المحرر موضوع: ما أشبهَ اليوم بالبارحة ! ( القسم الأول  (زيارة 2241 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كوركيس مردو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 563
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
 ما أشبهَ اليوم بالبارحة !            (  القسم الأول )

شعبٌ  ذو اصول واحدة  يتحوَّل الى  شعبَين  مُختلفين للمرتين  في التاريخ ،  ليس ما يجمعُ  بينهما إلاّ  الدينُ واللغة  مع اختلافٍ  في المذهب  واللهجة ،  تؤكِّدُ المصادرُ التاريخية التي سنعتمِدُها  لتنوير أذهان  بعضِ دُعاة  الآشورية  المعاصرين المُحلِّقة في أجواء السراب الخيالي ،  لتوضيح حقيقة انتسابهم القومي قديماً وحديثاً  رغم عِلمنا المُسبَق ، بأن  الأحزاب  الآشورية  المُنتحَلة  المُعاصرة  قد أشاعت الفِكرَ التعَصُّبي الشوفيني والتطرُّف القاتل والزائف في مفاهيم شعبهم  المخدوع بهم  ، يحولُ دون إقرارهم  بالحقيقة التاريخية ،  ففي الفصل الخامس ص. 120 من كتاب الدكتور عامر سليمان
( العراق في التاريخ ) يقول : <  إن الذين  تبنوا  التسمية الآشورية ما كانوا سوى مجموعات مِن العموريين  هاجرت من  بلاد بابل مُتوجِّهة  صَوبَ شمال بلاد وادي الرافدين ،  تَمَكَّنت بعد فترة  طويلة  مِن  إقامة  دولةٍ  قوية  خضعَ  لنفوذِها  العديدُ  مِِن دُويلات  الشرق الأوسط  بدءأً  من مُنتصف القرن التاسع  قبل الميلاد ، وكانت قد  تيمَّنت منذ تأسيسها من قبل الملك  ( شمشي أدد الأول 1813 - 1781 ق . م )  باسم الاله  الجبلي الأجنبي  ( آشور )  إله الغُزاة  الشوباريين  بُناةِ مدينة آشور  التي  أصبحت عاصمة  لدولتهم  التي  أطلقوا عليها ( الدولة الآشورية )  بناءً  الى هذا التيَمُّن .  وقال الداعية  والمؤرخ  الآثوري الروسي الأصل قسطنطين ماتييف في كتابه ( الآثوريون والمسألة الآثورية  ص . 15 ) <  أسَّسَ الخارجون  مِن  بابل  موطناً  لهم  في شمال  بلاد ما بين النهرين ،  وكانت مدينة آشور أكبر مُدُنهم ،  ويُضيفُ : أصبحت آشور  في أوائل  القرن الثامن عشر قبل الميلاد  مركزاً  لدولة  عُظمى  ويُردِفُ القول :  إن الآشوريين  ينتسبون الى  الشعوب السامية  ويعودون  بجذورهم  الى البابليين >  أليست  هذه المصار تؤَكِّد  بشكل  قاطع   بأن الآشورية  ليست  قومية  كما  يدَعي  وبإصرار أدعياءُ الآشورية  اليوم ، بل تسمية  موطنية  سياسية  لدولةٍ  غابرة  !  وإن  مُتبَنّي تلك التسمية  هم من صُلب  العموريين  أحفاد  البابليين الكلدان ، أطلقوها عليهم  كما أسلفنا  لسببَين :  تَيمُّناً  باسم الاله آشور أولاً ومُجاراةً  للواقع الاقليمي المطبوع  بالتسمية  الآشورية  طوال السيطرة الشوبارية التي دامت أكثر من أربعة  قرون  سابقة  ثانياً !  ولا  يُمكن أن  يُشكِّلَ هذا مِن  الآشورية  قومية  للعموريين  مؤسسي الدولة الآشورية  المُنحدرين عِرقياً  عن  البابليين  الكلدان  القُدامى  مؤسسي  سُلالتي  كيش  واريدو !  كما  لا يُمكن التقليل  من التأثير الذي  بصمته  على الاقليم الشمالي  بقايا  الأقوام  الهندواوربية  القديمة  السومرية والشوبارية  والأقوام الغازية  كالحِثيين  والحوريين  والكوتيين  التي اندمجت  بعد استقرارها  في الاقليم بالعموريين القادمين من وسط وجنوب الرافدين  ،  مُساهمته في تكوين الهوية الجديدة للاقليم  وإبعاد العموريين عن اصولهم الوسط جنوبية ذات الانتماء الى الكلدانيين الأوائل ،  وعليه  فالتسمية الآشورية تخلو مِن أي مدلول قومي أو عِرقي  وإنما  تُشيرُ الى مدلول  ديني ،  ولذا فعندما  سقطت  الدولة الآشورية  وانقرض  شعبُها  كياناً  ووجوداً  ،  تَحطمَ  صنمُ  إلهها  آشور  وتواري  اسمُه  حيث  لم  يَعُد  مَن  يعبُدُه أو يتسمّى  به لكونه  غريباً  غيرَ رافدي !

بعد تأسيس الدولة الآشورية تّنَكَّرَ مؤسسوها العموريون لاصولهم البابلية  ذات الجذور الكلدانية ، مُستبدلين إياها  باخري مُزيَّفة  سَمُّوها  آشورية  جاعلين مِن نفسهم قوماً خاصاً  لا يمًتُّ بأية  صِلةٍ بسكَان بابل  والجنوب ، ولم يقفوا عند هذا الحد ،  بل ركَّزوا على  إدخال البابليين  الكلدان  في أجندتهم كألَدِّ  أعداءِ  لهم ،  وعندما قويت شكيمتُهم وعَظُمَ شأنُهم ، بدأوا يستهدفونَهم بحملاتهم العسكرية الظالمة  ،  ولكي نُسلِّط الضوءَ على فداحة الاعتدآت الآشورية  على الشعب الكلداني  كما وردت تفاصيلُها في حوليات الملوك الآشوريين أنفسهم ،  نُقدم نبذةً  يسيرة عن الكلدان ،وغيظاً مِن فيض اعتدآتٍ الآشوريين عليهم .

إعتمد الكلدانُ قبل العهد الامبراطوري نظامَ الممالك ،  حيث تُشيرُ المصادر التاريخية الى قيام  ممالكَ عديدة قوية منذ الجيل الحادي عشر قبل الميلاد ،  ولم يتوَحَّدوا في الزمن الغابر تحت راية دولة عُظمى  ليخلقوا لهم كياناً سياسياً كبيراً إلاّ في الربعِ الأخير من القرن السابع قبل الميلاد ، وكانت ممالكُهم تشغَلُ مساحات شاسعة  مِن وسطِ وجنوبِ بلاد ما بين النهرين ( العراق الحالي ) بالإضافة الى جنوب غربي ايران وكافة سواحل الخليج وجُزُره ،  وكانت جزيرة الدَيلمون أكبر تلك الجُزُر وتُسمّى اليوم ( البحرين ) ، وجزيرة ( فيلكا ) التابعة  لدولة الكويت حالياً ، واسم هذه الجزيرة  مُشتَقٌ من لفظة كلدانية ( بَلكا أو بَلكَوثا ) وتفسيرُها بالعربية ( المُنتصف ) وسُمِّيَت بهذا الاسم لموقِعِها الوسطي بين البر والبحر الكلدانيين ،  وكان يُطلَقُ على بلاد الكلدان في الزمن السابق للقرن الحادي عشر قبل الميلاد ( بلاد البحر ) نَظراً  لكثرة أهوارها  وبُحَيراتِها ، وجاء  ذِكرُ هذه التسمية  في  حَوليات  الملك  الآشوري ( تُوكَلتي نينورتا الأول 1245 - 1208 ق . م )  وكذلك  على عهدِ  الملك ( تَكلَتبيلاصَّر الأول 1115 - 1076 ق . م ) ، بينما وردت تسميتُها في حوليات الملك الآشوري ( آشورناصربال الثاني 882 - 860 ق . م ) ( بلاد الكلدان ) و ( بحر الكلدان ) وهي تَرِدُ في الوثائق الآشورية لأول مرة ، حيث يتحدَّث الملك شلمَنَصَّر الثالث أيضاً في حولياته عن شعبٍ اسمه الكلدان ، وأشار أنه ساعدَ  حلفاءَه البابليين  بإرساله إليهم قواتٍ عسكرية لدعمهم  ضِدَّ  تهديدات الكلدان والآراميين للدولة البابلية ، وأنه قد أغار على بلاد ( كلديا ) .

إن أهمَّ الممالك الكلدانية القوية التي قامت في جنوب ما بين النهرين في مطلع القرن الحادي عشر قبل الميلاد  كانت التالية :

1- مملكة  بيث - ياقين : Beth -Yakin كانت عاصمتُها  دور - ياقين : Dur - Yakin ( تَل اللحم حالياً / بين الناصرية والبصرة ) وتشمُل رُقعتُها الحَوضَ الأسفلَ مِن الفرات وشواطيءِ الخليج وجُزُره  حتى الخليج العُماني ،  أشهر ملوكِها كان الملك (  مردوخ بلادان 733  - 710 ق . م ) ، احتلَّ سنة 733 ق . م مدينة  بابل الواقعة  تحت الهيمنة  الآشورية ، ونودِيَ  به ملكاً على الدولة البابلية ، تَمَيَّزَ  بالقوة  والعزيمة  فقام  بتوحيد  كافة الممالك  والقبائل الكلدانية  في مملكة  مُتحدة  واحدة ،  مؤكِّداً  استقلالَ  بابل السياسي  وحَقَّها  الشرعي  في  حُكم البلاد  البابلية ، ولكن  الملك الآشوري ( سركَون الثاني 722 - 705 )  انتصر عليه عام721 ق . م  واستعاد بابل منه ،  كانت مملكة بيث - ياقين أكبر وأقوى الممالك الكلدانية ، ومِن بين أبنائها ظهر أغلبُ ملوك الكلدان في العهد البابلي الحديث ( عهد الامبراطورية الكلدانية  626 - 539 ق . م ) .

2 - مملكة  بيث - دَكّوري : Beth- Dakkuri  كان موقعُها في حَوض الفرات  الى الجنوب مِن مملكة بابل ، تمتدُّ مساحتُها مِن مدينة  بورسيبا ( برس نمرود حالياً / جنوب الحلة ) من الشمال وحتى حدود  مدينة اوروك ( الوركاء ) من الجنوب . تَعَرَّضت لحَملةٍ عسكرية من قبل الملك الآشوري أسَرحَدون ، تَمَّ فيها سَلبُها وأسرُ ملكِها شمش-ابني .
 
3 - مملكة كَمبولو : Gumbulo وعاصمتها  ( دور- ابيهار Dur-Abihar  وبدورها كانت ضحية الحملة العسكرية الأسَرحدونية  التي شَنَّها أسَرحدون عليها وعلى مملكة بيث- دَكّوري .

4 - مملكة  بيث - شيلاني : Beth-Shilani  عاصمتُها ( سَر أنابا Sar-Anaba ) في سنة 732 ق . م قاد الملكُ الآشوري ( تَكلّتبيلاصَّر الثالث 745 - 727 ق . م ) حملةً عسكرية على عاصمتِها  سَر أنابا ، قُتِلَ خلالها  ملكُها وسُبيَ  خمسةٌ وخمسون ألفاً من أبنائها الكلدان ورُحلوا الى البلاد الآشورية .

5 - مملكة  بيث - أموكاني : Beth-Amukani عاصمتُها ( شيبيا Shipia ) الواقعة في حَوض دجلة الأسفل ، كانت  تحتضِنُ  بالإضافة  الى قبائل أموكاني  قبائل الفوقودو ( بْقيذي ) كان الملك ( نابو موكِن زيري ) مؤسِّسُ سُلالة بابل العاشرة أحدَ أبنائها ،  تسنَّمَ عرش بابل عام 731 ق . م .

6 - مملكة بيث - شعالي : Beth-Shaali  عاصمتُها ( دور- ايلاتا Dur-Elata ) وقد شملَتها حملة  تَكلَتبيلاصَّر الثالث العسكرية التي قادها عام 732 ق . م ضِدَّها وضِدَّ مملكة بيث - شيلاني حيث أسِرَ من سُكّانِها خمسين ألفاً وأربعمِئَة فردٍ ورَحَّلهم الى المناطق الآشورية .

وقد أشارت المصادر التاريخية ومنها ( مجلة لغة العرب / للأب أنستاس الكرملي / المُجلَّد الأول ) بأن الكلدان عموماً ، كانت ممالكُهم تَزهرُ بوضعٍ اقتصادي مُزدَهِر ، لا يعرف الفقرُ إليها سبيلاً ، يجنون أرباحاً هائلة مِمّا تَدُرُّه عليهم أراضيهم الوافرةُ الخِصب بفضل المياه التي يَرفُدُها النهران الخالدان دجلة والفُرات ، فكانت غِلالُ مزروعاتهم وأشجارهم غَزيرةً ومناطقُ الكلأ واسعةً ، أتاحت لهم تربية أعدادٍ كبيرة جداً من قطعان الماشية والأبقار والبِغال والحَمير والخيل ، ولم تَكُن تجارتُهم أقلَّ ازدهاراً مِن زراعتِهم ،  فكان أبناؤهم يركبون البحر بمهارةٍ لا يُجاريهم بها مُنافسٌ ، وتًشيرُ بعضُ اللوحات الآثارية المُكتشفة الى تجارةٍ رائجة كانت  تجري مع الأقطار الشرقية بصورةٍ متواصلة ،  تتبادلُ بها البضائعُ عن طريق مُقايضة مُنتجاتها الزراعية والحيوانية بالمعادن المتوفرة لدى تلك البلدان . لقد حافظت هذه الممالكُ القبلية  على استقلالها وديمومتِها زمناً قاربَ الخمسمائة عاماً .
                                                                                                                                                                                                                                                          كانت شعوب بلاد ما بين النهرين  تنظرُ الى بابل بأنها المدينة ذات القدسية الأكبر بين كُلِّ المُدن الاخرى ، بالإضافة الى تَمَتعها بمركز حضاري كبير ، فأضحت بذلك مطمحاً  لتنافس القوى الكبرى في السيطرة عليها وجَعلِها عاصمة لها ،  وبقدر ما كان الآشوريون  يسعون للفوز بها ،  كانت الممالكُ الكلدانية  أشدَّ  طموحاً  بها ، مدفوعةً  بالتواجد الكلداني الأكثف في مُجتمع الدولة البابلية  منذ مطلع القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، وبالرغم مِن شِحَّةِ  المعلومات عن المُحاولات الاولى للممالك الكلدانية في الاستحواذ على بابل ،  بيد أنَّ المصادر التاريخية تؤَكِّدُ سقوط بابل بأيدي الكِشِّيين عام 1595 ق . م على عهد الملك البابلي سمو ديتانا آخر خُلفاء حمورابي ، واستمرَّ حُكم الكِشيين فترةً  تَقربُ  مِن خمسة  قرون .

في عام 1157 ق .م تَوَلَّت الحُكمَ في بابل السُلالة البابلية الرابعة بقيادة الملك ( مردوخ كابت أخيشو ) ومِن أشهر ملوك هذه السُلالة كان ملكُها الرابع ( نبوخَذنَصَّر الأول 1125 - 1104 ق . م ) الذي على عهدِه تَمَّ طردُ العيلاميين من اقليم نامار الكلداني الحدودي ، ثُمَّ تعاقبت على الحُكم أربع سُلالات اخرى ،  وكان مؤَسِّس السُلالة الثامنة الملك ( نابو موكين ابلي عام 978 ق . م )  مِن مملكة  ( بيث - دكوري ) ومِن بين ملوك هذه  السُلالة( أريبا مردوخ 770 - 760 ق . م ) خَلِفَه الملك ( نابو شمو اشكن 760 - 747 ق . م ) وفي نهاية  شهر  شباط  مِن  نفس العام 747 ق . م تَسَنَّمَ عرش  بابل الملك ( نبوناصَّر Nabonassar 747 - 734 ق . م )  مؤسِّسُ السلالة البابلية التاسعة ، كان ملكاً  ذا اعتزاز شخصيٍّ كبير ومَيلٍ الى إعلاءِ  شأن الحضارة  والعِلم ،  ولشدة وَلَعه  بهذا الشأن صَنَّفه المؤرخون كأحد علماء حضارة العهد القديم ،  في عهدِه انتقلت بابلُ الى عصر مُزدهر شَهِدَ تطوراً كبيراً في عِلم الفلك ،  وكان اهتمامُ هذا الملك الشديد بتدوين كافة الظواهر والأحداث وتوثيقِها بشكل دقيق مدعاةً لشُهرته ،  فقد أمر بتدوين كُلِّ ما يَطرأ في  المجال الكوني مِن ظواهر فلكية وطبيعية ، مِثل رَصدِ حركة الكواكب والنجوم وظاهرتي الكسوف والخسوف وتسجيل قياسات مناسيب الأنهار وتَبَدُّل أحوال الطقس ، ويقول  جان اوتس في كتابه ( بابل Babylon ) ص. 113 بأن المصادر التاريخية اليونانية القديمة قد أشارت : <  لقد قامَ  الكلدانُ  منذ عهد الملك نبوناصَّر 747 ق . م  برصدِ  كافة حركات  الكواكب  والنجوم المعروفة  حينذاك  وتدوينها  بدِقةٍ  متناهية ،  وقد استندَ فيما بعد الفلكيون  والرياضيون اليونانيون الى عِلم الفلك الكلداني  واعتمدوه مَصدراً  لبناء معلوماتهم بهذا المجال >  .

أما ( ادورد كييرا ) العالِم  الآثاري الكبير  فيقول  في  كتابه ( كتبوا على الطين ص . 172 ) : <  لقد  بلغَ  الكلدانُ  مرتبةً  مُتقَدِّمة  في علوم الجبر و الهندسة و الفلك ،  فإن  العالِمَين  الفلَكِيَين
 ( نابو ريماني Nabo-rimani ) الذي كان يعيش في بابل عام 500 ق . م  و ( كِدانو Kidanno ) قد طوَّرا عِلمَ الفلك ووصلا به الى درجةٍ  مُتقَدمة تَمنحُهما استحقاقاً لدَرج اسميهما  بموازاة  العلماء  غاليلو و كبلر و كوبرنيكوس ، إذ  في  سنة 367 ق . م  تَوَصَّلَ العالِمُ  < كِدانو > الى تقدير  مدة السنة الشمسية  بدقةٍ  متناهية  لم  يتعدّى الفارق  بينها  وبين  ما  هو معروف اليوم إلاّ  بزيادةٍ  قدرُها أربعُ  دقائق ونصفُ الدقيقة .  ويقول المؤرخ (  جورج رو George Roux ) < لقد تَوَصَّلَ الكلدان ومنذ القرن الثامن عشر ق . م الى استنتاج الجذرَين العَدَدِيَين التربيعي والتكعيبي  وبتطابق كبير لِما هو معروف عنهما اليوم > . ويُقال أن العالِمَ  فيثاغورس ابتكر نظريته اعتماداً على نظريةٍ مُشابهة سَبَقَه الى اكتشافها العلماءُ الكلدان قبل عشرة قرون مِن الزمان ، وكذلك وضعَ الكلدان نظامَ قياس للدائرة تحديداً ب ( 360 درجة ) وللاُفق ( 180 درجة ) .

وقبل أكثر من ثلاثين قرناً ابتكرَ الكلدانُ النظامَ الزمني الستيني المُتَبَنّى مِن قبل العالَم أجمع حالياً ، وهو احتساب الزمن بتقسيم ( الساعة الى ستين دقيقة والدقيقة الى ستين ثانية ) بالإضافة الى ابتكارهم للوحدة الزمنية  < اليوم - الشهر - السنة >  والشهرَين الشمسي والقمري Lunar & Solar Calender وذلك بِمُراقبتهم لواحدةٍ من دورات القمر ( شهراً تِلوَ شهر )  وتَداعياتِها نِسبةً  الى الزمن ،  حيث اتَّضحَ  لهم  بأن  كُلَّ اثنَتَي عشر  دورةٍ  قمرية  أي  بدءاً  بظهور القمر  واختفائه ،  يَتِمُّ  خلالها  تَكرارُ  وتَجَدُّدُ  فصول السنة ،  وقرَّروا  اعتماد  الأولَ  من  شهر  نيسان    ( نيشان Nishan بدايةً  لكُلِّ سنة جديدة ، واعتبروه عيداً قومياً تتخللُه احتفالات كبيرة مُطلقينَ عليه اسم ( أكيتو أو أخيتو = حَيُّوثا ) وتعني  الحياة  ،  حيث كان الاعتقادُ  سائداً  لديهِم  بأن الحياة والطبيعة تتجددتان في ذلك اليوم ،  ناهيكَ عن اكتشافهم المُدهش بأن الأرضَ والشمسَ والقمرَ  وخمسةَ  كواكب اخري تُشَكِّلُ مجموعة تَرتبِط  ببعضها البعض ، وهي نظرية  ثابتة  لم يَتسَنَّ  للعالَم إدراكَها إلاّ بعد مرور عشرين قرناً من زمن اكتشافها مِن قبل الكلدان ، ومِن ضمن اكتشافاتِهم الفلكية الاخرى ، ابتكارُهم التقويم الشمسي القمري على أساس أن كُلَّ ( 235 ) شهراً قمرياً  تُعادلُ ( 19 ) عاماً شمسياً ،  وللتوفيق بين السنتين الشمسية والقمرية ، نَظموا تقويماً يستندُ الى احتساب ( 13 ) شهراً لكّلِّ سنةٍ مِن السنين السبع مِن كُل ( 19 ) سنة  ،  وقد اقتبسَ يهود السبي البابلي هذا التقويم الذي وضعه الكلدان  ولا زالوا يستعملونه لغاية اليوم .

وعن تَفوُّق الكلدان في مجال عِلم الفلك ، يقول الباحثُ الآثاري ( لانكَدون Langdon ) <  إن أول مَن أوجدَ  نظرية الأبراج  واستطاع  تحديد َ مسار الشمس واحتسابَ  منازلها بدقةٍ  مُذهلة  كان العلماءُ الكلدان منذ سنة 700 ق . م ، كما نَظَّموا جداول زمنية لظاهرتَي الكسوف والخسوف لمِئات السنين اللاحقة > .  أما المؤرخ الفيلسوف ( بِليني Piline ) فيقول عن أنواع الفن الكلداني ما يلي : <  إن مهارة الكلدان في ميادين الرسم والفن والعِلم ، جعلتهم  يستحقون لنيل شرفِ  الامتياز  والتفوق على معاصريهم الآخرين ،  فشُهرة النسيج البابلي أخذت  موقعاً مرموقاً  لدى الفُرس واليونان والرومان .

أما مَهارة الكلدان وتفوُّقِهم  في عِلم المياه ( العِلم الهيدرولوجي ) فقد بَرهنَت عليه  الجنائن المُعلَّقة  في بابل التي عُدَّت إحدى عجائب  الدنيا السبع في العهد القديم ،  تلك التي أوقعت العلماءَ حتى يومنا هذا في حيرة  مِن  الطريقة  التي استخدمها  المهندسون الكلدان قبل ألفين وخمسمائة عام لايصال المياه الى ذلك العُلوِّ الشاهق .  وقد عثر المنقبون في منطقة بابل مؤخراً على  بطارية جافة لا تختلف كثيراً عن البطاريات الجافة الحديثة التي تُستَخدم في توليد القوة الكهربائية ،  قالوا بأن تاريخها يعود الى عهد الدولة الكلدانية  .

بعد  حُكم دام ( 13 ) عاماً تُوفيَ الملكُ  نبوناصَّر عام 734 ق . م  وخَلِفَه إبنُه  ( نبو نادِن زيري Nabu-Nadin-Zeri 733 - 732 ق . م ) وتُسَمّيه بعض المصادر التاريخية ( نبوناصَّر زيري ) وأن لفظة  زيري وتعني ( زورا - الصغير ) أضيفت الى اسمه تمييزاً له عن والده ، لم يَدُم حُكمُه أكثر مِن سنة واحدة ،  حيث أطاح به  ( نابو موكن زيري 731 - 729 ق . م ) أحدُ زعماء مملكة بيث - اموكاني ، لم يهنأ هذا بالعرش طويلاً ، إذ  قاد الملكُ الآشوري ( تَكَلتبيلاصَّر الثالث ) عام 729 ق . م  حملةً عسكرية على  بابل ثأراً  لمقتل ابن نبوناصَّر  حليفه السابق ،  واستطاع  إسقاط  الحُكم  الكلداني  وإعلانَ  نفسه ملكاً على الدولة البابلية  في السنة اللاحقة 728 ق . م وفي الأول مِن نيسان أثناء الاحتفال برأس السنة البابلية  ،  وظلَّت بابل تحت السُلطة الآشورية  حتى أفلح مردوخ بلادان الثاني  زعيمُ  مملكة  بيث - ياقين سنة 733  بضمِّ  مملكة  بيث - دكوري  الواقعة  الى الشمال من  مملكته  والمُحاددة  للدولة البابلية  الى مملكته  ،  عندها  بادر الى قيادة  حملةٍ عسكرية كبيرة ،  وهاجم بابل وانتزعَ الحُكمَ  من الآشوريين وعملائهم المُنَصَّبين على حُكم بابل ، ونوديَ به ملكاً على المملكة الكلدانية في بابل باحتفال كبير  باعتباره قائداً مُحَرِّراً لبلاده مِن الهيمنة الآشورية  الغريبة ، وقد استمَرَّ في الحُكم أحدَ عشر عاماً  حتى سنة  710 ق . م ، حيث جَرَّدَ ضِدَّه الملكُ الآشوري ( سَركَون الثاني Sargon II 721 - 705 ق . م )  حملة عسكرية كبيرة جدا ،
 تَمَكَّنَ مِن الانتصار على مردوخ بلادان ، فعاد الى حُكم القطر البحري .
 
ومنذ عا م 729 ولغاية 627 ق . م  ظَلَّت كفّةُ ميزان السيطرة على حُكم بابل ، تتأرجحُ بين الكلدان والآشوريين ، حيث تُحكَمُ  تارةً من قبل الكلدان وتارةً اخرى مِن قبل الآشوريين ،  فقد سقطت بابل تحت الحُكم الآشوري على عهدِ  تَكلت  بيلاسر الثالث سنة 729 ق . م ، استعادها  الملكُ  الكلداني  مردوخ بلادان عام 733 ق . م ، ثُمَّ خضعت للحُكم الآشوري على عهد الملك سركون الثاني عام
710 ق . م ، وفي عام 703 ق . م تَمَكَّنَ  مردوخ بلادان  من استعادة  حُكمِه  على  بابل  ثانيةً ،  ولكن الملك الآشوري  سنحاريب أرغمَه  على الانسحاب منها  في نفس العام  ،  فخضعت  للحُكم الآشوري في عهد سنحاريب لمدة عشر سنوات لفترتَين ،  وفي عهدِ وَلدِه أسرحدون ( 12 ) سنة  ثُمَّ عُيِّنَ أبن أسَرحدون ( شمش-شم-اوكن )  بحَسَب  توصية والده أسرحدون  ملكاً على بابل عام 668 ق . م  وابنه آشور بانيبال ملكاً على آشور ، واستمَرَّ حُكم ( شمش-شم-اوكِن ) عشرين عاماً ، ورغم  كونِه  آشورياً  ولكنه كان  ذا ايمانٍ قوي بأحقِّية استقلال الدولة البابلية ، ولذلك أعلن في سنة 651 ق . م استقلال الدولة البابلية عن حُكم الدولة الآشورية بقيادة أخيه آشور بانيبال ، فثَقُلَ الامرُ على آشور بانيبال كثيراً وفي فورة غَضَبِه أرسل جيشاً عَرَمرَماً  لمحاربة أخيه ، فأطبقَ الجيشُ الآشوري على بابل مُحاصراً إياها مِن كُلَِ الاتجاهات ، فحدثت مجاعة فظيعة بين سُكان بابل ، وبعد حصار قاسي وطويل استطاعَ الجيش الآشوري اقتحامَ بابل ، ولشدة اعتدادِ الملك ( شمش-شم-اوكِن ) بعِزَّة نفسه لم يشأ أن يقع أسيراً بأيدي أخيه ، أقدَمَ على إشعالِ النيران في قصره ، فبادَ فيه هو ونساؤه وأولادُه بالكامل ، وهكذا رَزَحَت  بابل للمرة السابعة تحت السُلطة الآشورية  حتى عام 648 ق . م ، عندما استطاعَ زعيمٌ كلداني  يُدعى ( كَندَلانو Kandalano ) وكان يحتلُّ مَنصبَ  نائبِ -  ملكِ بابل المُعَيَّنِ آشورياً -  ، إزاحة الملكِ  عن الحُكم  سنة 648 ق . م ،  والإمساكَ بزمام امور الدولة  البابلية  .

كانت الحملاتُ العسكرية  التي  قادها  ضِدَّ بابل الملوكُ الآشوريون  ولا سيما سركَون الثاني  سنة 707 ق . م وابنُه سنحاريب سنة 691 ق . م ،  الى جانبِ  سعيي  شمش-شم-اوكِن  لتحرير بابل عن التسلُّط الآشوري ،  ذاتَ  نتائج  سلبية  وخيمة  انعكَسَت على الطموحات الآشورية  في احتواء بابل لصالحها ،  فقد ألحقت هذه الأعمال أضراراً جسيمة  في أسًس ودعائم الدولة البابلية ، وأدّى ذلك  الى ولادة  شعور مرير مشوبٍ  بالسُخط  والتَذَمُّر لدى الشعب البابلي الكلداني ضِدَّ  الدولة الآشورية ، بسببِ  سلوك ملوك السُلالة السركونية  وبالتحديد - سركون - سنحاريب - آشور بانيبال - غير الوُدِّي في  حل المشاكل التي كانت تحدثُ بينهم وبين البابليين الكلدان ،  وهذا كان سبباً في عدم استقرار السيطرة الآشورية  في بابل إلاّ لفتراتٍ مُتقطعة المُدَد تباينت  بين قصيرةٍ  وطويلةٍ نسبياً
ومَرَدُّ ذلك يعود  الى فقدان الادارة الآشورية القدرةَ  على ايجاد أرضية شعبية قوية  داخل المجتمع البابلي الكلداني للدفاع عن وجودهم ، لذلك تسنّى للزعيم الكلداني ( كَندَلانو ) القيامَ عام 648 ق.م
بحركةٍ عسكرية ناجحة  ضِدَّ الحامية العسكرية الآشورية المنوطة بها  حماية  الملك المُنَصًّب  آشورياً  لحُكم بابل ، وفرضِ  سيطرتِه التامة على البلاد ، ولكن اضطرابَ الامور  في أواخر  حُكمِه ، شَجَّعَ الملك الآشوري آشور بانيبال للقيام باستعادةِ  بابل وتنصيب ابنه ( سِن شار اشكون ) حاكماً عليها ، بيدَ أن كَندَلانو بقيَ مُسيطراً على الجزء الجنوبي من اقليم بابل الذي بقيَ غيرَ خاضع لسُلطة حاكم بابل الآشوري  .
في سنة 627 ق . م  ماتَ الملك آشور بانيبال ، وتَوَلَّى الحُكمَ بعده إبنُه ( أشور أتيلو ايلاني ) الذي كان واهيَ العزيمة  ، حيث  ضَعُفت  وتَدَهوَرَت امور الدولة الآشورية  في عهدِه ،  وبدأ التمَرُّدُ  يتفاعلُ في الاقاليم الخاضعة  لادارتِها ،  أدّى الى انفصال الكثير مِنها ،  وبذلك  تقلَّصت  مساحةُ الدولة الى حَدِّها  الأدنى ،  في هذه الأثناء  ومِن مدينة الوركاء ، تَوَلّى الأميرُ الكلداني قيادة  حملةٍ  عسكرية ضِدَّ الدولة الآشورية المُنهارة ، وزحف صوبَ بابل  حيث دخلها مُنتصراً في شهر تشرين الثاني لعام 626 ق . م  ، وأعلن  نفسه  ملكاً على الدولة الكلدانية ، وكان ذلك ايذاناً بِبَدءِ عصر الامبراطورية الكلدانية . أما  الملك الآشوري ( سِن شار اشكون ) الذي عَيَّنه والدُه  آشور بانيبال ملكاً على بابل فقد لاقى حتفه محروقاً في قصره  .

سيليه القسم الثاني قريباً .

الشماس كور كيس مردو
في 23 / 8 / 2006