المحرر موضوع: " ياليتني موظفٌ فاسدٌ يا طاهر بن جلون !...  (زيارة 861 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل خلدون جاويد

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 288
    • مشاهدة الملف الشخصي
" ياليتني موظفٌ  فاسدٌ يا طاهر بن جلون !...

خلدون جاويد
 
 بعد أن قرأنا أنا وصديقي " س " رواية  ـ الرجل المحطم ـ  للأديب طاهر بن جلون ، وكيف يتعرض  بطله النزيه  والعفيف  الى مواجهات ضاغطة ، قال لي صديقي : " تريد الصدق ؟ لو أكون بمكان ذلك الرجل المدعو مُراد  ـ بطل الرواية ـ  لسارعت وأنقذت نفسي بالوافقة على الأخذ " هدية رشوة كومشن صفقة حلاوة يد ، قهوة كما يسمونها في شمال أفريقيا " . ظروفنا صعبة وليس في كل الظروف يصلح أن تكون شريفا ً !
 إن إسلوب طاهر بن جلون يذكرنا بعظمة تمثيل الفنانة زينب في مسرحية " آني امك ياشاكر " وحيث  تؤدي فيها الممثلة دورها بإتقان حتى يكاد الجمهور أن يستشيط غيظا ليعتدي على الممثلة كما لو تكون هي جزءا من واقع . هنا يحدث ذات الشيء ! .  ينقلك هذا الأديب المتمكن بإسلوبه وسرديته المتدفقة الى أن تقرأ الرواية دفعة واحدة وأن تتماهى مع البطل وتتصور لو أنك تخضع ذاتك لذات الظروف الإقتصادية البائسة وتمتحن نفسك بالسؤآل : ماذا أفعل لو كنت بطلا لهذه الرواية ؟ هل ستقاوم إغراء ملايين الدنانير وآلاف الدولارات في كل معاملة وظيفية لاتحتاج منك سوى توقيع صغير  ، وعندما تمضي الى بيتك تنقذ اُمك التي ترتعش من المرض في بيت رطب وابنتك التي تعاني من الربو  وزوجتك التي تقاسي الحرمان والفقر مثلك أنت الآخر ، وبهدلتك وأنت محشور في الباص و خوفك من قائمة الديون التي يأخذ البقال عليها فائدة اذ يرفع سعر البضاعة لأنها بالدين وهو الصائم المصلي التقي النقي الورع الذي لايكاد يغتسل من شدة التصاقه بعالم التجارة . عالم مقرف ضاغط قاتل سام وبائي دوني لا إنساني . والجميع حولك فاسد ! تصور الفرّاش الذي يجلس عند بابك ليجلب لك الشاي والجريدة وترسله مع رزم الأوراق في أروقة الوزارة هو مليونير لأنه يساوم المراجعين على إنجاز معاملاتهم بسرعة فيقدمها إليك للتوقيع قبل سواها ويأخذ هو ما يأخذ ، بينما أنت تمارس حياتك الطبيعية من دون أن تدري . أنت تتضور وهو يأكل أنت تعاني وهو سعيد أنت تحار بدواء اُمك وهو يستطيع شراء مذاخر ! أنت وأنت وأنت مجرد نصف إنسان على حافة الحاوية والهاوية . وفوق ذلك أن مدير المدير هو من يرسل عليك لحوارات وحوارات تحاول إسقاطك ! وبالتالي إسقاطك عن ماذا؟ عن النزاهة والجوع ! عن العفة والمرض حد احتمال الموت ! عن الطيبة والحرمان ... لا وألف لا ... الأفضل لك أن تضع توقيعا على معاملة فيها رشوة لأن فيها نقصا هو ألف مرة  من أن تظل ذلك "الحقير الشريف" الراكض أبد الآبدين مثل الملايين وراء الباص السرديني المحشور حد انفجار البشر وتقاذفهم من النوافذ والأبواب : كذا هو إسلوب الأديب الكبير طاهر بن جلون يأخذك من نفسك ويرمي بك في الأزمة وتتصور أنك بطله المتحرك داخل النص وتتمنى أن تنقذ البطل العفيف من الفاقة بأن يوافق على الفساد في ظروف خانقة مثل هذه ! إنه حقا الإسلوب الأدبي الفنان المتمكن مرة . وإنها الحياة القاسية مرة اخرى ، وإنه الحل الذي لابد منه لو توفرت فرصة للتعامل مع الظروف بما هو قهري وعملي ! إنك حتما ستقول : " ياليتني كنت موظفا فاسدا " ! .
 سيتعرض البطل بعد الموافقة الى الحمى الى  البهاق الى الكوابيس . هذا لايهم المهم أنه أنقذ روحه وأرواح أفراد عائلته ! لكن اُنظر كيف هي الحياة بعد أن يكون فاسدا مثل بقية الفاسدين . إنه بلا شك إنسان مقتول في ظروف إرغامية مثل تلك التي تنزل بإمرأة طاهرة الى سوق البغاء وبطلا مناضلا يُجبر على توقيع الإنتماء الى السلطة الفاشية . 
 السلطات الإجبارية والإرغامية هي سمة سائدة في مجتمعات التخلف . ونحن ، مساكين الزمان المسحوقين المعذبين في الأرض ، بحاجة ماسة الى تهديم جدار السلطة  بثورة شاملة تهز أركان العفن من أساساته لا بتنحية أفراده ورموزه فحسب ، وكذلك هي الهزات العاصفة التي تمر بالشعوب . لابد من المضي بها الى النهاية إكراما للقلب الإنساني الطاهر وروح النزاهة الإجتماعية . رواية الرجل المحطم رواية جديرة بأن تـُقرأ وأن يتمرّى بها المرء ليرى ذاته أهو وفيٌ وأصيل وصامد أم هو إنتهازي وحرامي مع وقف التنفيذ  ! وغير شريف لو توفرت  الفرصة ! . وهل يصح القول هنا " من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر " ؟ ! . 
 
*******
12/8/2011
 
توْقٌ قبل الأخير :
ـ  حدثني  أحد الأفاضل  : طلب مني مديري وموظف آخر معه  في عام 1948 أيام التموين وتوزيع السكّر على الناس بأن نضع قطعة قير نثقـّل به الميزان من تحت وهذا ما يجعلنا مليونيرية ! وأن نحذر من التفتيش ! لكني رفضت  لا خوفا ولكن ترفعا ... بعد حين جاء أمر نقلي من ذات الدائرة الوظيفية . أردف قائلا هذه الحياة. إما أن تنزل لتصعد الى إحترام الذات أو تصعد لتنزل الى الدناءة . 
ـ حدثني آخر : كانت هناك مساعدة طبيب أسنان ،  جميلة جدا حاول معها الطبيب بل كل الأطباء في مستشفى ما ، لكنها كانت وفية لزوجها ... كانت ترفض وترفض فنقولوها الى مستشفى التدرن لتعالج أسنان المصابين بالسل ! ...
ـ انظر ما حل ببطل رواية الرجل المحطم ! .   
ـ توق أخير : " حكّوا قشرة الحياة تنبعث الجيفة ! " شاعر بلغاري .