المحرر موضوع: جولي أمرأة من الماضي القريب  (زيارة 552 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل ميخائيل مـمـو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 696
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
جولي
أمرأة من الماضي القريب

بقلم : إيفلين عوديشو قليتا




أنه لكلام جميل أن يقال بأن عمر الأنسان رحلة, نعم قد أكون أنا واحدة من أولئك الناس , قد أختصر عمري في هذه الرحلة التي أخذتني الى أيام طفولتي سائحة في شمال الوطن , أتسلق الأشجار والوديان والمرتفعات مع أخوتي ونغمر ارجلنا في مياه العيون العذبة الجارية من بين صخور الجبال.
نعم هذه كانت طفولتنا وما كان يعنيه لنا شمال الوطن في تلك المراحل من حياتنا . أما أن آتي بعد سنين طويلة لأعود الى نفس البقعة من التربة التي مشيتها حافية القدمين وتسلقت أشجارها بحثاً عن الثمار لأقطفها , أعود اليها محملة بأحلام نسجها خيالي الواسع سابحاً في سماء الحب والجمال والشوق لكل شئ أسمه (وطن). هذه هي قمة السعادة لي . فقد وجدت الحُّب الذي حلمت به والجمال الذي رسمته في خيالي والشوق الذي أطفأته الأحضان التي استقبلتني حالما وطأت قدماي تربة الوطن.
كل هذا يأخذني الى الساعات الأولى من رحلتي الأخيرة الى الوطن , ففي الساعة الأولى من ركوبي الطائرة جلس الى جانبي شاب في العشرين من عمره ومعه صديق من نفس العمر , أحدهم ذو سحنة فاتحة تميل الى البياض والثاني كان أسمر اللون يميل الى سحنة داكنة, المهم في الأمر, سمعتهم يتحدثون الآشورية في اللحظة الأولى من جلوسنا على مقاعدنا , وربطنا أحزمتنا,  وحتى قبل أن تقلع بنا الطائرة . قلت في نفسي مبتسمةً لحالي (هههه, إذاَ لن تموت لغتنا الغالية كما يتشاءم البعض بهذه المقولة , ما زال فيها شباب يافع ينطق بها كهذين الشابين. أبتسمت وقلت لهم بأنني آشورية مثلهم ويسعدني أن ألتقي بشباب يافع مثلهم ويتحدث اللغة الأم بطلاقة , أخبرني الجالس بجانبي بأنه أصلاً من نوهدرا / العراق  وأسمه آشور, وزميله الجالس في المقعد الأخير بأنه اصلاً من تركيا من قرية تسمى حسَّن  أو (حسَّانه) وأسمه سركون أو سرخدون, على ما أتذكر, كتمت في نفسي الدهشة لعدة أسباب, أولاً لأنني لم أشأ أن احرجهم بإستفساراتي المتعددة, ولأنني لم أكن قد سمعت بهذا الأسم لقرية آشورية من قبل , أعادوا لفظ الأسم عليِّ عدة مرات حتى تيقنت بأنني الفظ الأسم صحيحاً . أستدركت نفسي وسألت (سركون) كيف له أن يتحدث الآشورية بطلاقة وهم من قرى آشورية في تركيا , فالمعروف لدينا بأن أبناء جلدتنا من تركيا يتحدثون باللهجة السريانية الغربية كما نطلق عليها أحياناً , أخبرني , بأنه قد ترك تركيا وهو طفل صغير بعد أن أُحرقت قريتهم حسَّن (حسَّانه) والتي يتحدث أهلها بلهجة قريبة جداً للآشورية التي نتحدث بها نحن , وهاجر سركون مع عائلته الى المانيا حيث كان قادماً منها الآن للأشتراك في أحتفالات أكيتو لهذا العام (6762 آشورية / 2012 ميلادية)  والأشتراك مع بقية الشباب الآشوري القادم من جميع أنحاء العالم لحضور أجتماع  أتحاد الطلبة الآشوري العالمي المنعقد في نوهدرا .
أخذتني فرحة الوصول الى الوطن بعد غياب سنين طويلة,  وفرحتي بلقاء الأحباب من الأصدقاء والأقارب والزملاء, وغمرت روحي بسعادة لا توصف وأنا أرى أبناء أمتي قد تنفسوا الصعداء بعض الشئ .
في غمرة من كل هذا, كانت لي مفاجأة أخرى ومن نوع غريب بعض الشئ التي أعادتني الى مقعدي في الطائرة والشباب الذي جلس بجانبي . هنا كانت التي جلست بجانبي أمرأة من الماضي القريب .
أسمها (جولي) , رضيعةٌّ وُلِدت من أبوين آشوريين في قرية حسَّن (حسَّانه) من جزيرة بوتان , عندما ذهب والدها لتسجيل أسمها, قال له الكاتب التركي, هذا أسم مسيحي, لا يصح أن تسميها به, من اليوم  يصبح أسمها (ﮔولي) فأصبحت تسمى (ﮔولي) بالتركي ومعناها (الوردة) .         التقيت بهذه السيدة العظيمة والغريبة عنّا جميعاً في إحدى الأمسيات في بيت أبن عمِّها في ناحية عين كاوة من مدينة أربيل . هذا ما روته لي في تلك الأمسية من ليال الربيع بعد عودتنا من أحتفالات الواحد من نيسان رأس السنة الآشورية.  (هنا تذكرت ما قاله لي (سركون) وهو أحد الشابين الذين جلسا معي في الطائرة بأنه غيَّر أسمه من أسم تركي الى أسم آشوري عندما غادر تركيا الى احدى البلاد الأوربية والتي كان قادماً منها لزيارة الوطن الذي ينتمي اليه, ولم يراه أبداً.) يبدو أنه كُتِب على شعبنا أن يعيش بغير هويته, فإما أن يُجبَر على تسمية ابنائه بأسماء الشعوب التي أحتلت أرضه, أو نحن نغير أسماءنا بأنفسنا جرياً وراء هويةٍ أخرى هرباً من واقعنا المرير.
المهم في الأمر أن جولي أمرأة قدمت الى العراق تفتش عن أقربائها الذين تعرف عنهم فقط ما سمعته من والدها الذي أوصى بها أن تفتش عن أقربائها الذين هاجروا الى العراق بعد المجازر الشنيعة التي تعرضروا لها بناءً على آوامر صادرة من السلطات التركية آنذاك في بداية القرن العشرين , وتتواصل معهم لتصون ذات القربى بينهم, ولتحتفظ الأجيال القادمة بصِلة الرحم هذه.
كانت جولي قادمة من بلجيكا, إبنتاها الإثنتان قد تزوجتا من شابين آشوريين، ولظروف خارج نطاق ارادتهم كانو قد تركوا مدينتهم عين كاوة وأستقروا في بلجيكا, وبعد جهد سنين طويلة وبالسؤال والأستفسار , علمت جولي بأن أبن عم والدها  يعيش في عين كاوة مع عائلته الكريمة. وعلى أثر ذلك شدَّت جولي الرحال مع إبنتيها وأزواجهم الى عين كاوة, وحلَّت ضيفةً على ابن عمها وعائلته .
جلستُ أحادِث جولي, متشوقةً لسماع حكاياتها الغريبة. في المقدمة كنت قد أخبرتكم بأنها أمرأة غريبة, لا تتعجبوا فهذه السيدة يمكن أن أصفها لكم بأن تكون في نهاية العقد الخامس من عمرها, ولكن الدهر قد أخذ منها مأخذه, فقد مرّت جولي بفترات عصيبة من حياتها , عانت ما عانته من الأمراض ومشاكل صحية عديدة الى أن أدت إحدى العمليات الجراحية التي أجريت لها لأستئصال الغدة الدرقية كانت نتيجتها أن بّحَّ صوتها بحيث أصبح من الصعب عليها التحدث بطلاقة ولو لدقيقة أو دقيقتين من دون أن تتوقف لتتنفس ثم تعاود الحديث مرة أخرى, وهكذا كان الأمر في غاية الصعوبة لي أن أستطيع ألتقاط  الكثير من الكلمات وخاصة أسماء القرى التي كانت تذكرها من دون مساعدة من إحدى بنات العائلة المضَّيفة . تقول جولي بانها عانت من تسع عمليات جراحية في فترة قصيرة, سألت الرب أن يمنحهها السلامة وخاصةً في صوتها لكي تستطيع أن تروي ذكرياتها ولو أنها مؤلمة وشهادتها لما جرى في القرى المجاورة لقريتها (حسًّانه) من جزيرة بوتان .
هكذا كانت روايتها الحقيقية والمؤلمة عن ما تتذكره جولي وما شاهدته بأم عينيها ما كان يجري للقرى الآشورية الواقعة ضمن جزيرة بوتان في جنوب تركيا .
بدأ الأمر بعدة سنين قبل بداية التسعينيات من القرن الماضي حيث أشتدت ضربات حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي التركية ضد السلطات التركية, والشعب التركي بأجمله , فوصل الأمر بالسلطات التركية أن تتبع المطاردين من متمردي حزب العمال الكردستاني في كل البقاع من الأراضي التركية, حتى وصل الأمر الى مطاردتهم في جزيرة بوتان مدّعيةً بأن أعضاء الحزب المُطارد يأخذون من قرى جزيرة بوتان مأوى لهم, أو أن آهالي هذه المدن و القرى يتسترون على متمردي الحزب. وهكذا وجدت السلطات التركية أن من حقها حماية مواطنيها من هؤلاء المجرمين في اي مكان كانوا وبأية طريقة ترتأيها, وكان من ضمن خططها أن تهجم على القرى الآشورية في جزيرة بوتان بعد أنصاف الليالي لتحَّوط كل قرية أو قريتين معاً حيث يرقد أهلها بسلامٍ وآمان في بيوتهم, ولا يصحون إلا على أصوات القنابل والأعيرة النارية تطلق عشوائياُ لإرهاب أهل القرية, ومن ثم إشعال النيران فيها لتتصاعد ألهبة النيران والحرائق من شتى أطراف القرية المحترقة بأشجارها وبيوتها, يحاول الأهالي الهرب بكل ما أوتوا من قوة وسرعة لينجوا بأنفسهم مع عوائلهم تاركين وراءهم كل ما يملكون, متاعهم اليومي , مدَّخراتهم , مزارعهم , محصولهم الذي أتلفته النيران , بيوتهم المحترقة, والأغلى من كل ذلك , أراضيهم التي ورثوها عن أجدادهم , ولدوا وتربوا فيها, سمُّوا بإسمها لآنها موطنهم الأصلي وهم من ابنائها  الأصليين, تتراءى لهم وأمام أعينهم, تُسلَب, تُنهَب وتُحرَق وهم غير قادرين على حمايتها .
يا ترى أين كانت منظمات حقوق الأنسان الدولية حينها ؟
هذه الجرائم لم تحدث في القرون الوسطى !!!!!!!!!!!!
بل حدثت قبل عشرين عاماً, في القرن العشرين الحضاري !!!!!!!!!!!!!!!
لقد أُحرِقت مئات القرى والأقضية في جزيرة بوتان في العقد الثامن والتاسع من القرن الماضي. بناءً على ما ذكرته هذه السيدة العظيمة (جولي).  فقد حدث كل هذا في نهايات الثمانينيات وبداية التسعينيات. أما قريتها حسَّن (حسَّانه) فقد أحرقت عام 1993 من قبل الأكراد, ثم سكنوها وعمَّروا فيها بيوتهم, وفي السنوات الأخيرة, سمع سكان حسَّن (حسَّانه) بأن الأكراد قد أستملكوا القرية, قدموا شكاوى الى الحكومة التركية التي كانت قد غيرَّت من سياستها تجاه سكان القرى الأصليين, وبعد أن أصدروا قوانين مدنية جديدة تعيد الحق لأصحاب الأرض الأصليين, حيث تم إخراج الأكراد من هذه القرى ليعود أصحابها بأستملاكها مرة أخرى .
أنها خطوة إيجابية لا يمكن التغاضي عنها, حيث قامت الحكومة التركية الجديدة بإعادة الأراضي لأصحابها ومعها تعويضات مالية عن الأضرار التي لحقت بهؤلاء الأبرياء نتيجة الهجمات العسكرية عليهم وما خسروه من موارد طيلة هذه السنوات .
بقي أن نذكر هنا أسماء البعض من مئات القرى التي أُحرقت في تلك الفترة المريرة من تاريخ أمتنا بناءً على ما ذكرته (جولي),  وأرجو أن أكون قد وفقت في كتابة هذه الأسماء بلفظها الصحيح حسبما سمعته من هذه السيدة الكريمة .        
أما عن بعض القرى التي تتذكرها جولي هي :
كرجوليا – هيرات – راويتا – شاغ – سوربطمار – ديريكه – دادار - كرقوندا نه – شيياسوره – طورمره وأخيراً حسَّن (حسَّانه) .
ما أثار أعجابي بهذه السيدة هو إصرارها على أن تعيش حياتها بكامل صورها, وحبها الشديد لقوميتها وتحدثها بلهجتها الأصلية , وعندما كانت تحس بأنني لم أفهم ماقالته , كانت تجد مخرجاً لها بأن تستعمل مفردات آشورية صرفة لإفهام مقصدها من الكلام , وحتى الآمور الأجتماعية والسياسية لأبناء شعبنا وما يعانوه في الغربة لم تكن خافية عليها .
ندعو الله أن يطيل من عمر جميع الأمهات الصابرات على مآسي الدهر, و نأمل ألا تطول معاناة شعبنا الذي لا زال يعاني من مآسي الهجرة والقتل والضياع .