المحرر موضوع: من أعماق السجون في العراق* /10  (زيارة 1137 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل محمد علي الشبيبي

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 164
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

من أعماق السجون في العراق*  /10


 
الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 –
1963
ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

14 آب، يوم تحدوا الموت
لولا الانهاك والجوع وتعب النهار، لما كان في مقدور السجناء ان يسقطوا أشلاء في جو الردهة الخانق اللاهب كأنه حمام ليناموا بضع ساعات، .... فما ان انتشرت انوار الفجر في الصباح الباكر من 14 آب حتى نهض السجناء –كعادتهم في أيام الحصار- فوضع بعضهم طاسات الطعام المعدنية (الفارغة) على رأسهم تجنباً للطابوق والحجارة، ومضوا إلى البئر، يملأون من مائها المالح برميلاً يعودون به إلى الرفاق.
ثم تناولوا "الفطور"! والفطور كلمة في غير معناها، .... وغاب عن ذاكرة المحاصرين حتى طعم عذوبة الماء، ماء دجلة الهادر كأنه الشلال من بوابات سدة الكوت.
.... الفطور، كما يعرفه الناس الاحرار الطيبون المثمرون، اشراقة حلوة من الحياة، بعد سبات وراحة، اشراقة ترتسم معها خطوط منهج النهار من عمل ونشاط ومسرة. وتغذي حياة البيت الهانئة وضحكة الاطفال وابتسامات الزوجة ودعاباتها، وحدب الأم، ورقة الأخت، تغذي ذلك المنهج بالقوة والعزيمة. فيخرج الانسان الطيب المثمر من بيته إلى العمل، العمل النافع الخلاق، شاعراً بقيمته شاعراً بإنسانيته.
"الفطور" كلمة في غير مكانها، لأولئك المناضلين السجناء المحاصرين، لتلك الصفوة من خيرة أبناء الشعب العراقي (عرباً، واكراداً، واتراك وآثوريين، مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة)، ....
يفتح السجناء عيونهم المتعبة ليروا إلى برميل الماء المالح يحمله رفاق، وعلى رؤوسهم الطوس او القدور المقلوبة والى الوجوه الشاحبة الغاضبة المتجهمة والملابس الممزقة الوسخة يعلوها غبار معارك الطابوق والحجارة. فأية سحابة سوداء تخيم على القلب. وأي أفق مظلم يمتد أمام البصر، مع هذا الشيء الذي ما زال السجناء بحكم العادة وسموّ الروح المعنوية، يسمونه "فطوراً"!
أزدرد المناضلون كسراً صغيرة من "خبز" بلون الأرض، استعانوا عليه بجرعة من الشاي، ذلك الشاي الذي احتفظ باسمه دون مسماه ... وينتهي الفطور، وتبدأ معارك النهار.
 كل شيء يبدو اعتيادياً، صباح 14 آب 1953 فانصرف السجناء، وعلى رؤوسهم الطوس، إلى قضاء حاجاتهم وتصريف شؤونهم والسهر على سلامتهم، في النهار كما في الليل، من هجوم مفاجئ غادر لا يدرون من أين سيأتي. مضت ساعة، ساعتان، ثلاثة ..... ولا جديد في الميدان. ثم جاء جهاد حسين مدير السجن، على عادته، إلى الباب شاهراً مسدسه بيده، واضعاً الخوذة الفولاذية على رأسه من خلفة شلة من السجانة المسلحين. وصار ينادي ببعض الاسماء من السجناء طالباً خروجهم. فتقدم إليه ممثل السجناء وكرر على مسمعه، خلف قضبان الباب: ان السجناء السياسيين متمسكون بحقوقهم ومصرون على مواقفهم الوطنية الشريفة ....
ثار المدير ثورة جامحة، .... وبعد قليل طلع المدير والسجانون الى السطح والبرج وبدؤا حالاً بإطلاق النار. ابتدأ هو بإطلاق النار من الرشاش باسم متصرف لواء الكوت. وتبعه السجانة بنار بنادقهم. وظهر على الأثر، وراء قضبان الباب، المأمور (جبار علوان) وكان شاهراً مسدسه والى جانبه جماعة من السجانة المسلحين بينهم رئيس العرفاء قاسم، زكريا، سيضح، راشد، برغش، قمندان ... فصار الرصاص ينصب من كل جانب، من البرج والسطوح والباب. وقد استمر من الساعة العاشرة صباحاً حتى العاشرة وعشرين دقيقة.
كان اطلاق الرصاص مفاجأ، تلقاها السجناء بالهتافات:
نعيش كرماء أو نموت شهداء
لا نهاب الرصاص، لا نهاب الرصاص
الموت او حقوقنا العادلة
الموت للجلادين
الموت للخونة الجبناء
وسقط وحيد منصور. كان وحيد هدفاً سهلاً لمسدس جبار علوان، فقد كان واقفاً أمام الباب قرب النخلة حينما انهمر سيل الرصاص. فأصابته طلقتان، اخترقت الاولى رئته اليمنى والثانية جنبه الأيسر.
وسقط مناضل آخر جريحاً فانتزع رفاقه قميصه الملطخ بالدم ورفعوه على عمود قائم وسط الساحة ... للاحتجاج! ألا فاليرتفع القميص الملطخ بالدم، وليرتفع صوت البوق! لتسمع الكوت، ليسمع الناس، ليسمع العالم!
يا جماهير الكوت، يا جماهير شعبنا المجاهد، ان الخونة الجبناء اطلقوا علينا الرصاص ... سقط وحيد منصور جريحاً وسقط جريح آخر.
وبعد ثوان، أعلن البوق:
الشهيد صبيح مئير، اصابه المجرمون برصاصة نثرت مخه.
واستمر البوق يذيع انباء المجزرة.
كان السجان جعفر يصيح مبتهجاً، ويلوح بالبندقية: قتلته، قتلته!. فهو الذي قتل (صبيح مئير) بطلقة سددها إليه من مكانه على السطح. وكان صبيح واقفاً عند باب الردهة، فسقط جثة هامدة وتناثر دماغه. تناثرت تلك المادة الوردية الحية، تلك المادة الثمينة المفكرة –دماغ إنسان- على أرض القاووش، وعلق بعضها في الجدار وعلى ملابس الرفاق المعلقة على الحائط.
ثم جرح رفيق آخر بشظية في صدره وهو داخل القاووش، وتلقى غيره جروحاً من الرصاص والطابوق، وكسوراً في العظام. وانكسر أنف أحد المناضلين بضربة حجر في الوجه.
كان المناضلون شجعاناً شجاعة لا توصف في وجه الرصاص الغادر. فتحدوا الرصاص والموت ببسالة، وأحبطوا هجوم الشرطة والسجانين على الباب بدفاع بطولي مجيد، ومنعوهم من ان يقتحموا عليهم السجن، لارتكاب جرائم اكثر فضاعة وبشاعة.
وبعد فشل الهجوم على الباب، توقف اطلاق النار(1) فتوجه السجناء نحو الرفيق (وحيد منصور) الذي كان يصارع الموت بثبات ورباطة جأش. وكان الرفاق قبل ذلك قد حملوه، تحت الرصاص، من جوار النخلة الى داخل (القاووش) .... كان ينزف بغزارة، وملابسه وفراشه مضرجة بالدم، والجرح الذي في صدره ينفث هواء ساخناً كلما تنفس. كان وحيد منصور يتحسس الهواء الساخن على فوهة الجرح، ويبتسم لرفاقه. كان مثلاً للبطولة المجيدة، ساعة الاحتضار. كان الرفاق الذين أحاطوا به يسألونه عن حاله، فيجيب: أشكركم. حالتي جيدة، لا تحزنوا أيها الرفاق. هذا الطريق ... سبقني إليه فهد وحازم وصارم، وما انا إلا ضحية قضيتنا الكبرى.....
- لا يمكن ان ننسى قول رفيقنا فهد حينما صعد المشنقة "الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من المشانق"
وفي حالة من التأثر العميق، والانفعال، واللباث، طلب وحيد منصور (وهو عامل) من رفاقه، ان يحضروا له مطرقة. فاخذ المطرقة بيده وأسندها الى صدره، وصار يهتف بقدر ما تسمح قواه الواهنة: تعيش الطبقة العاملة في العالم، تعيش الطبقة العاملة العراقية، تعيش الاحزاب الشيوعية، يعيش الحزب الشيوعي العراقي"
ورفع رأسه ناظراً إلى جرحيه وقال: "هذان وسامان. واحد من الحزب الشيوعي العظيم في الاتحاد السوفياتي، والثاني من حزبي الشيوعي العراقي"
ثم خارت قواه واضطرب تنفسه وصمت. ظن الرفاق ان وحيداً مات. فأعلن البوق: "الشهيد الثاني ... وحيد منصور". ولكن وحيد لم يمت. فقد استفاق ثانية وأصغى الى صوت البوق يعلن وفاته، فقال: "انا لا أموت، الشهداء لا يموتون. ذكراي ستبقى خالدة"
وطلب ان تكتب على قبره العبارة التالية: "وحيد منصور شهيد النضال، مات برصاص الاستعمار وخدامه الخونة المحليين الجبناء" وانهمرت الدموع من عينيه، فاعتذر بعد ان لاحظ وقع الدموع المحزن على رفاقه قائلاً: "انا لا أبكي ... ولكن الدموع تخرج من عيني"
وعاد الى المطرقة يهزها بيده ويقول: "ايها الرفاق فلنصمد حتى النهاية ... فالنصر لنا حتماً"
ثم طلب تصاوير أهله، فأحضرت له. وأخذ يتأملها من خلال دموعه: "بلغوا سلامي اليهم واحداً واحداً، بلغوا سلامي إلى أمي"
كان وحيد شاباً وديعاً طيباً، مليئاً بالعزم والإصرار. وسأله الرفاق: اتذهب إلى المستشفى؟ فقال: "إذا وافقتم ذهبت" فأخبروه انهم موافقون، وأخذوا يودعونه ويقبلونه واحداً واحداً، وهو يبتسم ويردد "أشكركم مع السلامة". كان وحيد منصور عاملاً من عمال الطباعة وفي التاسعة عشر من عمره.
ولما فرغ السجناء من وحيد منصور، توجهوا الى الشهيد صبيح مئير. فجمعوا نثار المخ ووضعوه بدل الزهور، فوق جثمانه، ثم رفعوا الجثمان .... في موكب مهيب، تحت أنظار المدير والسجانين الذين وقفوا على السطوح والأبراج، مشدوهين حائرين.
أية كلمات يمكنها ان تعبر عما يختلج ويتصارع في قلوب اولئك المناضلين وعقولهم، وهم يشيعون جثمان رفيقهم وعليه نشار المخ!؟ أية كلمات يمكنها ان تعبر عن الحب والحقد والعقيدة والثورة، غير تلك الكلمات التي دوت في زنزانات السجون منذ عشرات السنين ....... كلمات النشيد الاممي الخالدة "هبوا ضحايا الاضطهاد ..." وبعد انتهاء النشيد الاممي ساروا بالجثة إلى الممر فوضعوها ما بين الباب الداخلية والوسطى. وعادوا إلى وحيد منصور فحملوه على "بطانية" وساروا به وهو في النزع الأخير، فوضعوه إلى جانب جثة صبيح. ولما ابتعد السجناء رفع وحيد احدى يديه ......
"وداعاً. أيها الرفاق ..."
كان ذلك آخر ما تلفظ به العامل وحيد منصور. فقد نقله الجلادون (مع الجثة) الى المستشفى. ومات هناك.
استمر بوق السجناء ينادي جماهير الكوت ويحثها على المطالبة بالجثتين وتشييعهما، والمطالبة بإنزال العقاب الصارم بالقتلة المجرمين.
عاد السجانون إلى الاستفزاز والاعتداء، فهددوا في الساعة الخامسة من ذلك النهار بإطلاق الرصاص ثانية. وخاطب الشرطي (لطيف) ممثل السجناء، قائلاً: "سيأتي يوم نخرجك فيه من السجن، كما أخرجنا صبيح ووحيد". وفي نحو الساعة السابعة مساء، لخص البوق وقائع ذلك اليوم الرابع عشر من آب 1953(2) .........

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1)- في التقرير الرسمي الذي قدمته إدارة السجن عن الحادث، اعترفت أنها اطلقت 120 طلقة وهذا أدنى بكثير من الحقيقة.
(2)- بعد ثلاثة أيام في 17 آب 1953 وزع المتظاهرون في مظاهرة سارت في شارع الرشيد في بغداد منشوراً تضمن تلك الوقائع وطالبوا بمعاقبة المجرمين.

يتبــــــــــــــــع