المحرر موضوع: ذاكرة قرن  (زيارة 1134 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عدنان الصائغ

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 11
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ذاكرة قرن
« في: 13:09 27/07/2012 »
ذاكرة قرن



عدنان الصائغ
شاعر من العراق مقيم في لندن




أنتم لديكم الدبابات، أما أنا فأملك الأناشيد.
الشاعر الموسيقي ميكيس ثيو دوراكس
  - قائد المقاومة اليونانية -

لولا المشقةُ ساد الناسُ كلهمُ    
                            الجودُ يفقرُ والإقدامُ قتّالُ
المتنبي

وفي لقاء خاص بين ماركيز ومحمود درويش أسرَّ الروائي الكولومبي بأن الكثير من وقائع يوميات نيرودا "أشهد أنني قد عشتُ" هي من اختلاق مخيلة ورؤى شاعر كان عظيماً حتى الإسطورة.
حيدر حيدر

وأحسرتاه كلما أمعنت في قراءة الكتب تألم جسدي واستثيرت كوامن شجنه.
غالمار سودبرغ

كذبوا فملء فم الزمان قصائدي
                        أبداً تجوبُ مشارقاً ومغاربا
تستلُّ من أظفارهم وتحطُّ من
                           أقدارهم وتثلُّ مجداً كاذبا
أنا حتفهم ألج ُ البيوتَ عليهمُ
                      أغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا
                                     الجواهري


إنها حقاً ذاكرة قرن بكل ما حمله من اضطرابات وتقلبات وحشد أحداث وخضم معارك أدبية وسياسية، أرّختْ لأجياله المتعاقبة خلاله، تاريخاً مضطرباً ترك بصماته على ما مرَّ وما سيأتي من سنواتنا المرّة، كان فيها الجواهري، بطاقيته التي لا تفارق رأسه، شاهداً على ذلك العصر، مساهماً فيه، ومبحراً في لجته. مرةً تلقيه الأمواج على جروف المنفى، فينشد لدجلة:
حييتُ سفحك عن بعد فحييني   
            يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ضمآنا ألوذ به
           لوذ الحمائم بين الماء والطين
يا دجلة الخير يا نبعاً أفارقه
         على الكراهة بين الحين والحين
ومرةً يكون في خضمه، مخضّباً بالأحداث، ينشد على "جسر الشهداء" في بغداد، مرثيته لأخيه الذي سقط برصاص الاستعمار:
أخي جعفراً لا أقول الخيال     
           وذو الثأر يقظان لا يحلمُ
أرى أفقاً من نجيع الدماء
             تلّون وازورتِ الأنجمُ
وحين تنوخ به الأيام المثقلة على أعتاب السبعين، نسمعه ينشد:
أرحْ ركابك من أين ومن عثرِ     
        كفاك جيلان محمولاً على خطرِ
كفاك موحش درب رحت تقطعه
               كأنَّ مغبره ليل بلا سحر
ويا أخا الطير في وِردٍ وفي صدرٍ
         في كلِّ يوم له عش على شجر
لكنه لا يجد – وهو البعيد عن وطنه – ركناً هادئاً يستريح فيه قلبه المعنّى، حتى إذا بلغ الثمانين أنشد يغني:
يا للثمانين ما ملت مطاوحها
          لكي يعاودها خوف من الملل
وخلال تلك الرحلة الممتعة والشائكة التي اصطحبنا اليها د. عبد الحسين شعبان في حديث طويل مع الجواهري من خلل كتابه "الجواهري.. جدل الشعر والحياة" نرى "طائر العاصفة" – كما يصفه البياتي – يتدفق في الحديث عن حياته منساباً مع فيض نهر الذكريات فيمضي بنا في أزقة النجف ودروبها الضيقة ومدارسها الشعرية والدينية، فتىً يافعاً حفظ كتب النحو والبيان وعيون الشعر العربي القديم، وانطلق يقرأ قصائده التجديدية في المحافل الأدبية، لافتاً إليه الأنظار. ثم ليدخل حلبة الصراع السياسي في بغداد، لأكثر من نصف قرن:
لعل يوماً عصوفاً جارفاً عرماً...
       آتٍ فترضيك عقباه وترضيني
لكن الأيام ادلهمت في سماء العراق، فلم يعد يرى منها سوى أفق مخضب بالنجيع وشعب ينام على الجوع رغم الخيرات التي تتدفق بين يديه، فيكتب "تنويمة الجياع" ساخراً بمرارة مما آلت إليه الأوضاع السياسية:
نامي جياع الشعب نامي... حرستكِ آلهة الطعام
نامي على زبد الوعود    يُداف في عسل الكلام
وهكذا عاش العراق على زبد الثورات التي لم يجن منها سوى مزيد من القتل والسحل والتجويع والشتات، فلم يجد الجواهري وغيره من الشعراء المبدعين سوى الرحيل والطواف في المنافي.. والعجيب أنه ينشد عام 1958 وكأنه يرى حاضرنا الآن:
"أمشردون وأرضهم ذهبٌ... ومجوعون ونبتهم عممُ"
وصولاً إلى قصيدته تلك "يا بن الثمانين" التي نشرها عام 1982 وفيها يختصر الجواهري رحلة الطواف:
"وما تزال على رف الحبال به         
                       تلقى الحياة بحبل منه متصلِ
يا ابن الثمانين كم عولجتَ من غصصٍ      
                      بالمغريات فلم تشرق ولم تَملِ
كم هزَّ دوحَكَ من قزم يطاوله         
                        فلم ينلهُ ولم تقصر ولم يطلِ
يا صاحبي وحتوف القوم طوع يدي         
                    وكم أتتهم رياح الموت من قبلي
فكأنَّ قصيدته هذه مراجعة طويلة للنفس، ليأتي الحوار وكأنه شرح أو هامش لها، فنسمعه يقول عن نفسه: "في داخلي كثير من العناصر المتفجرة والتي تصل حد الغرور أحياناً. كل هذه دمرت جزءاً من حياتي".
أو كما يصف نفسه ببعض الأبيات، والتي خُطّت – فيما بعد - على شاهدة قبرة، هناك، في مقبرة الغرباء:
أنا العراق لساني صوته ودمي
                          فراته وفؤادي منه أشطارُ
وهكذا تكون قصائد الجواهري مرآة تعكس تأريخ العراق المعاصر، لا تاريخ حياته فحسب، بتفاصيله الكبيرة والصغيرة والغريبة( ). وحين يسأله المحاور عن التناقض هل هي سمة ملازمة للجواهري؟ فمن قصائد الاقتحام الثورية إلى قصائد المديح، هل هو ديالكتيك الطبيعة كما نسميه، تراه يقول:
"أنا ابن المتناقضات والتعارضات على كل المستويات. وأرغب في أن يقرأني الناس، ويعرفوني بذلك لأنني ولدت في بيئة متناقضة ولذلك ترى الصعود والنزول وهي حالة انسانية (......) ذقت ذرعاً بالبلاط الملكي الذي لم يسعني وفرّطتُ بالوزارة التي كانت الإشارات تأتيني لدخولها كمرحلة لاحقة فقد قررت الوقوف في صف الناس مرة واحدة وإلى الأبد. وقررت أن أكون شاعراً لا وزيراً او حتى رئيساً للوزراء (......) اخترت الشعر وكسبتُ نفسي والشعر. كان الخروج من الدائرة الصعبة "البلاط" يسبب إحراجاً لي. كان بقائي يعني اندثاري. وفي خروجي وجدت عوالم فسيحة ضاجة بالحياة والحركة والتناقض أيضاً.. أليس عجيباً هذا التناقض دخلت المجلس النيابي وأنا بعمر 29 سنة وتعرضت خلال حياتي لحملات شتم لاذع، دناءات وأراجيف، لكن ذلك ديدني في الحياة حيث كنت متحدياً معتداً بنفسي (......) عندما جئت إلى بغداد كنت وديعاً وذا عمامة صغيرة ووزني لا يزيد عن أربعين كيلوغراماً (.....) كان الجو السياسي مملوءاً بالنفاق والتزلف والخنوع لأصحاب المصالح العليا وكان الركض وراء المناصب دافعاً كبيراً للبعض أما المعارضات فلم تكن بمستوى المسؤولية وكان بعضهم يترك مكانه لمجرد التلويح له بمقعد في المجلس".
ونتعجب فما أشبه الأمس باليوم، وكأن التاريخ يستنسخ نفسه، لكن بصورة أكثر قتامة على مستوى واقع الحياة السياسية والاجتماعية – التي نعيشها اليوم - وعلى مستوى إطار الحرية الذي يؤطر الواقع أيضاً. فيذكر لنا الجواهري أن "القيامة قد قامت" عندما ألقى قصيدته (أبو التمن) في الحفل التأبيني الأربعيني للزعيم الوطني محمد جعفر أبو التمن عام 1946:
"وجدتُ في القاعة وجوهاً عديدة من الشخصيات والزعامات والحاكمين وفي المقدمة منهم نوري السعيد وهناك تفجر الغضب والتحدي العنيف وأتساءل الآن" ـ يواصل الجواهري ـ "كيف تحمّلوا ذلك؟ وكيف نشرت عدد من الصحف الوطنية ما قلته آنذاك:
قسماً بيومك والفرات الجاري      
                       والثورة الحمراء والثوارِ
وعرفتُ أن نوري السعيد قد أنسحب وأنا أواصل إلقائي:
خمسٌ وعشرون انقضت وكأنها      
                   بشخوصها خبر من الأخبار
ضقنا بها ضيق السجين بقيدهِ      
                 من فرط ما حملت من الأوزار
(...) ذهبت بعدها إلى الصحيفة وعلمت أن أمراً بإلقاء القبض قد صدر عليّ لكن الأكثر من هذا أن صحيفة الرأي العام نشرتها في اليوم التالي كاملة على صفحتها الأولى ولكنني عدت إلى البيت ولم يمسني أحد رغم أن إجراءات كانت تتخذ لتحريك الدعوى. ولك أن تتصور لو جرى مثل هذا الأمر الآن أو عشر معشاره ماذا ستكون العواقب.. هذه أسئلة علينا التفكير بها بعد تجربتنا الشاقة والمريرة"..
فعلاً أن عشرات من علامات التعجب يجب أن نضعها بعد حكاية الجواهري تلك..
وانظرْ إليه يتحسر على تلك الأيام الخوالي التي ثاروا على أوضاعها وحكامها، ليصلوا بنا أو لنصل إلى ما وصلنا إليه من حكامٍ أعتى ودكتاتورياتٍ أشرس وحرياتٍ أضيق وفقرٍ أدقع!!..
فهل كانت ثمرة النضال والدم والتضحيات أن نتحسر على ما ثرنا عليه، وهذه أولى الفواجع في قراءة تاريخنا المعاصر، تاريخنا الذي يحتاج منا جميعاً إلى مراجعات مخلصة واستلهام العبر والمعاني، مثلما يحتاج وطننا إلى جهود مخلصة وفكر متجدد ووعي خلاّق ومراجعة حقيقية وعمل دؤوب.. للقفز على كل ذلك التاريح الملتبس والدامي، إلى شطآن النور والسلام والتحرر والتقدم والجمال..

18/7/1997 مالمو( )

*   *   *





ــــــــــــــــــــــــ
(*) من كتاب "اشتراطات النص الجديد، ويليه، في حديقة النص" لعدنان الصائغ – عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2008 بيروت.