المحرر موضوع: في الذكرى الثانية والعشرين لإستشهاد الدكتور محمد بشيشي الظوالم - الجزء الثالث  (زيارة 1583 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Balqis Alrubaiy

  • عضو جديد
  • *
  • مشاركة: 3
    • مشاهدة الملف الشخصي
في الذكرى الثانية والعشرين لإستشهاد الدكتور محمد بشيشي الظوالم
( ابو ظفر )
الجزء الثالث
بلقيس الربيعي
ستبقى حاضرا رغم الغياب

لا اعرف كيف أبدأ ومن أين , لكي أصف ما أحسه منذ رحيلك حتى اللحظة , إذ لن تكفي كل الكلمات الموجودة في الآرض للتعبير عما تركه غيابك العاصف في حياتي , ولا لوصف ما أحسه تجاهك , فما بيننا يا أبا ظفر ليس كما بين الناس ..ما بيننا تأريخ طويل ...زمن تكتظ وتتناغم فيه الذكريات والصور الرائعة الجمال ، عن حبنا الذي عمدته الحياة بأنفاسها الخالدة ... إن جذوة هذا الحب لازالت وستبقى تتوهج في قلبي وفي ضميري . فهو تاريخي بل أجمل ما فيه لآنك كنت رمزاً لكل شيء أعشقه وأعتز به .

لقد كنت يا ابا ظفر إنسانا بمعنى الكلمة ، وقد اتسمت حياتك بالتواضع والبساطة مما جعلك قريبا الى كل من تعرف عليك وعمل معك . لذلك ستظل وستبقى حاضرا في ذاكرة من احببتهم وأحبوك ، وها هم رفاق دربك يتحدثون عنك وكأنك بينهم .
¤¤¤¤¤¤¤¤
أبو حسن ( قامشلي )

" معرفتي بالشهيد الدكتور ابو ظفر ليست بطويلة ، إنها فترة قصيرة نسبيا ، لكن رغم قصرها فقد تولدت عندي إنطباعات جيدة عنه ، وحملت تلك الفترة القصيرة في طياتها مشاهد جميلة وظريفة لهذا الإنسان الرائع ، اسميه الرائع لا مجاملة لإحد ولا لأنه استشهد ببطولة ،لكن هي الحقيقة . إنه إنسان واضح وصافي لاتشوبه شائبة ، وبعيد عن اللف والدوران ،لذا لم ألق صعوبة في معرفة دواخله ونمط تفكيره .علاقتي معه كانت لطيفة يسودها احترام وحرص متبادل .لم اجد (واعتقد حتى الآخرين ) لم يجدوا الصعوبة لمعرفة جوهر ومعدن هذا الإنسان ، صفاته كانت تبرز بشكل جلي لمن هو حوله من خلال طيبته وعلاقاته الحميمة مع الآخرين ومن خلال الخدمات والعون الذي يقدمها لهم . إضافة الى تواضعه وصدقه فقد كان قريبا الى قلبي لصفات اخرى يمتاز بها ، الا وهي قلة الأقوال والإختصار فيها وكثرة الأفعال والتوسع فيها ، وهذه الصفة كنا بحاجة ماسة لها في تلك المرحلة من نضال حزبنا . كان يختصر في الكلام ويركز على جوهر المواضيع التي تطرح عليه دون الإسراف في إسداء النصائح والدخول في المتاهات . كان يعمل بجهادية عالية في المهام التي توكل اليه وبنكران ذات ،علما أنه كان ضيفا في محطة القامشلي حيث ينتظر موعد التحاقه بالأنصار في كردستان . حين أقول له " ارتاح قليلا يا دكتور ! " يكون رده دائما " الزمن يحث الخطى وعلينا اللحاق به " . خلال فترة تواجده القصيرة في القامشلي ذاع صيته بين العوائل السورية وخاصة عوائل رفاق واصدقاء الحزب الشيوعي السوري لأنه كان يتفقد وبشكل مستمر احوالهم الصحية أضافة لرفاق حزبنا ،واخذ البعض يسميه (جيفارا العراق )
لقد مرّ زمن طويل على تلك الفترة إلا أن ذاكرتي ربما تسعفني الآن بمجموعة من المشاهد أجدها طريفة ومعبرة بالرغم من بساطتها ،تلقي الضوء على جانب بسيط من حياة الشهيد ابو ظقر في تلك المدينة الصغيرة . إنها ليست مشاهد عن معارك الأنصار البطولية ودور ابو ظفر فيها ، إنما حياته في تلك المدينة حيث كان ينتظر السفر الى كردستان . فقد إستطاع خلال فترة الإنتظار أن يقدم الخدمات الجليلة لرفاقنا وللعوائل السورية الفقيرة .

المشهد الأول


في السنوات الاولى لتواجد رفاقنا في القامشلي والذين ينتظرون العبور الى كردستان ، كانوا يتوزعون على بيوت رفاق وأصدقاء الحزب الشيوعي السوري وبعض الأحزاب الكردية الصديقة. كانت اغلب تلك العوائل من العوائل الكادحة لكنها كانت سخية وكريمة ( بالمناسبة العوائل الفقيرة كانت اكثر كرما من العوائل الغنية ) ، وخلال تواجد الشهيد الدكتور ابو ظفر دشن لنا مراحل جديدة ، وهذا يسجل له ،كان يزور رفاقنا في هذه البيوت ليتفقد احوالهم الصحية ويقدم لهم العلاج والأدوية وكان لايتوانى في تقديم العلاج للعوائل التي تحتضنهم .وتوسعت هذه العملية لتشمل جيران تلك العوائل ( بالمناسبة نصف اهل القامشلي اقرباء بعضهم البعض )، فكثرت مهام ابو ظفر ، فتراه مشغولا طيلة النهار يتنقل من حارة الى حارة ومن حي الى حي ، فأصبح ابو ظفر معروفا لدى الكثير من هذه العوائل التي تثق بالأطباء العراقيين بشكل كبير خاصة إذا عرفوا إن لهذا الطبيب خبرة طويلة وهذا متوفر عند ابو ظفر .
في احد الأيام ارسل المرحوم عثمان إبراهيم ( ابو شهاب ) سكرتير منظمة الجزيرة للحزب الشيوعي السوري احد الرفاق السوريين يطلبني على جناح السرعة . سألت الرفيق السوري مازحا " ماذا يريد الرفيق ابو شهاب ؟ يبدو اكتشف طريق جديد للعبور ." عندما وصلت الى بيت المرحوم ابو شهاب ودخلت غرفة مكتبه ، رأيت مجموعة من الأطباء جالسين عنده . كنت اعرفهم جميعا ولي علاقات طيبة معهم وهم الذين يجمعون لنا الأدوية ويقومون بعلاج رفاقنا من ابسط حالة الى العمليات الجراحية الكبرى وفي الحالات الطارئة سواء في المستشفى أو في عياداتهم الخاصة . عندما دخلت القيت التحية وقلت مازحا " خير إن شاء الله يبدو رفاقنا راح يتطوعون في صفوف انصارنا في كردستان "اجابني ابو شهاب بمزاحه اللطيف قائلا " تعال اجلس شكلنا محكمة لمحاكمة قاطعي ارزاق الناس ! إن لدى هولاء الأطباء شكوى ، وهي إنه لديكم طبيب اسمه ابو ظفر يزور العوائل السورية ويعالج مرضاهم مجانا وهذا يؤثر على وضعهم الإقتصادي لإن خلال هذه الفترة قلّت مراجعة الكثير من هذه العوائل لعيادات هولاء الأطباء . نرجو أن تتوقفوا عن هذه المسألة . شعرت بالخجل واعتذرت للأطباء وابو شهاب ووعدتهم بالتوقف عن معالجة تلك العوائل . وقال احد الأطباء مازحا " سنشكل نحن الأطباء هنا مفرزة ونأخذ طبيبكم الى كردستان .
غادرت بيت ابو شهاب وبصحبتي رفيق سوري كان يعمل معنا وطلبت منه البحث عن ابو ظفر . وفي غضون ساعة التقيت بأبي ظفر في احد البيوت يعالج مريضة كبيرة في السن ،وكعادته بان الإندهاش على وجهه وسألني " خير ابو حسن ؟! " اخبرته بكل ما جرى وطلبت منه التخلي عن هذه المهمة الإنسانية كي لا نفسد العلاقة مع الأطباء السوريين لأننا بحاجة لهم . إستجاب للطلب بتفهم وعلقّ قائلا " والله من حقهم أن ينصبوا لي كمينا ويغتالوني لأن هذه مسألة ارزاق ، ولو إني قمت بذلك من باب رد بعض الجميل لرفاقنا السوريين الذين قدموا الكثير لرفاقنا خلال فترة الكفاح المسلح " جمع ابو ظفر ادواته الطبية وعاد الى البيت الذي يسكنه وفي داخله شعور بالألم والإنزعاج بأنه أثرّ على ارزاق الأطباء السوريين من جهة ومن جهة ثانية حرم من تقديم الخدمات الطبية للعوائل السورية الفقيرة ممن احتظنوا رفاقنا بكل طيبة وقاسموهم لقمة العيش رغم ظروفهم الإقتصادية الصعبة .

المشهد الثاني

بعد أن إزدادت مهام الشهيد ابو ظفر في التنقل بين البيوت ولتسهيل عمله ، اشترينا له دراجة هوائية لإستخدامها في تنقلاته . وفي أحد الأيام الماطرة وكنت خارجا من أحد بيوت حارة بنغلاديش ، رأيت شخصا في الجانب الآخر من الشارع يحمل دراجة هوائية على كتفه ويسير في الوحل . وبعد التمعن في ملامح الرجل عرفت أنه ابو ظفر ،ولحقت به . سألته " ما هذه يا دكتور ؟ " وأجاب كما ترى ، ابن اخ سعيد مريض وذهبت لمعالجته ،وبسبب الوحل ومياه الأمطار لا استطيع أن أسير بالدراجة ، لذا حملتها على كتفي . اقترح أن تشتروا لي مطية كي اركبها فهي الوحيدة التي تستطيع السير في وحل حارة بنغلاديش . ضحكنا كثيرا وتخيلنا منظر الدكتور ابو ظفر وهو يمتطي الحمار وخلفه اجهزته الطبية متنقلا بين احياء القامشلي لمعالجة المرضى . بالمناسبة حارة بنغلاديش حارة فقيرة ويسكنها الكثير من رفاق الحزب الشيوعي السوري . إن الاسم الرسمي للحارة هو الثورة ، لكن سميت بنغلاديش لأنها كانت اراضي زراعية غير مفروزة للسكن . وفي احدى سنوات الجفاف جاء اهل القرى وعمروا البيوت فتحولت الى حارة كبيرة ، لكن الحكومة قررت هدم هذه البيوت . وبعد الأخذ والرد الذي دام سنوات ،قررت الحكومة التخلي عن قرار الهدم وتمليك تلك البيوت الى أصحابها وصادف ذلك اليوم هو إستقلال بنغلاديش لذا سميت بحارة بنغلاديش . وتحيط هذه الحارة مجموعة من الشوارع بأسماء جميلة منها شارع السياحة ، شارع الكورنيش ، شارع المطار وهي اسماء على غير مسمى .

المشهد الثالث

كان الأطباء المتعاطفون معنا يمدون يد العون والمساعدة في جمع الأدوية لإرسالها الى انصارنا في كردستان ونحن بدورنا نقوم برزمها وإرسالها الى هناك . وبعد مجيء ابو ظفر أخذ على عاتقه مهمة فرز الأدوية المهمة جدا ورزمها ليتسنى لنا ارسالها مع المفارز الى كردستان أما المتبقي منها فيتلف كان ابو ظفر يجد لذة حين يفترش الأرض وحوله الأدوية ،احيانا كان يقرأ أسماء الأدوية بصوت مسموع ، هذا للاتهابات ، هذا لإآلآم الظهر ، هذا للاسهال و.. و...الخ .
وحدث في احد الأيام ان العائلة التي اسكن معها لديهم مجموعة من الأطفال ،بينهم طفلة عمرها سبع سنوات مرضت وارتفعت درجة حرارتها مع إنتفاخ شديد في البطن، كما أنها فقدت النطق . ارسلت الإبن الأكبر في العائلة لإستدعاء الدكتور ابو ظفر ولكي اشعره بأن الحالة خطرة كتبت له ورقة راجيا منه الحضور باسرع وقت . وفعلا وفي ظرف نصف ساعة كان ابو ظفر بيننا ، وكعادته كانت علامات الإندهاش على وجهه وسألنني " خير ابو حسن !"وقلت الطفلة امينة على وشك الموت .وبعد فحص الطفلة والإستفسار من اهلها ، توصل ابو ظفر الى أن الطفلة بلعت كمية من حبوب منع الحمل التي كانت موجودة ضمن الأدوية غير المعدة للإرسال . وبرفقة ابو ظفر اخذنا الطفلة الى المستشفى لغسل معدتها ، وتم إنقاذ الطفلة . وبعد الإطمئنان عليها قال ابو ظفر مازحا " يظهر ان الطفلة واعية ومتعاطفة مع المنظمات الدولية التي تطالب بتحديد النسل ،لذلك اخذت الأحتياطات من الآن ." ولج بنت البلابوش هي مصقول خو مو مصقول ." والتفت الى والد الطفلة ومدّ له مبلغ 50 ليرة سورية وقال : " روح اشتري لها بعض الحلويات كي لا تبلع حصوات وتظنها مصقول ."

المشهد الرابع


في احد الأيام بعد عودته من اليمن ، ذهبت والدكتور ابو ظفر الى مدينة المالكية وهي مدينة سورية تقع بالقرب من الحدود السورية التركية ويسكنها الأكراد المسيحيون .وفي تلك المدينة زرنا احد الأطباء السوريين ولديه عيادة خاصة . رحب بنا وعرفته بالدكتور ابو ظفر ورحب به ترحيبا حارا وكأنه يعرفه منذ زمن طويل . استفسرت من الطبيب فيما اذا سبق وان تعرف على الدكتور ابو ظفر واجاب بأنه سمع عنه الكثير . بدأت واياه الحديث في مواضيع شتى وانشغل ابو ظفر بمعاينة بعض الأجهزة الطبية في العيادة . استغل الطبيب إنشغال ابو ظفر وهمس لي ( طبعا بمزح ) " الدكتور ابو ظفر جاي يسكن في المالكية ؟" واجبته بالنفي وتنفس الصعداء ، وقال " يعني ما راح نسكّر ( نغلق ) العيادة " وصل ما قاله الى مسامع ابو ظفر ، فإلتفت اليه قائلأ " شنو قابل آني بعبع وأخيفكم ! " أجابه الطبيب " لا يا خي ، انت مانك بعبع ، بس لو رشحت نفسك لمجلس بلدية القامشلي لكنت قد حصلت على جميع أصوات الناخبين ونصبوك رئيسا لمجلس البلدية . يا خي انت محبوب وكل الناس بيحبوك هون ، يعني شهرتك اكثر من شهرتنا . " والتفت لي وقال " ما دام الدكتور ابو ظفر لن يسكن عندنا في المالكية سأعزمكم على الغداء في مقصف البلدية ( وهو مطعم معروف في المالكية )وفعلا تناولنا الغداء في المطعم سوية .

وبعد ايام من إستشهاد الدكتور ابو ظفر التقيت بالطبيب السوري واخبرته بنبأ إشتشهاد ابو ظفر ووقع الخبر عليه كالصاعقة وتألم كثيرا وقال " والله كأني فقدت صديقا اعرفه منذ سنوات طويلة ." وكال له بالمديح وقال " يا خيو إنه جدي ومزوح ! "
يتبع[/b][/size][/font]