الحياة الوظيفية للغتنا السريانية في البيئات المختلفة
بين التطور والفشل
ميخائيل بنيامين
مدرس اللغة والادب السرياني
اعدادية نصيبين السريانية / نوهدرا / العراقالمدخلتحية تقدير لكل المشاركين في هذا الحوار حول لغتنا السريانية ، حقيقة أراه من الحوارات المهمة التي قد تم طرحها لحد الان, والثناء لجهود الاعلامي القدير ولسن يونان والسيد يوحنا بيداويد لتبنيهم هكذا فكرة، لا سيما وانهم قد أستطاعوا اشراك نخبة جيدة من المختصين والضليعين بهذه اللغة أو بعلم اللغة بشكل عام، في الأقل نعرف بعضهم عن قرب وفي مقدمتهم البروفيسور اداورد أوديشو الذي يعتبر علما بارزا من أعلام شعبنا في مجال اختصاصه وله نظرياته الخاصة في علم اللغة والصوت وهو لا يعرض أفكاره وأرائه الا بالاستناد الى الرأي والتحليل العلمي لظاهرة اللغة وما يتعلق بتطورها او تعرضها للانحسار ودخولها مرحلة الخطورة، كما وهي أراء تستند الى خبرة علمية وعملية طويلة في تدريس هذا الاختصاص في جامعة مرموقة، وقد نشر البروفيسور اوديشو على ما أعتقد (تسع) مؤلفات قيمة في ذات المنحى وربما العاشر في طريقه للنشر، وكذا الحال بالنسبة للعلامة بنيامين حداد فهو غني عن التعريف لكل المهتمين بهذا الحقل وكما نعرف السيد عادل دنو وهو أحد الغيورين والمجتهدين في حقل اللغة وأفضل ما بدأ يفعله مؤخرا تأليف رويات بهذه اللغة، وان لم يسبق لنا ان التقينا الدكتور ليون برخو وجها لوجه ولكننا التقيناه عبر كتاباته على المواقع ونحن نرى ان فيها الكثير من العلمية ولغة البحث العلمي التي يحتاجها كثيرا شعبنا، بدل الانشاء والكلام الاجتهادي الذي يميز كتابات الكثير من كتابنا اليوم،وقد أعجبتني لهجته السهلية أكثر عند استماعي للبرنامج المسجل على الانترنت فتحية له وللمشاركين جميعا دون استثناء.
وقد كانت لمداخلات وملاحظات السادة المشاركين الآخرين بعد نشر محاور البرنامج من قبل السيد يوحنا بيداويد فائدة أخرى، ونتمنى أن تستمر كذلك وتبقى في صلب المحاور المطروحة وألا تتحول الى ما يخرج عن الموضوع الاساسي. فعلى سبيل المثال، فان الحديث عن دور كنيستنا ورجال الدين الأفاضل على مر الزمن وتحمل مسؤوليتهم بالامس واليوم في الحفاظ على هذه اللغة كانت وستبقى مسألة مهمة، لأن الحديث عن العلاقة بين كنيستنا ولغتنا غالبا ما يأتي من ناحية اعتبارنا مجموعة بشرية ذات خصوصية وهوية حضارية ولغوية كان وما زال قسم كبير من هذه المجموعة مرتبط ببيئة معينة، بينما القسم الآخر يتشتت بين بيئات مختلفة أخرى، فيتعرض الاثنين الى عوامل ومؤثرات تؤثر في تطور لغته وفشلها، وبالتالي فلا بد أن يكون للظاهرة اللغوية علاقة بالحالة الايمانية لأبناء هذه الكنيسة، أما الحديث عن الايمان كايمان فانها حالة تشمل المليارات من المسيحيين من مختلف الجنسيات والخصوصيات والبيئات ومن بينها مؤمني كنيستنا من الكلدان السريان الاشوريين، فهل يفترض بنا ان نربط أو نخلط بين الحالتين ؟؟
ومساهمة منا في هذا الحوار المهم، ننشر أدناه ترجمة عربية (من السريانية) لموضوع سبق وقدمناه في المؤتمر الخامس للغة السريانية الذي نظمه اتحاد الادباء والكتاب السريان في السليمانية عام 2008 ، لعلاقته حسب ما نراه بموضوع تطور اللغة وبعض العوامل المؤثرة في ذلك، وأدناه نص الترجمة:
يمكننا أن نشبه أية لغة في هذا العالم بمثل غرسة او شتلة قد تنمو في أرض خصبة او بأخرى فقيرة وصخرية، وتلك الشتلة يوم بعد آخر وبمرور الزمن سيكون لها عمقا وجذور بحسب التربة والارض التي تنمو فيها. وقد تتفرع عنها أغصان، وتنتشر فروعها في اتجاهات مختلفة ، ومن الممكن ان يختلط بعضها مع فروع شجرة أخرى ذات جذور أقوى أو تكون جارة لشجرة ذات أشواك، فتنموا لها فروعا لكنها ستنحصر بين الاشواك، وبعضها الآخر قد تقع تحت ظلال أشجار أخرى فتغطيها وتتركها بعيدة عن الضوء والشمس والهواء النقي، والوارد أن ينتشر البعض الآخر من الأغصان في جوانب مشمسة وبعيدة عن تأثير غيرها من الشتلات والاشجار، وستنموا بحرية واستقلالية وبلا أية حدود توقفها وقيود تأسرها.
حقا، هكذا نراها اللغة، فهي دائما وفي كل زمان ومكان تتأثر بالبيئة التي تعيش فيها.
ستتطور وتتوسع، عندما تستخدم ويتم التداول بها في مختلف مجالات الحياة وستضعف وتنحسر ان اقتصر استخدامها في مجالات ومستويات محددة، وستصل لدرجة الفشل كلما انحصرت في مجال ضيق.
بالاستناد الى هذه الحقيقة والواقع، فان سؤالا مهما يتبادر الى الذهن :
هل يتوفر للغتنا السريانية مثل هذه البيئة لتجعلها تتطور وتنمو وتتوسع ؟؟
أو ان لغتنا تعيش بين بيئات عديدة ذات خصائص مختلفة وعوامل قوية كانت وستكون سببا في عدم تطورها وضعفها؟؟ أو حتى الحفاظ على ما حفظناه الى اليوم لبعض الاجيال القادمة ليس الا؟؟
في اعتقادنا، ان الحاجة لهكذا سؤال ضرورة مهمة، من أجل أن نعطي دفعة وقوة لعملية التعليم السرياني في المدارس الرسمية ولبعض وسائل اعلام شعبنا هنا وهناك مع تجارب بعض المؤسسات الثقافية التي تحاول نشر لغة متطورة لتضم مفردات ومصطلحات في المجالات الحديثة والمختلفة للحياة اليومية.
خصوصا اذا ما وضعنا نصب أعيننا بعض الحقائق العلمية وحقائق من واقع أوضاع شعبنا وحال لغتنا، ومن بينها:
• ان أية لغة تنمو وتتطور بحسب الحاجة وضرورة التواصل والتحاور مع آخرين، كما تتغير وتنمو وتتطور بحسب تغير هذه الحاجة !!
فكم نحاول ان نجعل أو نستطيع أن نجعل لغتنا قادرة على، أو نجعلها تكون وسيلة لتلبية حاجاتنا المرتبطة بحياتنا اليومية البسيطة؟ كم بالحري ان خرجنا من نطاق عائلتنا الصغيرة وفكرنا بالمجتمع المحيط بنا او في عملنا الرسمي المرتبط بوظيفة حكومية ؟؟
• في الكثير من مناطق شعبنا (الكلداني السرياني الاشوري) فان (اللغة الهجينة) هي لغة أكثر قيمة من اللغة الأم الأصيلة والنقية، واذا ما بقي الوضع على حاله فان الاجيال القادمة ستطور هذه اللغة أكثر لتكون لغتها الاساسية.
• ان شعبنا ولغتنا في وضع، حيث للغتنا فائدة وقيمة أقل ، فيؤدي بمتحدثي هذه اللغة يبتعدون عنها ويحاولون ان يسدون فراغا وان يلبون حاجتهم للتواصل مع الآخرين ومع بعضهم البعض بلغة أخرى غريبة.
• أصبح شعبنا - المتحدث بهذه اللغة - في الوطن ( فكيف الحال لمن هم في دول المهجر) محاط بشعوب أخرى ذوات لغة أكثر قيمة اقتصاديا، لذلك فان متحدثي هذه اللغة مضطرون لترك لغتهم وتعلم لغة أخرى.
• عندما تنعدم الدوافع وتقل فرص التداول والاستخدام وتقل الوظائف بالسريانية ولا تكون لغة رسمية في منطقة معينة، كل ذلك سيكون سببا لضعف اللغة وفشلها، الى ان تصل الى درجة يكون استخدام اللغة زينة تراثية لا غير.
• لم يبقى لدينا اليوم في كل الوطن مناطق تتحدث السريانية كلغة وحيدة، بل اجمالا فان شعبنا أصبح ثنائي اللغة بل ثلاثي ورباعي، وبدون شك فان الاسباب هي هجرته من القرى الى المدن ومنها للخارج وبسبب زيادة الآخرين من الغرباء في أراضينا التاريخية.
• علينا ألا ننسى ان انتشار وتطور أية لغة لا تقاس جغرافيا فقط، بل بالوظائف التي تؤديها والحاجات التي من الممكن ان تلبيها في المستويات والحقول المختلفة، وطالما تبقى لغتنا (طبعا فيما عدا طلاب المدارس الرسمية) بعيدة عن كل حقول العلم والمعرفة الحياتية الجديدة مثل التكنلوجيا والسياسة والقانون وغيرها، فانها ستبقى محصورة ببعض المجالات مثل الزراعة وسيكون سببا للتقليل من فائدتها ومن قيمة استخدامها.
• في اعتقادنا، ان أية جهد ونشاط يهدف الحفاظ على هذه اللغة ليس فقط باعتبارها تراث وكنز ثمين، عليها أن تواجه هذه المعوقات والصعوبات:
- تشتت شعبنا وقلة نسبته السكانية (قلة عدده) .
- التهميش السياسي وغير السياسي وعدم الاعتراف والاقرار بحقوق شعبنا الادارية والثقافية أو الاقرار لكن دون التطبيق والتنفيذ.
- عدم وجود الدافع الاقتصادي لتعلم هذه اللغة في مقابل وجود دافع وأهمية لتعلم لغة أخرى غريبة.
أخيرا، يقول فلوريان كولماس، استاذ علم اللغة العام بجامعة دوسلدورف في كتابه " اللغة والاقتصاد" والمنشور عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية في عام 2000 (حيث استفدنا من كتابه في اعداد ورقتنا هذه) :
" عندما يهتم المرء بتحدث لغة أكثر فائدة اقتصاديا وفكريا بشكل واضح يهتم أيضا بان يصبح شخصا آخر وان يجد فرصة عيش أفضل، ومن هنا يكون نوعا من العبث الدفاع عن لغة ووضع أثني سوف يكونان مجرد فولكلور قديم الطراز" .