيدة تائية بيدي الى الملحق الأدبي  الى الاستاذ كامل خميّس أو عبد الوهاب الأمين لا أتذكر . قصيدة رائعة تائية تنتهي ببيت شعر لا أنساه : " غدا سِفر الزمان يشيد نصبي ... وأنت على حجارته كُتِبت ِ " وكأنه يقول أنا الشاعر الخالد وأنت بجمالك وبهائك مجرد إسم على حجارة يقف عليها التمثال . وتلك لعمري خشبة النجاة لشاعر محروم مثله يقول " فإن تمنعوا ليلى وتحموا بلادها ... علي ّ فلن تحموا علي ّ القوافيا " .. هكذا هو الحب المحروم يولد طاقات هائلة من التفجر الإبداعي .
 ودعني محمد علي الخفاجي وهو يسلمني قصيدته للنشر  .. ومع الوداع كلمة حلوة لا أنساها : مع السلامة : قلبي معك .  وكلما ودعت لي صديقا حبيبا علي ّ قلت له : قلبي معك . وأعني أنني في لحظة وجد خفاجية . إنه إبن كربلاء الحنان والمحبة والشعر .. ماذا يقول اللسان الكربلائي سوى الشعر والأدب والفلسفة .
 محمد علي الخفاجي جميل ولايزال ، أعتبارا من مهرا لعينيها الى "أنا وهواك خلف الباب" ، الى "لو ينطق النابالم" الى كتاباته  العديدة  الاخرى وحبه للأسنمة في القصيدة . 
 كنا نلتقيه انا والشاعر رياض البكري ونقرأ بعض القصائد في المقاهي " البرلمان ، مقهى جميلة ، مقهى دجلة " ومقاهي  أبي نؤآس .. ولاتسعفني الذاكرة الآن بإسم مقهى كبير جدا بمساحة مقهى التجار يقع على يمين جسر الأحرار وعندما تنعطف على اليمين وتدخل زقاقا يفضي الى باحة ، هناك المقهى الكبير المطل على النهر ، الذي يقرأ الطلبة فيه أيام الإمتحانات ، هل كان أسمه  شط العرب ؟ لا أتذكر . . كنا نلتقي هناك أحيانا . علماً بأني ـ جملة اعتراضية وجاحظية ـ قد توسلت دامع العين بالذكرى أثناء وقوفي أمامها قبل عامين من الآن في آخر زيارة لبغداد ، فرأيتها قد اُغلقت واُحيلت الى مخزن . ومثلها مقهى جميلة في شارع الأمين ومقهى خليل وكثير من المقاهي المعروفة ، وأكثر ما أسلمني للحسرة غياب يافطة كيت كات عن الوجود !. إن الزمان إقتلعنا واقتلع ذكرياتنا منا . المهم ـ قصر بجمع ـ  كانت لقاءاتنا مع شاعرنا  بحدود الفترة المحصورة مابين عام 1966 ـ  1973 كان هو الاستاذ في كل تلك الجلسات الحميمة . شاعرنا الجميل محمد علي الخفاجي " أبو نؤآس " هكذا أسمى ولده حبا بالشعر وروح المرح والدعابة والإنطلاق ،
كنا قد تأثرنا به ، وعلى غرار مجموعة من الشعراء  والمثقفين في كلية التربية أسمت نفسها " جماعة الفكر المعاصر " كان هو رئيسها أو أحد أعضائها المهمين ، كانت لدينا نحن أيضا " جماعة النشء المعاصر " . نشرنا تعريفا لنا في ملحق جريدة الجمهورية ، وفيها أيضا كنا ننشر قصائدنا أنا ورياض .
 كنا  رياض وأنا قد فارقناه نوعا ما  وذلك ربما بحكم  وظيفته الجديدة خارج بغداد ، وبحكم انغمارنا  في مجال العمل السياسي ، أنا تركت الشعر وأسرتني القراءآت  الماركسية والمطالعات الذاتية والعمل في التنظيم السياسي   في منطقة  الشواكة وعلاوي الحلة . وكنت معجبا جدا جدا بالشخصيات الشعبية : النجار والصباغ والنداف كانوا أحبتي وأصدقائي ورفاقي  في وقت كنت فيه مونتيرا في السينما أتأثر واؤثر بمحيط يمنحني الفرح والدهشة والإقبال على الحياة ..  ظلت أيام الجامعة ورائي ولم أعد ألتق الشاعر الاستاذ الذي ربيت على ديوانه وهذا ماكتبته له إهداءا على ورقة  قصيدة قرأتها في كلية التربية وكان هو حاضرا مع الجمهور النخبة من عشاق الشعر ومن طلبة الكلية . " اُهديك قصيدتي أيها الشاعر الاُستاذ يامن ربيت بل ربينا على ديوانه مهرا لعينيها " . كان مطلع قصيدتي :

قلبي سياجٌ من بنفسجات ٍ
مليون عصفور ٍ عليه اُغتيلا
ياليتني العصفور حيا على
نافذتيْ عينيك  أومقتولا

*  تجد القصيدة كاملة في ديواني " قم ياعراق " .

 كان رياض البكري قد تأثر بالقيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، واختفى نوعا ما وتعرض لإعتقالات . ومن ثم مارس العمل النضالي في المنظمات الفلسطينية إبتدأ بالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وبعدها بالشعبية . قصائد رياض عانقت فلسطين وكردستان وكل حركة وطنية تقدمية في العالم . حب الاُممية هو أروع وأنبل قياس لثقافة الشاعر ، الى هكذا مصاف إرتقى رياضنا الحبيب . قصائد محمد علي الخفاجي  في بداياتها ، علمتنا الحنان والحنين المنظوم بالورد واللآليء . أما رياض فقد تقدم بالقصائد المحمومة بحب الكادحين وأصبح نبراسا ً . ترك  رياض  العمود  الشعري . أحببناه هو وسعدي يوسف ومظفر النواب ، ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وعز الدين المناصرة .. أحببنا أيضا ثورتهم على الشكل . كنتُ بعد الجامعة متوقفا ً شعريا ,عاشقا  للقراءآت الفكرية . لكني كنت متابعا  ومنشغلا بالآه والونّة ْ !.
 فجعنا بخبر إعدام رياض البكري شهيدا عظيما شامخا غير هياب للمشنقة وهو يهتف : عاش الحزب الشيوعي العراقي عاشت قضية العمال والفلاحين . فجعنا بظهور عزيز الحاج من على شاشة التلفزيون مع محمد سعيد الصحاف وهو يدلي نادما بإعترافاته .
 عـُقدت الجبهة الوطنية . تصاعد مد البعث الإرغامي لتبعيث الناس . مرت حقبة القرون الوسطى حيث الجبهة الوطنية مع البعث الى حيث ماآلت اليه وحسب ماهو متوقع .
 ماعاد يصلح مهرا لعينيها إنجيلا للعشق . القضايا كبرت والهموم كبرت كما كبرت السجون والمعتقلات والإعدامات والحروب  والمنافي .. وبالتالي ـ التحرير الإحتلال ـ الذي آل الى أن يتخلى أهم  شاعر عراقي : سعدي يوسف عن جنسيته " تقريبا " وذلك جراء الأمرَكة والأيْرَنـَة " من كلمة إيران !" التي طمست بالعراق الى التخلف والمحاصصة والسرقات والنهب والخيانة .
 ماعاد يصلح مهرا لعينيها للعشق فإن عينيها امتلأت بالدمع . وعلى من يتغزل أن ينتبه الى ضرورة مزج الكحلة بالدم ـ عراقيا ـ في قصيدته إذا كان  حرا ومدركا للضرورة  التارخية حسب تعبير فريدريك أنجلز . أو كما قال الشاعر الكبير مظفر النواب :" ميلن لاتنكَطن كحل فوق الدم ".
 الى أن تعود مباهج الزمن الجميل سيعود ترف الكلام مناسبا لهارموني  بدايات الخفاجي وزمننا الباهي .
 نعم كان جيل جامعي يعج بقصائد محمد علي الخفاجي لكن كانت الشهرة الأكثر للأسف الشديد للشاعر السياسي وللتطبيل الإعلامي الحزبوي . أما إذا كنت ناقدا لحزبك خاصة فسلم لي عليك !
 أما ماقيل ، والعهدة على الراوي بأن محمد علي الخفاجي قد نأى بنفسة عن مدح الديكتاتور فهذا شرف كبير له وللكلمة . أنا أقول ذلك لأني لم اُتابعه سياسيا ً .  لقد إنقطعت أخبارنا . لكن الزمان قيض لنا أن نلتقي في 2003  في مقهى الشاه بندر في شارع المتنبي لقاءا حميميا ، أخبرته فيه بأن رياض البكري استشهد وهناك روايتان الاولى في أحد سجون بغداد والثانية ببيروت إثر تآمر شخصيات كبيرة ضده وضد القيادة المركزية .
 للأسف كان اللقاء سريعا .. لأنه صادف أن يكون في نهاية سفرتي بيوم واحد .
 لقد حُرمت من اُستاذي  وشاعري الكبير محمد علي الخفاجي .. واليوم أسمع أنه في حالة مرضية خطيرة . لا أتمنى أن يمن أحد عليه بمال للمعالجة فهو في نظري أكبر من أن يأخذ . أتمنى له الشفاء فقط ... الشفاء ـ بعناد !!!! ومع سبق الإصرار .
 يانجمة زاهرة من سماء كربلاء الصفاء تطل على الدجلتين بأضوائها الحبيبة ، سلمت يداك على القصائد الخرائد ، وتأرّجَ جسمك ـ حيا أو مغادرا ـ بالمجد والخلود . أيها الحبيب سلمت لنا وكل شعراء العراق النجيبين الذين دافعوا عن جمال وشرف الكلمة .

*******
10/7/2011