المحرر موضوع: نحو الذكرى العاشرة لرحيل المناضل توما توماس (8)  (زيارة 1345 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل نبيل دمان

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 895
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
نحو الذكرى العاشرة لرحيل المناضل توما توماس
(8)
نبيل يونس دمان

مقدمة : لدي الكثير من الذكريات والصور والاوراق للراحل الخالد ، كلما سنحت الظروف انشر بعضها ، يراودني امل جمعها وتوثيقها يوما ما ، وبالتنسيق مع اولاده الطيبين  . اود الان نشر صفحات من كتابي الموسوم ( الجبال ملاذ الاحرار ) الذي ينتظر الطبع .
     تواردت الينا اخبار الليلة الماضية المؤسفة ، حيث كانت مجموعة من الانصار ترافق القائد توما توماس ومعه عائلته واولاده ، حيث التحقوا في الجبال ايضا في الفترة الاخيرة ، وعند محاولتهم العبورالى منطقة وادي ( كوماته ) حيث مقر القيادة ، والعبور لا يعني عبور بحر المانش او جبال الهملايا ، بل الشارع المبلط الذي يربط قضاء زاخو بناحية ( كاني ماسي ) .
كل المفارز التي تغادر برواري الى كوماته وبالعكس يجب ان تعبر ذلك الشارع الذي تحرسه الربايا والسرايا والافواج العسكرية التابعة للنظام ، ويكون العبور ليلا وبحذر شديد خوف الوقوع في الكمائن . وقبل ليلة وقعت تلك المجموعة في كمين ، مما ادى الى استشهاد النصير ( شفان ) من قرية ( كامكا ) القريبة من دهوك ، وجرح آخر اسمه ( خه بات ) من منطقة ( شيلادزي ) من عشائر الريكاني ، وقد زرته في اليوم التالي في احد البيوت ، وكان يعاني من آلام مبرحة في ساعده .
في اليوم التالي جلست مع توما توماس ليسمع قصتي كاملة ، ها انا التقي مع ابن بلدتي ثانية ، بعد فراق دام اكثر من اربعة سنوات ، فعندما كان ابو جوزيف يتواجد في القوش اوالموصل ، كنت دائم اللقاء به ، فقد اعتدنا على لعب الشطرنج معا ، سواء في مقهى ( بتي دكالي ) امام الجمهور الذي كان يراقب باهتمام تلك اللعبة الجديدة عليه ، او في بيته الكائن في الطرف الغربي للبلدة ، ها انا التقي بالمناضل الكبير وقصته تظل ترويها الناس في كل مكان ، جيلا ً بعد جيل :
     كانت ولادته عام 1925 في بلدة صغيرة  يحتضنها جبل أشم ، تلك هي القوش التي يرجع تاريخها الى فترة الدولة الاشورية وهي في أوج عظمتها . دخل الابتدائية في مدرسة مار ميخا ببلدته عام 1930- 1931 ، وكان عدد صفوفها آنذاك اربعة فقط ومديرها سعيد ججاوي الياموري ( 1899- 1982 ) من مدينة الموصل . كانت عائلته ميسورة الحال نسبيا ً، حيث والده صادق يملك دكانا ً للاقمشة في السوق ، وكان ايضا ً مختارا ً لمحلة ( سينا ) عدة سنوات لرجاحة عقله وشجاعته ، ففي المنطقة وادي خاض فيه معركة ضد اللصوص وهزمهم ، فليس غريبا ً ان يطلق على ذلك الوادي ( وادي صادق توماس ) .
لكل تلك الاسباب كان التلميذ توما يرتدي احسن الملابس ، ووُهب عددا ً من الصفات المميزة ، لذلك كان نموذجا ً لمديره الذي يتحدث عنه في العرض الصباحي ليقول للتلاميذ : انه قدوة امامكم في ذكائه وهدوئه وحسن هندامه ، ويختتم حديثه بالقول ان مستقبلا ً رائعا ً بانتظاره .
     وكشفت الايام أي مستقبل صعب خبأته الاقدار لذلك الفتى ، وهو يطاوعه بإرادته الصلبة وذهنه الوقّاد . كانت امواج الحياة تتقاذفه وتحاول تحطيمه ، لكنه قاومها بشكل قل ّ مثيله . أكمل دراسته المتوسطة في مدينة الموصل عام 1941 .
وفي تلك الفترة كان الكثير من اقرانه يتلمسون طريقهم الى الجيش الذي اسسه الانكليز والمسمى ب ( الليفي ) ، وهكذا تقدم للانتساب اليه في عام 1942. بعد عدة اشهر من دخوله الجيش اصبح ضابطا ً ( رب أمّة ) وعلى مقربة من النقيب ( رَب تري أمّة ) ياقو أبونا ، والعقيد ( رب خيلَه ) زيـّا . لم ترق له الاوضاع في ذلك الجيش لتسلط الانكليز عليه فغادره عام 1949 بعد ان قضى سنواته في الحبانية وعبادان وطهران ، وقد سبق خروجه بسنتين ، اقدامه على الزواج من الفتاة الاصيلة ( ألماس  حسقيال زلفا ) .

الضابط في جيش الليفي توما توماس ، الحبانية عام 1947
   في نفس العام اي 1949 تقدم الى شركة نفط العراق ( آي . بي . سي ) في كركوك فعين محاسبا ً، وهي وظيفة محترمة في ذلك الزمان ، وهناك في مطلع الخمسينات تأثر بالفكر اليساري ، وساهم في النضالات العمالية داخل شركة النفط . بذات الوقت اقدم على امتحان خارجي لنيل شهادة الثانوية في كركوك ، فنالها بنجاح وتفوق .
     في اعقاب احداث كركوك الدامية عام 1959 ، تزايدت المضايقات عليه ، مما اضطر الى ترك وظيفته عام 1961 والرجوع الى بلدته ، ليسكن منزله الجميل في قلب محلة ( سينا ) . تردد بعض الاشهرعلى كركوك لاستلام رواتبه ، ثم انقطع نهائيا ً ، وشرع عام 1962 في انشاء معمل للثلج في قرية ( الشرفية ) التي تبعد عن القوش مسافة ( 5 ) كم جنويا ً .
     تعقدت الاوضاع وظهرت الاخطار في الافق ، واصبح في بعض الايام يترك معمله وبلدته الى الجبل ، مراقبا ً الامور عن كثب ، وخصوصا ً بعد اشتداد القتال بين حكومة عبد الكريم قاسم والحركة الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني . غداة وقوع الانقلاب في 8- شباط- 1963 ، رفع السلاح ضده ، فالتف حوله المناضلون ، وخاض اولى صداماته مع سلطة الانقلابيين ببطولة نادرة ، وبمؤهلات عالية في تنظيم العمل العسكري ، وقد إتخذ من دير( الربان هرمزد ) الاستراتيجي مقرا ً له .
 
مجموعة من رجال توما توماس الشجعان خلف دير السيدة قرب القوش عام 1963
     ختمت الحكومة معمله بالشمع الاحمر ، واحرقت سيارته امام معمله في الشرفية وسحبتها الى مركز شرطة البلدة ( قشلة ) ليبقى هيكلها هناك فترة طويلة ، كذلك هجرت عائلته واطفاله مرارا ً الى القرى الايزيدية المجاورة ، فكانت موضع الرعاية والاهتمام الكبيرين ، وفي تلك الظروف الصعبة ولد ابنه الصغير ( سردار) وقبله ولد له الاولاد ( جوزيف ، سمير ، صلاح ، منى ، منير ، وماريا ) . احرق منزله مرارا ً ، وفي كل مرة كانت نساء بلدته يهرعن لاخفاء الاشياء المهمة ، كما وكن يعوضن ما يمكن تعويضه من بيوتهن الخاصة .
     عُرض البيت للبيع في المزاد عدة مرات ، بأيعاز من السلطة ، وكان الدلال يقطع سوق البلدة ذهابا ً وأياباً عارضا ً سعره باقل ما يكون ، دون ان يلق النداء آذانا ً صاغية ، فبقي البيت في مكانه رمزا ً على مر السنين . وفي كل الفترات كان مراقبا ً من ازلام السلطة . حين ورود خبر وفاته ، فتح على مصراعيه ليستقبل المئات من المعزين ، قبل ان توصده السلطة ، وتوقف مراسيم التعازي تلك .
     بين فترة واخرى كان يتم التوصل الى وقف لاطلاق النار بين السلطة والحركة الكردية  ، فيظهر ابو جوزيف في بلدته علنا ً ، وهو في ملابس الثوار مع رجاله الشجعان ، وهم موضع الحفاوة والاستقبال من قبل الاهالي .
في مجرى الصراع الدائر والصدامات العسكرية ، نال شرف الشهادة العديد من رفاقه ، فدفنوا في المتون والوديان وسفوح الجبال ، وقسم منهم لا زال مثواهم شاخصا ً في أجمل مكان من دير الربان هرمزد وهم : بطرس جركو ، كوريال هرمز ، حنا عقراوي ، وشقيقان من قرية ارادن . كانت بلدته بخاصة تمده بدماء شابة جديدة بين فترة واخرى .
     تعرض لمحاولات اغتيال عدة ، وارسلت السلطة الكثير من المرتزقة والمأجورين لذلك الغرض ، وفي كل مرة كان ينجوا بحكمته وشجاعته . في عام 1968 ، جاء سعدي أغا الزاويتي مع قرابة المئة من افراده للقبض عليه في سوق البلدة ، وبدل ذلك وقع الأغا في أسره . وايضا ً في عام 1969 ، كيف قـُبض على المندس حسن جندي ، في المقر الكائن آنذاك في قرية ( بيرموس ) خلف جبل القوش ، وهو يشهر مسدسه لاغتياله .
 
البيت الاول من اليمين ، دار توما توماس في القوش
     خصصت السلطة مبالغ ضخمة لمن يأت به حيا ً او ميتا ً ، وفي معركة 27- 7- 1969 ، والبلدة محاصرة من كل جهاتها ، استطاع ان ينجو من الحصار وهو يخوض معركة جريئة ، مكبدا ً المهاجمين خسائر فادحة ، والعملية تلك ذاع صيتها في كل مكان فيما حصد العدو مرارة الفشل والخيبة.
ومن جانبه خسر احد رجاله الشجعان وهو الشهيد صبري الياس دكالي . ظنت السلطة بانه لقي مصرعه ، فجرى اتصال سريع بقائد الفرقة عبد الجبار الاسدي والذي توجه فورا ً بطائرة مروحية الى سهل القوش ، وابتدأ يقارن بين صورة توما توماس في يده وبين الشهيد ، وهو يميل الى الشك في المسألة ، مما حدا به لاستدعاء القس المرحوم عبد الاحد عوديش ، والاستفسار منه ان كان القتيل توما توماس ، فضحك القس قائلا ً بان القتيل شاب اصغر عمرا ًبكثير من توما توماس ، فامتعض الضابط ، وصرف القسيس بكلام لا يليق برتبته وشرفه العسكري ، لكن ذلك التصرف طبيعي جدا ً في عرف واخلاق السلطة الحاكمة .
     غادر العراق في نفس العام اي 1969 الى الاتحاد السوفيتي ، لكنه عاد في نهاية عام 1970 ، وفي ذكرى بيان 11- آذار 1971 ، ظهر لاول مرة في بيادر محلة ( قاشا ) ، فألقى كلمة بين حشد من الحاضرين اللذين صفقوا له ورحبوا به اجمل ترحيب ، بعد فترة غياب خارج الوطن .
     بعد تموز 1973 ، انتقل عمله الى داخل مدينة الموصل بمقر حزبه ، سواء في شارع النبي جرجيس او في الدواسة ، هناك عرفه أهلها عن قرب محبا ً للكادحين ، ذو قلب كبير يحمل همومها . في احيان كثيرة كان  يقطع الطريق من المقر الى بيوت اقربائه في منطقة ( الساعة ) مشيا ً على الاقدام ، بالرغم من تخصيص سيارة فولكا له من الحزب ، ليطلع على اوضاع الناس ويتحسس نبض الشارع الجماهيري .
     لم يدم الحال طويلا ً ، بل كانت سنوات عانى فيها المناضل وعاش متحملاً ضغوطات الحزب ( الحليف ) وخروقاته وعنجهيته . في نهاية عام 1978 اشتدت مطاردته من قبل السلطة الجائرة شأنه شأن عشرات الآلاف في طول البلاد وعرضها ، لكنه استطاع ان يتخلص من الاعتقال ويمضي بصحبة مجموعة من اشد رفاقه جرأة واندفاعا ً الى معاقل الجبال الحصينة عند الحدود الايرانية . هناك اصبحوا في ضيافة الفصائل الكردية التي سبقتهم في خوض حرب العصابات ضد الدكتاتورية .
     رفع السلاح مجددا ً ، وبعد فترة نقل مقره الى منطقة بهدينان التي يعرفها جيدا ً ، وقاد عمليات الانصار مرة اخرى بدرجات اعلى من التطور والاستفادة من التجارب السابقة ، فالتحق به عشرات المناضلين من خارج الوطن وداخله . انتقمت السلطة منه عام 1981 عندما اعتقلت  ولده منير ( مواليد 1955 ) ، وهو يقوم بعمله كموظف صحي في منطقة ( الحضر) ، وضيعته الى يومنا هذا. وكذلك تعرضت اسرته للمضايقات المستمرة من دوائر الامن في القوش والموصل ، حتى اضطرت في اواسط 1982 الى الالتحاق بالجبال وتحمل مشاقها وصعوباتها .[/b][/size][/font]