المحرر موضوع: ما أشبه اليوم بالبارحة ! القسم الثالث  (زيارة 2218 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

Gorgees Mardo

  • زائر
ما أشبه اليوم بالبارحة !          القسم الثالث


إن كُلَّ المصادر التاريخية السالفة الذكر في القسم الثاني ، أشارت  الى الكلدان كَونَهم المِحور الأساس الذي ارتكزَت عليه دعائمُ كنيسة المشرق منذ  نشأتها  في القرن الميلادي الأول ،  ولم يَكُن هنالك  ذِكرٌ لأيِّ  قوم مِن الأقوام  الوطنية الأصيلة التي ظهرت على أرض بلاد ما بين النهرين  كالآشوريين والسومريين والأكديين ، ويُعزى ذلك الى عدم وجود أثر لهم بسبب انقراضهم وانصهار بقاياهم المحدودة  العدد  بمجتمعات الشعوب التي انتصرت  عليهم ،  وكان مصيرُهم كمصير الأقوام  التي  بادت  واندثرت ،  كالحِثيين  والكِشيين  والميتانيين  وغيرهم .  لم  يشأ  الكلدانُ مؤسسو كنيسة المشرق أن تكون الكنيسةُ حكراً عليهم ،  إذ  فتحوا باب الانتماء  إليها على مِصراعيه  فانتمى إليها  الفُرسُ  والعربُ  والهنودُ  والمغولُ وغيرُهم كثيرون .  وبعد انفصام علاقتِها بالكنيسة الكاثوليكية الجامعة لُقِّبَت  بالكنيسة النسطورية  لقبولها  مذهب نسطور .  ولكنها  في حقيقة  الأمر لم  تختلف في العقيدة  الايمانية  عن كنيسة الغرب الكاثوليكية الجامعة  وإن  عَبَّرَت  مِراراً عن فهمِها لشخصية المسيح له المجد  وفقَ المُصطلَح النسطوري ، ولم يأتِ ذلك بسبب اختلافٍ عقائدي مع  كنيسة الغرب  ، وإنما انعكاساً لرَدِّ فعلها  تُجاه البِدعة المونوفيزية المنادية بالطبيعة الواحدة  للمسيح الرب ،  وبالرغم مِن أن مجمع ساليق الرابع المُنعقد عام 424 م إتخذَ قراراً مبدئياً  بتجميد الاعتراف من قبل كنيسة المشرق  باسقف روما  رئيساً أعلى للكنيسة الجامعة ، لكن ذلك القرار لم يُنَفَّذ فعلياً لكونه  وليدَ  مخاضٍ صعبٍ كانت الكنيسة تخوضُه ، بسبب تَرَدِّي أوضاعها الداخلية  مِن جرّاء التناحر والصراع القائم  بين أساقفتِها  آنذاك ،  وبقيت  نظرتُها  رغم ابتعادِها  الطويل عن كنيسة الغرب  لا  يشوبُها  شكٌ  بأن اسقف روما هو خليفة بطرس الصخرة وله الأولوية بين إخوته الآساقفة .

المحظور قد وقع والانفصال قد تَمَّ بين أكبر كنيستين هما كنيستي الشرق والغرب اللتين كانتا  تُمَثِّل كُلٌّ مِنهما جغرافياً نصفَ العالَم المعروف وقتذاك ، ولعَلَّ هذا الانفصام الذي لم يكن يَتمَنَّى حدوثه  الشعبُ المسيحي  بأسره ،  قد أولدَ  ثورةً  انفجارية  تنافسية  في قُدرات الكنيستين الروحية ،  بَرهنت  على العبقرية  الفذَّة  لكُلٍّ منهما ،  وقد أثبَتت  الكنيسةُ  النسطورية  حيويةً  ونشاطاً  ملحوظاً  وبارزاً ، ضاهت به  كنيسة الغرب الرومانية  مِن حيث عدد  أتباعِها  واتِّساع  مناطقها  الجغرافية  بفضل  أبنائها  العامرة  قلوبُهم  بالارادة  المُوحَّدة  والهِمَّة  المُتفرِّدة  والمقدِرة  العِلمية  الغزيرة  بشتى أنواع المعرفة  ، أطلعنا عليها المؤرخون  الذين  سردنا أعلاه  ما قد  دَوَّنوه  في كُتُبِهم .

بعد أداءٍ  رائع  لأبناء الكنيسة النسطورية  وإبداع  ليس له مثيل  وتَمَتُّعِهم بمجدٍ أثيل  طوال أكثر مِن أربعة  قرون ،  وتحديداً منذ  أواخر القرن الثامن وحتى نهاية القرن الثالث عشر ، الذي كان بداية  لانطفاء  أضواء مجدهم الذهبي ، حيث يقول الأب لابور في كتابه (  البطريرك طيماثيئوس الكبير )  بدأت  دورة  الزَمن الرديء  تدور  بسرعةٍ  وعنفٍ حول الكنيسة النسطورية  بعد الاحتلال المغولي الهمجي ،  فآلَ وَضعُها الى الانحسار السريع  ولم تجد أمامها  مِن سبيل سوى العودة  الى حيث  باشرت منه المسير !  فاضطرَّ  أبناؤها  للهرب الى المنطقة الشمالية لبلاد ما بين النهرين والى مناطق مِن جبال تركيا وايران المُحاددة لها ،  وتبعاً لذلك اضطرَّ البطريرك يهبلاها الثالث لنقل كُرسيِّه الى ( مراغا ) في ايران عام 1295 م ثُمَّ تَعَدََّدَ انتقال الكُرسي البطريركي الى أماكن اخرى مِنها الى أربيل عام 1318 م والى  كرمليس عام 1332 م  والى الموصل عام 1336م  والى الجزيرة عام1497 م  وبالتالي استقرَّ في دير الربان هرمز منذ عام 1504 م حتى عام 1553 م .

في  مُنتصف القرن السادس عشر ولترَدِّي أوضاع  أبناء  كنيسة المشرق النسطورية الى  درجةٍ  لا تُحتمَل  نتيجة الطريقة الاستعبادية التي  كانت  تُمارسها  ضِدَّهم الرئاسة البطريركية الاستبدادية بزعامة عشيرة آل أبونا ، قامت  نُخبةٌ  مُختارة ومُتعلمة مِن أبناء الكنيسة الأماجد مؤلفة مِن ثلاثة أساقفة وعَدَدٍ كبير مِن رجال الاكليروس ومُمثِّلي الشعب العلمانيين بانتفاضةٍ ضِدَّ التسَلُّط  الرئاسي الجائر ، فلقيَت تعاطفاً وتأييداً مِن قبل غالبية أبناء الكنيسة  باستثناء  مجموعةٍ قليلة  خرجت عن إجماع ألأغلبية  وتشبَّثت بالخنوع  واستمرار الخضوع  للسطوة العشائرية  لآل أبونا  عناداً  ونكايةً باخوانهم الذين ألهمهم الروح القدس للاهداء واستعادة مذهبهم الحق ( المذهب الكاثوليكي ) مذهب آبائهم وأجدادهم الأوائل قبل أن يُفرضَ عليهم المذهب النسطوري بالطريقة التي أشرنا إليها أعلاه ، وأصرُّوا على البقاء في المذهب النسطوري ،  ولا نُريد الخوض في تفاصيل هذا الانشقاق الكبير والأخير الذي حدث بين أبناء كنيسة المشرق النسطورية لأنه مرير وطويل ، ونقتصر حديثنا حول ما جرى للمجموعة التي  رفضت الانصياع  لصوت العقل وتصلَّبت في موقفها وانزوت متقوقعة  في منطقة سكناها الجبلية ( هيكاري ) بعيدةً عن المظاهر المدنية  تعيش حياة  بدائية مُستمرئة  العبودية  للرئاسة المستبدة ، رغم كُلِّ ما جلبته لهم ولأبنائهم مِن مصائب وويلاتٍ لاحقاً ، وقد اعترف بذلك واحدٌ مِن هؤلاء الأبناء ( ايشو س. مشو ) في رَدِّه عليَّ بتاريخ 14 / 7 / 2006   قائلاً : <  مَوقفنا هذا كُلِّلَ  بمقتل وقتل مئات الالوف ،  يوم أُحِلَّ  ذلك بمباركة وبقيادة  بطاركة  بيث أبونا  المطوبين ( مجداً لذكراهم ) > .

في  أواخر القرن التاسع  عشر باشرت الكنيسة الانكليكانية ( الانكليزية ) بارسال  بِعثاتِها  باسم التبشير ولكنَّ مُهَمتها الحقيقية الغالبة كانت سياسية أكثر منها دينية ، لأنها  كانت  مُوَجَّهة  ومُزوَّدة بأوامر رجال المُخابرات الانكليزية ،  ففي حوالي 1886 م عَثَرت البعثة الانكليكانية التي يقول عنها جان جوزيف في كتابه ( النساطرة ومُجاوروهم الاسلام ط .1961 م ) <  لقد أُطلقَ على البعثة التبشيرية الانكليزية التي أُرسلت الى النساطرة  خلال النصف الثاني  مِن الجيل التاسع عشر اسم  بِعثة رئيس أساقفة كانتربري الى المسيحيين الآثوريين ،  وأن هذه البعثة  أول مَن  سَمَّى  هؤلاء النساطرة  آثوريين >  ووَرَدَ في كتاب ( مفصل العرب واليهود في التاريخ ص . 596 - 597 ) <  لقد حَلَّت فئة تبشيرية انكليزية مِن البروتستانت بين المجموعة النسطورية الخاضعة لِمار شمعون مُحاولة إدخالهم الى المذهب البروتستانتي ، بيدَ أنها لم تُفلح ولكنَّها تَمَكَّنت مِن إقناعهم بأن التسمية ( نسطورية - نساطرة ) لا تليق بهم ، وعليهم اختيار لفظة ( آثور - آثوريين ) بدلاً مِنها لكي ترتفع مَنزلتُهم بين الأوساط العالَمية ، وتَجعلهم أحفاد ( الشعب الآشوري القديم ) ويُضيف المصدر نفسُه : لقد لعبت دعاية واسعة على لسان المُبشر الانكليزي وليم ويكرام الذي نشر هذا الاسم ( آثوريين ) لتعريف العالم بالمأساة التي حَلَّت بِمَن أسماهم بأحفاد شَلمَنَصَّر ، رغم أن هؤلاء النساطرة لم يعرفوا أنفسهم بهذا الاسم إلاّ بعد قدوم هؤلاء المُبشرين في أواخر الجيل التاسع عشر >.

وبهذا المَنحى يتحدَّث واحد مِن هؤلاء النساطرة الذي عايشَ فصولَ هذه المسرحية الانكليزية هو كيوركيس بنيامين بيث أشيثا مؤلف ( كتاب الرئاسة ط . شيكاغو عام 1987 م ) لتأتيَ شهادتُه أدمغَ وأصدق باعتباره شاهداً مِن أهلها  <  كُلُّ هؤلاء الكُتّاب الأجانب الذين كانوا يأتون لزيارة ديارنا لم يستخدموا ابداً اسم ( الآثوريين ) الذي نتداولُه نحن اليوم ، بل كانوا يُسمّوننا بالكلدان ولو كُنا على اختلافٍ في المذهب ، وإن الاسم ( الآثوريين ) أصبح متداولاً مِن قبل الانكليز في نهاية القرن التاسع عشر عندما وصل مُبشرون مِن انكلترة الى ديارنا عام 1884 م .

ونقرأ في  كتاب ( تاريخ الوزارات العراقية / المُجلد الثالث ص . 254 - 255 ) حيث  يقول مؤلفُه  المؤرخ  عبالرزاق الحسني  <  بأن الروس احتلوا ولاية  وان التركية  وأغروا النساطرة على القيام  بالتمَرُّدِ  على  الأتراك ،  وبعد أن جَهزوهم  بالأسلحة  قام المخدوعون  باقتراف أعمال تقشعرُّ لهولها  الأبدان ، فرَدَّت الحكومة التركية  عليهم بقسوةٍ  وفتكَت  بعددٍ كبير مِنهم ، أما الناجون مِنهم فقد نزحوا الى ايران بُغية  لَمِّ شملهم مع نساطرة ايران .
ونقلاً  عن كتاب ( الملوك الهاشميون / جيمس مريس ص . 105 )  يقول الحسني <  وليس لهؤلاء النساطرة  أية علاقةٍ  عِرقية  بآشوريي نينوى ،  وإنما هم  نساطرة  مسيحيون  دَمَّرَ  تيمورلنك كنائسهم وبَدَّدَ شَملَهم ،  ولكنهم ظلوا يعيشون في  المنطقة الجبلية الواقعة في شرق تُركيا ، وعندما هاجمت القوات الروسية المناطق الأرمنية في تركيا سنة 1915 م ، حَثت هؤلاء النساطرة على الثورة ضد الأتراك ، فلبوا دعوة الروس  بيدَ أنَّ التخاذل الذي مُنيَ به  الهجوم الروسي  وانسحاب القوات الروسية  ، استُغلَّ  مِن  قبل الحكومة التركية  وقامت  بقتل الآلاف  مِن  اولئك  النساطرة وطاردت  بقاياهم الذين  فرّوا  ولجأوا الى  أجزاء ايران الشمالية ،  وبنهاية الحرب  قامت  بريطانيا  بجلبِهم الى العراق .

يتحَدَّث رئيس الوزراء العراقي  توفيق السويدي في  الصفحة  243  مِن  مُذكراته ، <  بأن إحدى ركائز السياسة البريطانية  أثناء الحرب كانت  تشجيع  العناصر المُعادية  للأتراك  للتمَرُّدِ عليهم  ،
وبهذا الصدد  قامت الحكومة البريطانية بايفاد بعثةٍ عسكرية  الى اورمية  برئاسة الجنرال ( ويستر )  لحَث النساطرة  للقيام  بوجه  الأتراك ،  وبعد أن تَمَّ الاتفاق بين الطرفين ،  أرسلت بريطانية في شهر تموز لعام 1918 م  شحنة كبيرة  مِن الأسلحة  الى هؤلاء  المُغَرَّر بهم ، وقبل وصول الشحنة  هاجمَ الأتراكُ اورمية  وفتكوا بالذين تصَدّوا لهم من النساطرة  ،  وقام الانكليز  بترحيل الناجين منهم  الى منطقة بعقوبة في العراق ،  وأسكنوهم  في مُخَيَّمات هناك ،  وقد  ناهز عددُهم  الخمسين ألف نسمة  و مِن ضِمنهم  خمسة عشر ألف أرمني ، وعشرة آلاف نسطوري ايراني  عادوا الى ايران ،  أما  تركيا  فقد رفضت عودة نساطرتِها  الى موطنهم واصمة إياهم بالخونة ،  فاضطرَّ الانكليز للصرف عليهم  باعتبارهم  ضحايا  إغرائهم  الذي دفعهم لخيانة دولتهم  ،  وكان أن الكولونيل الانكليزي  ليجمان قد  عَنَّت له  فكرة إسكان هؤلاء النساطرة  في قرى الشريط  المُحادِد  لتركيا  كنوع  مِن العقاب  للأكراد الذين ثاروا ضد الانكليز مرتين ،  ويُضيف  السويدي  بأن هؤلاء النساطرة  الذين جلبتهم  بريطانيا  لديهم  قناعة تامة  بأنها  ستؤسس لهم  وطناً  قومياً  مُستقلاً  في  منطقة الموصل  حيث  نينوى عاصمة الآشوريين القدماء ،  وبذلك تجعل منهم قاعدة ترتكز عليها  السياسة الاستعمارية  لتستخدمها كنافذة مفتوحة  لمُراقبة  تَحَوُّلات الامور في منطقة الشرق الأوسط  .

جاءَ  في كتاب ( تعارض الولاءات /  أ . ت . ولسن  ص . 39 - 40  A . T . Wilson A .  Clash of Loyalties P. 39 - 40 )  أن اقتراح الكولونيل  ليجمان  لقيَ تأييداً من قبل الحاكم الملكي البريطاني في العراق ( أ . ت . ولسن )  فبادر  الحاكم الى  مُفاتحة وزير  الحربية البريطاني بهذا الخصوص  في شهر آب  1920  وقد افتتحَ برقيته  بالعبارة التالية  <  ستتهَيأ لدينا فرصة لإنصاف الطائفة الآثورية  بشكل  يُرضينا  ويُرضي  الأفكار  الاوروبية  في الحق والعدل ،  ويُمَكِّنُنا  مِن حَلِّ  مُشكلةٍ  مِن  أصعب المشاكل ،  تلك الخاصة  بالأقلية  الدينية  والعِرقية  في كُردستان ،
ويُخَلِّصنا  مِن خطر قد  يُداهم  مُستقبل  السِلم في شمال  الفرات وفي الوقت ذاته نكون قد عاقبنا  المسؤولين  عن اضطرابات العمادية ،  وقد لا تعود مثل هذه الفرصة ثانية  >  ولغرض تنفيذ هذه الخِطة تَمَّ  تكليف  وليم  ويكرام الخبير  بشؤون هؤلاء  النساطرة بالإشراف عليها ، غير أن  التحركات التركية  والاضطرابات  التي نشبت في ضواحي الموصل  أعاقت تنفيذها .

وبناءً الى  مُحتوى التقرير البريطاني الوارد في حاشية الصفحة 257  مِن كتاب ( تاريخ الوزارات العراقية / المُجلد الثالث )  يقول  عبدالرزاق الحسني  بأن  الانكليز  لم  يتركوا هؤلاء  النساطرة السُذَّج ،  بل واصلوا استغلالهم حيث جَنَّدوا ما يُقارب  ألفي فردٍ منهم ،  واستعانوا بهم في قمع ثورة العشرين  1920 م ،  وقد  أطلقوا  على هؤلاء  المُجَندين  تسمية ( الجيش الليفي ) ،  وبسبب  التذمُّر الذي  بدأ  يسري  بين  صفوف هؤلاء  المساكين  لوضعهم  في المُخَيِّمات ،  ولتخفيف غضب  البعض منهم  وإزالة  خيبة أمل  البعض الآخر  في  قياداتِهم  وفي  الانكليز  كذلك ،  بادرَ القائد أغا بطرس الى طرح  قرار  إقامة  حكومة  آثورية  في  منطقة  شمال الموصل حتى الحدود التركية ،  ولأسبابٍ تتعلقُ  باستراتيجية الانكليز وأهدافهم  استحسنوا الفكرة  ، فقاموا بنقل  المُخَيَّمات مِن بعقوبة  الى ( مندان )  شرق  جبل مقلوب   بين الموصل  وعقرة ،  إلاَّ أن  هذه الخِطة  انتهت الى الفشل .  والمعروف  أن  الهدفَ  الأساس  مِن  قيام الانكليز  بتشكيل  وحدات  عسكرية  مِن  أبناء النساطرة  أطلقت عليها ( الجيش الليفي ) كان لإسداء الخدمة لهم في التصَدّي لكُلِّ مِن  يُحاول  إلحاق الضرر بمصالح بريطانيا  من العرب والأكراد .

وعن الجهود الكبيرة التي بذلها الانكليز ووسائل الضغط التي مارسوها لنشر التسمية الآثورية يشرحُها يوسف ابراهيم يزبك في كتابه ( النفط مُستعبد الشعوب ص . 233 - 234 ) والقس سليمان الصائغ  في كتابه ( تاريخ الموصل / الجزء الأول ص . 51 - 52 ) <  عند تواجد ا لكولونيل الانكليزي  ليجمان  في نينوي  تَحدَّثَ الى  سُكّان نينوى العرب قائلاً : إنكم  مِن اصول الآثوريين  وإنني  مُستغربٌ مِن عدم عِلمكم بتاريخ أجدادكم وعدم معرفتكم بكونكم أحفاداً للآثوريين الذين شَيَّدوا مجدَ نينوى ، وكان رَدُّ عرب الموصل ، إننا مِن عرب الفتوحات وعند قدومنا الى الموصل لم نجد فيها إلاَّ الفرس المجوس في المحلة وفي المحلة الاخرى كان يسكن المسيحيون الجرامقة > ( الجرامقة تسمية لإحدى جماعات الكلدان ذوي التسميات المتعدِّدة ) ويستطرد  يزبك في الصفحة 236 و237 و242 <  جاء الكولونيل ليجمان الانكليزي الى مُحرِّر  جريدة الموصل  وطلب منه  أن ينشر خبراً عن زيارة ( سورما خانم ) والتي أطلقَ عليها  ليجمان لقبَ ( أميرة الآثوريين ) الى لندن  لتُطالب بتحقيق الوعود التي تَعهَّدَ بها الانكليزُ لقومِها حول إقامة وطن قومي للآثوريين في شمال العراق ( الموصل والمناطق التابعة لها )  فبدا  الاستغرابُ على الصحفي مِن أقوال  ليجمان  وكان  كلدانياً  ويُعتقد أنه  كان مِن عائلة آل عبو اليونان ، فأجاب قائلاً ، لم أسمع بوجود قوم باسم الآثوريين ولهم أميرة !  أو كما أوردت الجوابَ  مصادرُ اخرى  بشكل  مُغاير ( فأنكر الصحفي وجود  قوم  باسم الآثوريين ووجود أميرة لهم ) وأضاف الصحفي ، بأن هؤلاء النساطرة لا علاقة لهم بالآشوريين ، ولكن الكولونيل الانكليزي أصَرَّ على رأيه ، وكان يواصلُ إجبار مُحَرِّر جريدة الموصل على نشر الأخبار عن الآثوريين ، باعتبار هذا الأمر يدخل ضمن مُخططات ومآرب  المملكة المتحدة ، حيث فاجأَ  ليجمان مُحَرِّرَ جريدة  الموصل  بحضوره الى مقرِّها  ذات يوم  قائلاً له : <  انشر أخباراً عن الآثوريين وأميرتهم سورما خانم عَمَّة مار شمعون صاحبة السمو ، وانشر في عَدَدِكَ لهذا اليوم ، أن صاحبة السمو الأميرة سورما الموجودة الآن في لندن ، قد قامت بزيارة  المراجع  الحكومية العليا وقابلت كبار المسؤولين ذوي النفوذ فيها ، طالبة الوفاءَ بالوعود التي قطعتها بريطانيا لمواطنيها أثناء الحرب ،  بصدد إقامة وطن قومي  للآثوريين والكلدان في العراق وتحديداً في المنطقة الشمالية ( الموصل وما يجاورها ) ،  وعندما اعترض الصحفي  مُستغرباً  ونافياً  وجودَ قوم  باسم الآثوريين ووجود أميرة لهم مُحاولاً شرحَ الحقيقة ، رَدَّ عليه ليجمان ناصحاً إياه بالسكوت وعدم التفوُّه بما قاله ، فقد يُسبِّب ذلك برأيه انشقاقاً بين المسيحيين والمُسلمين من سكان الموصل .

ويسترسل يزبك قائلاً : <  لقد أتقن الاستعمارُ  البريطاني اللعبَ  بدهاءٍ  نادِر  بعقول التياريين الذين أسبغَ  عليهم اسمَ  الآثوريين  خطأً  عن  طريق ابتكاره  لهم  مِن قبل  مبعوثي  كنيسة  كانتربري الانكليزية في نهايات القرن التاسع عشر بقيادة وليم ويكرام الذي بذل جهداً كبيراً جداً  لغرض تنسيبهم الى الآثوريين ، وساهمت  وسائل الاعلام البريطانية  بجلب  انتباه العالَم  وكسبِ  الرأي العام العالَمي ، لكي ينتصر لهؤلاء المسيحيين الإخوة المُضطهدين مِن قبل الأكثرية المُسلمة  ،  ثُمَّ  يُعَقِّب  بأنه  لم يبق هنالك  مُتَّسع بين  سطور كتابه  للإحاطة  بحوادث  التياريين المعروفين  خطأً باسم ( الآثوريين ) ، ويُردف في الصفحة 238 مِن كتابه ، بأن القبائل التيارية ، تلك القبائل الساذجة التي خدعها الاستعمار البريطاني ظُلماً وجعل مِنها حطباً لموقد مطامعه ، لم تكن يوماً بوارثةٍ للامة الآشورية ولم تكن تعرف عن آشور شيئاً ،  وأطرف ما ذكره يزبك بأن احد الكهنة الكاثوليك في الموصل وهو عالِم ووطني نزيه قال : بأن المُستعمرين أعطوا اهتماماً كبيراً لجماعة مار شمعون ، والاهتمام الأكبر أولوه لعمة مار شمعون ( سورما ) وقال بالحرف الواحد ما نَصُّه : <  فأثوَروها وما زالوا بها حتى ثَوَّروها > .

يقول  لوقا زودا  في كتابه ( المسألة الكُردية والقوميات العنصرية في العراق ص . 97 - 98 ) <  دأبت دوائر الاستخبارات العسكرية البريطانية  على العمل  جاهدة  لتجميع مَن أسمَتهم بالآثوريين في منطقة نينوى عاصمة الآشوريين القدماء ، وتشكيل جيش من عشائرهم  ، ليكون نواةً  لحماية الوطن القومي  المقترح إقامته لهم ،  لكي عن طريقه يُمَهَّدُ  لإعلان  استقلال آشور تحقيقاً للوعود التي قطعها  الانكليز على أنفسهم  لقاءَ  امتثال  الآثوريين  للقتال الى جانبهم ، ولكن  بريطانيا  لم تكن مُخلصة  في سعيها هذا ،  بل كانت تلعب دوراً مُزدوجاً ، حيث تُحَرِّض الآثوريين على  المُطالبة بالاستقلال  مِن ناحية  ومِن ناحية  اخري  تشي  بهم  للحكومة العراقية  وتُحَرِّضها  على  قمع  حركتهم ،  وهذا  ما أشار إليه   مظفر عبدالله  و جهاد صالح  في  كتاب ( العراق في التاريخ / الفصل الثاني ص . 661 - 662 )  <  بأن النساطرة  الذين  تأَثوَروا  قد  توَرَّطوا  بقيامهم  في عهد الملك فيصل الأول  وخلال الفترة التي سبقت وفاته بحركة  تمَرُّدٍ  في شمال الوطن ، ولِكَون الملك فيصل خارج الوطن ،  قام قئد الجيش العراقي آنذاك  بكر صدقي  وبالاتفاق مع  ولي  العهد غازي  ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني  ووزير الداخلية حكمت سليمان بقمع التمَرُّد  والقضاء عليه  نهائياً في شهر آب لعام 1933 م .
كانت  مأساةُ سميل وضواحيها  آخر المآسي والويلات التي سبَّبَها الانكليز بحق هؤلاء النساطرة  المُتأَثورين ثُمَّ المتأشورين ، بسبب انصياعهم لإغراءات المُستعمرين البريطانيين وانقيادهم الأعمى واللامسؤول لأوامرهم  بدون  وعيٍ  وإدراك .
بللإضافة الى ما  تَقَدَّمَ  ذِكرُه  مِن المصادر  والأدلة والبراهين التي تؤكِّد بأن هذه المجموعة البشرية التي أغواها الانكليز وجعلها  أن تُغيِّر تسميتها مِن ( النسطورية - النساطرة ) الى ( الآثورية - الآثوريين )  في  باديء الأمر  ثُمَّ استبدلوها  في القريب اللاحق ( بالآشورية - الآشوريين )  هي في  الحقيقة  مُنحدرة  مِن اصول كلدانية  دُعيَ  أبناؤها  ( تيارايي  أو اطورايي ) نسبةً الى  منطقة سكناهم الجبلية  أي بمعنى ( تياريين أو جبليين ) وهنالك أدلة ومصادرة اخرى كثيرة غيرها لم نذكرها لأننا قد سبق وذكرناها  في مقالاتٍ  سابقة  تُثبتُ  ذلك .

إذاً  لا  نُخالف أو نُغالي  عندما نُشَبِّه  المجموعة الكلدانية النسطورية ( الثانية ) التي  تمرَّدت على أبناء امتها وكنيستها المشرقية الكلدانية  بالمجموعة العمورية ( الاولى ) ذات الاصول الكلدانية الخارجة مِن بابل والتي  تنكَّرت بدورها  لاصولها وتبنَّت غيرها ،  أما  الفارق  بين  فعل المجموعتين ، فان المجموعة  الثانية  لم يُسعفها  الزمن  لتقيمَ لها  كياناً  سياسياً مُستقلاً مُشابهاً كما  تَحقَّقَ للمجموعة الاولى  وإن استماتت في سبيل ذلك وبكل وسيلة وتضحية ، لكي تتمكَّنَ  مِن مقاتلة الكلدان التي هي من صُلبهم بالسلاح  كما فعلت المجموعة الاولى وبمنتهى العُنف والشراسة ! فلم يكن أمامها إلاَّ التشهير بالكلدان وتشويه  تاريخهم وابتزاز مُنجزات أسلافهم وتغييب اسمهم ،  مستخدمين كُلَّ  وسيلة  مهما  كانت  ذليلة .

وبعد أن بذل الكلدان بمختلف أصنافهم مِن قياديين كنسيين ومسؤولين سياسيين ومُستقلين وكُتَاب ومُثقَّفين ،  في تغيير نهج هؤلاء الأبناء  الضالين ، بتنويرهم  بأن انسلاخَهم  عن أصلهم و انتحالَهم  لتسميةٍ  ألصقَها بهم المُستعمِر الانكليزي  مِن أجل مصالحه الخاصة ، لا تمنحهم اثنية  خاصة  ولكن بدون جدوى البتة ،  والأعجب في هذا الأمر المُثير والغريب  ، هو تشبُّثهم  بهذا النهج الخاطيء  بالمرة رغم  عِلمهم  بالحقائق التي قد لا يجرأون البوح  بها ، والأنكى مِن كُلِّ ذلك  أن العديد  مِن أبناء الكلدان  قد وقعوا  في فِخاخ  مكائدهم  وجاروهم في مسلكهم المُشين ، بل أصبحوا ( أكثر مِن الملك ملكيين )  فنراهم في المحافل لتحريف الحقائق وإبراز الأباطيل  أكثر تطبيلاً وتزميراً وفي وسائل الاعلام أشد صُراخاً وعويلاً  ، مُفرغين  سمومَ  أفكارهم لتسميم  أفكار الأبرياء  المُسالمين ، تُرى ، ألا يعلمون انهم بذلك  سيُصبحون موضعَ استصغار وازدراء مِن قبل أبناء امتنا الكلدانية ، ويعتبرونهم مُرتزقة يقتاتون على حوافي موائد الغير !  ولكن للأسف أمثال هؤلاء كثيرون ولدى كُلِّ الشعوب والبلدان موجودون ، بيدَ أن مصيرهم مِن أن ينالَهم  الذلُّ  والعار غير مأمون !

لهذه الأسباب وقطعاً لدابر المُهاترات والمؤامرات قال قائد الامة الكلدانية والرئيس الآعلى لكنيستها  غبطة  البطريرك عمانوئيل  الثالث دلِّي  كلمته الفصل  مِن على شاشة فضائية عشتار ،  بسبب استحالة تغيير  الحال ،  فالآثوري الذي يعتقد بأنه آشوري  فاليحتفظ  بآشوريته  وإذا أنكرها يكون خائناً لها ، وكذلك بالنسبة للكلداني إذا أقدمَ على إنكار قوميته  فهو خائن لها !  وليسعى كُلٌّ لخدمة قوميته  وأبنائها !

الشماس كوركيس مردو
في 27 / 8 / 2006