المحرر موضوع: يوميات ايرانية ( 17 )  (زيارة 944 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Adel Habba

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 30
    • مشاهدة الملف الشخصي
يوميات ايرانية ( 17 )
« في: 00:20 07/09/2006 »
يوميات ايرانية
( 17 )
عادل حبه
السجن المؤقت

بعد قرابة الساعة من مسير السيارة، تزايد ضجيج الناس ثم تعالى صرير الأبواب وهي تفتح بأوامر عسكرية وتبعث اصواتاً مزعجاً. توقفت السيارة، وفتحت أبوابها الخلفية وصدرت الأوامر للجنود بنزع العصابات عن أعيننا. عندها رأينا مشهداً مثيراً، فقد أصطف الجنود الذين رافقونا والشرطة الموجودة عند بوابة السجن وهم ينظرون بفضول إلينا ونحن ننظر إليهم بإستغراب. فلم كل هذا الإستعداد؟ ورحنا نسأل انفسنا هل نحن بهذه الدرجة من الخطورة لكي يقوم الجنود والشرطة بمثل هذا الإستعداد عند إستقبالنا؟ على أي حال تقدم أحد عرفاء الشرطة وبدأ تفتيش حاجياتنا البسيطة علاوة على التفتيش البدني ثم ساقونا إلى مدخل السجن الجديد. قيل لنا إن هذا السجن هو السجن المؤقت الذي يستقبل فيه السجناء الذين سيتوزعون بعدئذ على السجون الأخرى.
وما أن فتحت البوابة الرئيسية لباحة السجن حتى رأينا المئات من السجناء والمعتقلين وهم بملابسهم السجنية وبلحاهم الطويلة ومظهرهم الذي يدعو إلى الرثاء. عرفنا إن الغالبية من المتوافدين على السجن المؤقت هم من سجناء المخدرات وجرائم السرقة والقتل وغيره، ومن النادر العثور على متهمين بقضايا سياسية.
ما أن دخلنا إلى القواويش حتى فوجئنا بنظرات من الإحترام والترحيب على وجوه الجميع. فقد تقدم أحد السجناء وعبر عن ترحيبه بالسجناء السياسيين، وأمر بشق الطريق لكي يختار أفضل زاوية لنستريح فيها. فرشت تلك الزاوية بمساعدة عدد من السجناء بأغطية نظيفة وعدد من الوسائد. وطلب منا الجلوس والخلود الى الراحة. كنا في غاية الإستغراب، ورحنا نطيعهم وكأننا تلاميذ مدرسة لحضانة الاطفال وعلى وجوهنا تعلو الدهشة والتساؤل كرد فعل لما يجري حولنا وكأننا في حلم، خاصة بعد تلك المعاملة القاسية التي تلقيناها من قبل رجال الشرطة والامن في الأشهر الماضية .
ولشدة دهشتنا بادر السجين الذي إستقبلنا بحفاوة إلى إصدار أوامره إلى الآخرين بحجز وجبات الأكل من مطعم خارج السجن. وإفترش هذا الرجل الأرض إلى جانبي وبدأ يسأل عن الإتهام وعن هويتنا وجنسيتنا بعد أن أدرك من كلامنا إننا لسنا من هذا البلد. بدأنا جميعاً نفكر بكيفية الجواب على هذه التساؤلات وترددنا في أيضاح ما يسأل عنه.
ونحن في دوامة التفكير، بادر هذا السجين إلى التعريف بنفسه. وقال:" أنني زردشت فروهر وأقضي السجن بإتهام ملفق غير سياسي، لقد كنت يسارياً ومن انصار حزب توده ومارست السياسة ومعضلاتها ثم إبتعدت عنها". ثم إستطرد قائلاً:" إن لي أخ يمارس السياسة وهو داريوش فروهر وهو من المعارضين القوميين ورئيس حزب ملت إيران، حزب الأمة الإيرانية".
وفي الحقيقة لم أكن قد سمعت بهذا الحزب الذي يعتبر أحد أحزاب الجبهة الوطنية الموالية للمرحوم الدكتور محمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني الذي أطيح به من قبل المخابرات الأمريكية. كان جميع السجناء قد إفترشوا الأرض حولنا وهم يحدقون فينا بفضول وكأننا قادمون من كوكب آخر. كانوا يحدقون في وجوهنا بنظرات تنم عن الإهتمام ومصحوبه بالإعجاب والتعاطف. ولم يترددوا في تقديم أية مساعدة لنا وبطيب خاطر. سارع البعض منهم إلى تحضير الشاي مستخدماً السماور، وقام البعض الآخر بتقديم ما تيسر في جعبته من المكسرات.
كان مجيئنا إلى السجن المؤقت مناسبة لقدر من التغيير في حياة هؤلاء البؤساء. وعندما حان موعد العشاء لم يستلم السجناء حصتهم من وجبة طعام السجن التقليدي. فقد تبرع عدد من الميسورين من السجناء، وبأوامر من زردشت فروهر، ويبدو أنه كان "فتوة" السجن، بدفع ثمن الطعام الذي جلب من خارج السجن بمناسبة قدومنا.
بدء الجميع بإفتراش الارض كي يأخذ مكانه حول سفرة الطعام. ولكن ما لفت إنتباهي هو توجه زردشت فروهر نحو شخص كان يجلس القرفصاء في الزاوية الآخرى من القاووش، داعياً إياه وبإحترام بالغ الى مشاركتنا في هذه الوليمة السجنية. كان الرجل متوسط القامة مفتول العضلات عريض الصدر وذي قامة مستقيمة تنم عن أن الرجل كان يمارس الرياضة.
ويمتلك هذا الرجل عينين عسليتين شديدتا اللمعان والبريق، وله نظرات حادة ووجه صارم يثير فضول الآخرين. طرق سمعي صوت زردشت وهو يناديه بإحترام بالغ بالمقدم حسين قباديان، ويبدو أنه عسكري سابق. وبدأ يلح على هذا الرجل الهادئ المنزوي في تلك الزاوية بقبول الدعوة. ولكن الرجل أبى وبإصرار ملفت للنظر المشاركة بالرغم من إلحاح وتوسل الجميع.
وبدا لي أن الرجل لايريد الإختلاط بأحد ويتجنب الإحتكاك بالسجناء، وإكتفى بوجبة العشاء المتواضعة التي قدمتها إدارة السجن.
بعد تناول الطعام وتناول الشاي اللذيذ لأول مرة منذ إعتقالنا، دنوت من زردشت وسألته عن شخصية هذا الرجل الذي بدا لي عنيداً قدراً ما. وبدأ زردشت فروهر يقص علي حكايته المثيرة والتي تشبه القصص الخيالية لكبار الكتاب والروائين الكلاسيكيين. حسين نوروز علي قبادي كان واحداً من الأعضاء المعروفين في تنظيم الضباط الإسطوري التابع لحزب تودة إيران.
وكان ضابطاً في سلك الشرطة الإيرانية وعرف عنه بالشجاعة، وكلف مراراً بمهمات خاصة من قبل الحزب. ففي الرابع من شباط عام 1949 جرت محاولة لإغتيال الشاه محمد رضا بهلوي من قبل شخص يدعى ناصر فخر آرائي. وعند القيام بالمحاولة الفاشلة، قتل فخرائي وعثر في جيبه على بطاقة عضوية لحزب توده إيران. إن مجرد العثور على بطاقة عضوية حزب توده كان كافياً لتوجيه الإتهام للحزب بالتخطيط لهذه المحاولة.
وكما هو مخطط أتهم حزب توده إيران بتدبير المؤآمرة، مما أدى إلى إعتقال العديد من قادة الحزب. وقد ثبت بعد سنوات إن ناصر فخر آرائي كان مراسل لجريدة "برجم إسلام"،أي راية الإسلام، وكان مسؤول تحرير هذه الجريدة فقيهي شيرازي الذي كان على صلة وثيقة بالسفارة البريطانية. إذن هذه المحاولة دبرتها أوساط مرتبطة بالمخابرات البريطانية لكي تضرب عصفورين بحجر واحد.
كان الطرف البريطاني في تلك الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، يسعى إلى تحذير الشاه من مغبة فسح المجال للولايات المتحدة التي كانت تسعى بقوة للدخول إلى الساحة السياسية الإيرانية ثم الشرق الأوسطية على حساب الأمبراطورية العجوز التي بدأ نجمها بالأفول. ويأتي هذا الفعل خاصة بعد قبول الشاه بالمساعدات الأمريكية وإستقبال هيئة مستشارين من الولايات المتحدة والقبول بما عرف آنذاك ببرنامج "النقطة الرابعة" للرئيس الأمريكي ترومان. ¨
وقد خططت بريطانيا، في حالة نجاح المؤآمرة وقتل الشاه، لتنصيب أخ الشاه شاهبور علي رضا ليحل محل الشاه، وأن يتسنم الجنرال رزمآرا منصب رئاسة الأركان وكلاهما من الموالين لبريطانيا. وبعد فشل المؤآمرة، راحت الإدارة الأمريكية تثبت مواقعها في إيران وتحقيق مشروعها في إزاحة مواقع بريطانيا المتزعزعة في إيران ولمواجهة نفوذ ما سمي آنذاك بخطر الإتحاد السوفييتي.
وراحت الادارة الامريكية بمد الجسور مع القوميين والوطنيين الإيرانيين وخاصة مع الجبهة الوطنية الإيرانية التي تزعمها الوطني الإيراني الدكتور محمد مصدق الذي كان شديد العداء لبريطانيا. فضلاً عن ذلك، فقد أريد من هذه المؤآمرة توجيه ضربة إلى حزب توده إيران الذي تعاظم نفوذه في إيران بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن أجل إطلاق سراح قادة الحزب ومن بينهم نور الدين كيانوري ومسؤول تنظيم الضباط خسرو روزبه وأخرين من الذين كانوا يقضون مدة حكمهم في سجن قصر المعروف في طهران، كلفت قيادة الحزب تنظيم الضباط التابع للحزب بإنجاز هذه المهمة.
وكان على رأس تنظيم الضباط والذي قام بطرح خطة الفرار العقيد محمد علي مبشري وهو من ولادة مدينة كربلاء المقدسة في العراق. ولم يكن هدف الحزب مقتصراً على تحرير قادته من السجن فحسب، بل القيام بإستعراض سياسي مثير لقوة الحزب وهشاشة الحكم الشاهنشاهي في إيران وأجهزته. وكانت الخطوة الأولى في العملية هو نقل عدد من الضباط ومنهم ضابط الشرطة حسين قبادي إلى قسم شرطة السجون، لكي يتم نقله بعدئذ إلى سجن قصر بالذات من أجل أن يتم التحكم بالعملية.
وقام الضباط أعضاء حزب توده ايران المنتشرون في مرافق عديدة في القوات المسلحة الإيرانية والشرطة والجندرمة بتهيئة الألبسة العسكرية المطلوبة والشاحنات العسكرية لنقل الهاربين والسلاح الخفيف المطلوب وكل ما هو ضروري لإنجاز العملية بنجاح.
وهكذا حدد يوم الخامس عشر من من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1950 موعداً لتنفيذ الخطة. وقام تنظيم الضباط بتزوير رسالة رسمية صادرة من رئاسة أركان الجيش الإيراني وبإمضاء مزور من رئيس الأركان من أجل تحويل سجناء حزب توده إلى سجن أخر.
ووفر التنظيم عدداً من الشاحنات العسكرية وبعض الضباط والمدنيين الذين إرتدوا الملابس العسكرية لهذا الغرض. بالطبع كان من الصعب تنفيذ ذلك بدون التعاون مع ضباط السجن وكان من بين أبرزهم حسين قبادي الذي كان في عداد طاقم حرس السجن وساهم بإخراج السجناء من غرفهم وقيدهم وحولهم إلى الضباط القادمين لتهريبهم.
ومن أجل ذر الرماد في العيون، قام حسين قبادي وهو ضابط الخفر بعدة إتصالات تلفونية شكلية لكي يبدد تساؤلات الضباط الأخرين ممن لم يكن لهم صلة بهذه الخطة أو من هم من غير الإعضاء في التنظيم العسكري للضباط.
وقام المعتقلون السياسيون وجلهم من أعضاء حزب توده القيام بإضراب وإحتجاج وإعتراض على أبعاد السجناء طبقاً لعملية مدبرة مسبقاً للتمويه على العملية، علماً إن المعترضين من السجناء لم يكن لديهم علماً بخطة الحزب في تهريب السجناء.
وهكذا تم تهريب عشرة من قادة الحزب بدقة متناهية، ونقلوا إلى عدد من البيوت السرية التي أعدها الحزب قبل أن يستفيق الحكم الذي كان منهمكاً بالإعداد لخطوبة الشاه من الملكة المقبلة ثريا إسفندياري. وهكذا تم فرار قادة الحزب، ونقل بعضهم إلى الإتحاد السوفييتي ومنهم حسين قبادي الذي ترك مكانه في إدارة السجن مع الهاربين. وكان لهذه العملية صدى كبير على النطاق المحلي والعالمي .
لقد بقي حسين قبادي قرابة الأربعة عشر عاماً في الإتحاد السوفييتي واجه فيها بعض المشاكل مع الدولة السوفييتية ومع قيادة حزبه، مما دفعه إلى إتخاذ قرار بالعودة الطوعية إلى إيران في عام 1965، بالرغم من تحذيرات رفاقه من مغبة هذا العمل الذي ينطوي على مخاطر على حياته.
وما أن عاد قبادي حتى تم مجدداً فتح ملف إجراءات المحكمة العسكرية السابقة، ونبشت إضبارته القديمة التي حكم بموحبها آنذاك بالإعدام. وفي أثناء إعادة المحكمة طلبت منه المحكمة التبرء من عمله السابق وإعلان وفائه للشاه وإدانة حزب توده إيران كي يتم تخفيف الحكم السابق.
توقع الحكام والساواك أن يذعن قبادي إلى طلب الحكم لإنقاذ حياته، خاصة وانه رجع الى البلاد طواعياً بعد خلافه مع قادة الحزب. إلا أن حسين قبادي رفض طلب قضاة المحكمة العسكرية الصورية وسخر من حكامها وأحكامها وهاجم الدكتاتورية في أيران ودافع عن حزب توده وعن فعلته في إنقاذ السجناء.
ومن ثم فاجئ حسين قبادي المحكمة بأن نزع أحدى فردتي حذائه وقذفها بصورة الشاه المعلقة فوق رؤوس قضاة المحكمة العسكرية الذين ذعروا من هذه المفاجئة بعد أن سقطت الصورة وتكسر الزجاج وتناثر على رؤوس القضاة العسكريين البائسين المذعورين الذين راحوا يبحثون عن ملاذ لهم تحت منصة المحكمة العسكرية.
وفهم الحكام الرسالة التي بعثها حسين قبادي لهم، وأنه لن ينصاع لإرادتهم وجددوا حكم الإعدام الذي صدر بحقه عام 1950، وجرى تحويله إلى السجن المؤقت لينقل إلى سجن قصر بإنتظار تنفيذ حكم الاعدام عليه.
حسين قبادي في السجن المؤقت في طهران وبعيد الحكم عليه بالاعدام وقبيل تنفيذ الحكم في عام 1964
بعد أن أستمعت الى هذه الحكاية المثيرة لهذا الشخص العجيب بشجاعته وشهامته، رحت أدقق في هيكله ونظراته الثاقبة. وراح هو الأخر يتفحصنا بنظرات ملؤها الحنان والتعاطف خاصة بعد أن عرف إننا من العراق وأعضاء في الحزب الشيوعي العراقي.
ولابد أنه كان على دراية بالفاجعة التي حلت ببلادنا بعد إنقلاب 8 شباط المشؤوم. وعلى حين غرة قررت التوجه نحوه، وبدأت أتحدث إليه باللغة الروسية التي قدرت إنه يفهمها. سكت للحظة ثم بدت على وجهه إبتسامة خفيفة وقال بضع كلمات قصار وباللغة الروسية: "حافظ على شبابك؟"، وتوقف عن الكلام ولمّح الى عدم إستعداده لإستكمال الحديث. إحترمت إرادته وزاد تعلقي بهذا الرجل الذي مازال كالطيف يراودني بين فترة وأخرى في احلامي .
بدأ السكون يخيم على السجن وبدأنا نسمع ثقل أقدام الحرس وهم ينادون السجناء بالركون إلى النوم. تكدسنا جنباً إلى جنب عسى أن نحظى بغفوة أكثر مريحة من سابقاتها. وكنا نتطلع بفارغ الصبر إلى فجر الصباح لكي يتم نقلنا إلى سجن قصر مع سجناء سياسين وعاديين آخرين. كان التراكم غير المعقول للسجناء ناهيك عن الروائح والوضع الغريب في هذا السجن المؤقت يثير لدينا القرف والضجر.
لا أدري كيف مر الوقت، إذ سرعان ما تعالت صيحات الحرس وأصدائهم في كل زوايا السجن صباحاً وهم يأمرون السجناء والمعتقلين بالنهوض وتنظيف الأماكن لكي يتناولوا ما يمكن تسميته بالفطور الذي يتكون من قطعة من خبز أسود وقدح ماء حار ملون يقدمونه كشاي الفطور مع قليل من القند.
تجمعنا حول هذه المائدة العامرة لكي نتناول فطورنا بسرعة بعد أن تم إبلاغنا وعدد آخر من السجناء ومن بينهم حسين قبادي بالإستعداد للإنتقال إلى سجن القصر الذي سيكون محطتنا النهائية لحين محاكمتنا في المحاكم العسكرية.
يتبع[/b][/size][/font]