المحرر موضوع: في اربعينية المبدع جليل القيسي- اللعنة علينا جميعا -  (زيارة 1970 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Sabah Al shani

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 13
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
في اربعينية المبدع جليل القيسي
-اللعنة علينا جميعا –
صباح هرمز

معظم الذين كتبوا عن القاص والمسرحي المبدع جليل القيسي بعد رحيله المبكر والمباغت، لم يعرفوه عن كثب، واذا كان البعض منهم قد عرفه، فقد جاء من خلال اللقاءات العابرة، ووقوعا تحت تأثيرات اعماله، وبصريح العبارة لم يكونوا اصدقاء حميميين له، ذلك ان طبيعته الميالة الى العزلة، ولما يتسم به من الخجل، تفرضان عليه هاتان الصفتان، لأن يكون قليل الاصدقاء. ولي الفخر ان اكون (على حد تعبيره) واحدا من اقرب الاصدقاء اليه، الى جانب مبدعين كرديين اخرين، وهما الشاعر شيركو بيكس والقاص رؤوف بيكرد.
عرفته كقاص في نهاية الستينات، بقراءتي له قصته المنشورة في مجلة الكلمة والموسومة(السمكةالطرية)، ولكنني لم اتعرف عليه الا في منتصف الثمانينات ضمن المهرجانات المسرحية المقامة سنويا لمعهد الفنون الجميلة في السليمانية، وتوطدت صداقتنا في السنوات الخمس الاخيرة، وذلك بعد الحادث الذي وقع لي عام 2001 على طريق بغداد – كركوك، وادى الى كسر ساقي، وزيارته لي في بيت شقيقي بكركوك.
في ذكرى اربعينيته هذه، سوف اتناول جانبا واحدا من ذكرياتي معه، تحديدا للأشهر الثلاثة قبل رحيله والخاصة بمرضه.
كان الفقيد منذ فترة قصيرة يشكو من احتقان في المجاري البولية، وكلما اتصل به هاتفيا واسأل عن صحته، يخبرني بأنها غير جيدة، وعلى ما يبدو لعدم تحسنها، واستيائه من مراجعة الاطباء في كركوك بدون جدوى ، طلب مني ان ادبر له اقرب موعد ممكن لمراجعة احد الاطباء والاخصائيين المقيمين في اربيل ولكن لسوء حظه، ونظرا للأقبال الشديد على الطبيب المزمع معالجته، وبالرغم من من كل المحاولات الجادة لتقديم موعد الحجز، فقد  تعذر ذلك، وتأخر الى اكثر من شهر.
ولأنه كان مدعوا الى السيمينار الاول للرواية الكردية المنعقد في اربيل في السابع والعشرين من شهر حزيران، فقد اقنعته ان يحتمل هذه الفترة، سيما وموعد حجزه يتزامن مع انعقاد السيمينار، فوافق على مضض شريطة ان اذهب اليه بنفسي الى كركوك، واجلبه معي الى اربيل، ذلك لأن صحته، لا تسمح له بالسفر وحده. في البداية تذرعت بالوضع الامني القائم في كركوك، ثم سرعان ما رضخت له، وتحت الحاحه الشديد.
قبل انعقاد المهرجان بيوم واحد، وفي الساعة السادسة والنصف صباحا، انطلقت من اربيل، وكان موعدي معه في الثامنة امام مطعم (ابو رامي) الواقع على طريق بغداد والقريب من منزله. وعندما وصلت الى كركوك اجرت سيارة من امام بناية السوق المركزية، وما ان مرت وبمسافة قصيرة من امام مستشفى الجمهوري، حتى سمعنا اصوات اطلاقات نارية كثيفة تأتي من كل الاتجاهات، ومن حسن الحظ ان المطعم كان قريبا، كما ان وصول الراحل في نفس اللحظة الى مكان الموعد، ازال القلق الذي لازمني للحظات، ثم عادت نبضات قلبي تتسارع بقوة ثانية عندما رأيته ينزل من السيارة، وقد غطى انفه بمادة (الكلينيكس)وبقع الدم منتشرة على قميصه. وعندما سألته عن السبب، هز رأسه، وقال لي : (انه ينزف من الصباح الباكر) واضاف : وانا في طريقي اليك، اقلت سيارة الاسعاف ثلاثة من رجال الشرطة، ولا ادري ان كانوا قتلى ام جرحى.
وصلنا الى اربيل في حدود الساعة العاشرة صباحا، فأخذته الى فندق برج اربيل، ومن هناك الى اتحاد الادباء، وكان لقاؤه هذا مثمرا مع الهيئة الادارية للأتحاد، اذ جرى الاتفاق مع الاستاذ بدران هاتفيا، طبع كل مؤلفاته القصصية والمسرحية في مجلدين على نفقة دار اراس، وبعد الظهر تركته في الفندق، وفي الساعة الرابعة خابرني، وطلب مني ان اذهب اليه الى الفندق ثانية، لشعوره بالوحدة والملل بين جدران غرفة الفندق الاربعة، فلبيت طلبه، وقمت به في جولة قصيرة في شوارع المدينة، ثم عرجنا الى بناية اتحاد الادباء، فأذا بالدم طفق ينزف ثانية من انفه، فأخذته والصحفي المعروف اسماعيل البرزنجي مع الفلولكلوري مام بيرداوود الى مستشفى الطواريء، وبقينا هناك اكثر من ساعة، حتى استطاع الاطباء ايقاف النزيف من انفه الناجم عن ارتفاع ضغط الدم.
مساء اليوم الاول من افتتاح المهرجان، ذهبت والاخ اسماعيل معه الى العيادة في الموعد المحدد للحجز، واجريت له الفحوصات اللازمة، وطمأنه الطبيب الى صحته، ونصحه بتناول الادوية المكتوبة في (الراجيتة) بدون انقطاع وبشكل منتظم.
قبل انتهاء المهرجان بيوم او يومين، لا ادري بالضبط، خابرني صباحا وقال لي انه سيسافر الى كركوك، وودعني على الهاتف، وفي اليوم الثالث من سفره خابرته للأطمئنان على صحته، فأخبرني انه في صحة جيدة، ولكنه في المحادثة اللاحقة عاد يشكو من اعتلال صحته. وسمعت صوته العذب للمرة الأخيرة، وهو يتحدث معي من اربيل، وقد فاجأني لقدومه بدون علمي، كان على ما اظن في بداية تموز، ويريد ان يلقاني في نفس اليوم، لأن غدا سوف يغادر الى تركيا للعلاج، والح على ضرورة هذا اللقاء.
في الحقيقة بالرغم من كل ما كان لدي من مسوغات، بعدم اللقاء به في ذلك اليوم، بيد ان اعطاء جزء من وقتي له لم يكن مستحيلا، ولعلني اشعر بتأنيب الضمير كلما يخطر هذا الموقف ببالي، واتصور انه غضب مني وهو يغلق سماعة الهاتف، وعرفت فيما بعد، طبعا عقب اطلاعي على اصابته بمرض سرطان المثانة، ان الحاحه للقاء بي كان بسبب افشاء هذا السر الخطير والكبير لي، لم يشأ ان يقله على الهاتف، وانما وجها لوجه، عله ليقرأ تعابير وجهي، وردود انفعالاتي، ولربما ايضا اراد ان يودعني الوداع الأخير.
وبعد سفره الى تركيا، اتصلت بأسماعيل البرزنجي للأطلاع على صحته، اخبرني انه قد اجريت له عمليتان، وعندما طلبت منه ان يزودني برقم هاتفه للأتصال به قال انه لدى نوزاد اسود المقيم في السليمانية، كنت يوميا اتصل بكركوك، على امل انه عائد من تركيا، غير ان خطوط الهواتف كانت مقطوعة في هذه الفترة بين كركوك واربيل، وفي احد الأيام وكان الوقت صباحا، ما ان اتصلت برقم هاتف منزله حتى اشتغل الخط، وسمعت صوت زوجته، وعندما سألتها عنه، قالت انه عاد من تركيا وهو الآن يرقد في المستشفى ويتقيأ، عندها فقط عرفت انه يعيش ايامه الاخيرة، فأتصلت بأسماعيل البرزنجي ومجموعة من الأدباء والفنانين في اربيل لزيارتة والقاء النظرة الاخيرة عليه الا ان الكل وبدون استثناء للوضع المتردي في كركوك، رفضوا دعوتي هذه... وبعد يومين من مخابرتي لزوجته، وكنت جالسا مع مجموعة من الأصدقاء، رن جرس الهاتف، ولا اتذكر الآن من كان المتحدث، الا انه قال لي : البقية في حياتك رحل صديقك العزيز...
كم انتظرتني ، وانت تحتضر، يا ابن ارنجا الخجول..؟
انتظرتني طويلا...كثيرا
اطول من سنوات عزلتك عن مدينتك الناعسة
واكثر من معاناة مرضك
ولكني لم ات
ولم يأت شيركو بيكس
ولا رؤوف بيكرد
ولا محمد خضير
ولا اسماعيل البرزنجي
اللعنة....اللعنة علينا جميعا.[/b][/size][/font]