استقالة بابا الفاتيكان : ثقل المسؤولية جعلته ينحني
------------
اصاب العالم على المستوى الدولي بشكل عام واغلب العالم الكاثوليكي بشكل خاص بصدمة شديدة وحالة من الشكوك والاستغراب والذهول وعدم الاقتناع بسبب الاعلان المفاجىء غير المسبوق لاستقالة بابا الفاتيكان بندكتس السادس عشر مؤخرا والذي وضع حداً لثماني سنوات بابوية عاصفة مثرة للجدل وهذه الاستقالة هي الاولى من نوعها منذ 600 عام و تعتبر الاكثر غرابة بين سابقاتها من الاستقالات وبسبب الاستغراب الشديد ووقع المفاجأة رسمت تساؤلات عدة منها مخاوف ان تكون قد اثرت كثرة المواقف المختلف عليها للبابا سلبا في العديد من المواقع خصوصا انها لم ترق للكثيرين حول العالم وطرحت العديد من التساءلات المشروعة في اذهان بعض المراقبين والمتابعين والمحللين والمؤمنين والاعلام في العالم
حول حقيقة واسرار وخفايا هذه الاستقالة ومنها هل فعلا قداسة البابا مريض وغير قادر صحيا القيام بواجباته ؟ خاصة ان تقدم البابا بالسن او مرضه لم يكن يوما عائقا امام بقاءه في المهمة عند اكثر الذين استلموا المنصب خصوصا و ان وجود البابا على كرسيه يعطي الامان و الطمأنينة حتى لو لم يكن بمقدوره ممارسة مهامه بحيوية و نشاط حيث وجوده يضفي هالة و هيبة تعني الكثير فهو يمثل الروح و الايقونة التي يستمد منها المؤمنون البركات و الامال و العامود الفقري لتماسك الصرح البابوي و الجسم الكهنوتي ...
ثم لماذا لم يصدر عن الفاتيكان اي تقرير طبي رسمي سابقا عن الحالة الصحية لقداسته بشكل دوري كما هو متبع ؟ مع العلم ان قداسة البابا عندما انتخب في 19 نيسان من عام 2005 كان يعرف أنه رجل مسن (78 سنة) ولن يعمر طويلا لماذا قبل المسؤولية ؟ خاصة وان رسالته وأولوياته تختلف عن التي يهتم بها رجال السياسة في الفساد والالتصاق بالكرسي علما ان قداسة البابا عند تسلمه المسؤولية كان قد رسم خارطة الطريق كبيرة لعمله في اربع رسائل وبرامج هي (عمل الخير والأمل والعدالة الاجتماعية والإيمان) طيب هل خلال فترة حكم البابا القصيرة حقق نتائج ناجحة وطيبة ؟ طبعا لا يبدو ان اي كان الجواب لهذه التساءلات لن تكون مرضية لمحبي البابا بينيدكتوس من المسيحيين الكاثوليك حول العالم الذين تساورهم الكثير من الاسئلة و الشكوك ليس لان فرضية صحة تقدمه بالسن قد لا تكون واقعا انما لغرابة الفكرة بحد ذاتها فهي سابقة لم تحصل في العصر الحديث علما ان عدد نفوس دولة الفاتيكان هو (594 مواطنا) وهي أصغر دولة بالعالم وبصدد ما تقدم اوضح رأي الشخصي الاتي :
1 - قانونية الاستقالة :
-------
الحكم والحق القانوني لقرار البابا التنحي عن واحد من أهم المناصب الروحية في العالم وعبر التاريخ المديد يكون استنادا للقانون 332 الوارد في الكتاب الجامع لقوانين الكنيسة الذي نصّ (يجوز للحبر الأعظم تقديم الاستقالة عن أداء مهامّه شرط أن تكون بمحض إرادته وأن تعلن بشكل ظاهر وألا ينتظر موافقة أحد عليها) انتهى الاقتباس اذن الأمر جائز وسليم وفقا لقوانين الكنيسة لكنه ليس بالامر الهين بسبب خصوصية المسؤولية التي يتمتع بها الحبر الأعظم بأعتباره رأس الكنيسة الكاثوليكية وخليفة القديس بطرس وأسقف روما وأساس الوحدة التي تربط الأساقفة الذين بدون البابا لا سلطان لهم وهو يملك السلطة الكاملة العليا والشاملة ويستطيع ممارستها بحرية في جميع الحالات كما أنّه صاحب السلطات الثلاث في الفاتيكان (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ...
بدون ادنى شك يبدو أن السن الذي وصل إليه البابا 85 سنة هو السبب الظاهري الرئيسي لقرار الاستقالة فلم يقدم أحد قبله عليه، وأراد البابا بهذا القرار أن يوصل رسالة إلى العالم مفادها أنّ السلطة ليست تسلطاً ولا احتكاراً لان هذه الاستقالة تعتبر سلوك حضاري وثقافي لقداسته بترك المسوؤلية والمنصب احتراما لذاته بسبب تقدمه بالسن حسب رسالة الاستقالة وتنم عن الشعور العالي بالمسؤولية التاريخية تجاه الكنيسة الكاثوليكية واحتراما لذاته خاصة وان قداسته واجه في السنوات الاخيرة ضغوطا ومتاعب وتعقيدات متزايدة ناجمة في ظروف وخصوصيات الفاتيكان الداخلية والظروف والاوضاع الدولية والحروب والازمات المختلفة على مستوى العالم ...
2 - حالات الاستقالات البابوية السابقة :
------------
شهد الفاتيكان اول استقالة من منصب البابوية عندما استقال البابا بنديكت التاسع سنة 1045م والاستقالة الثانية جاءت بعد تقديم البابا غريغوري السادس استقالته عام 1046م وفي عام 1249 قدم البابا سيلستاين الخامس استقالته و هي الثالثة من عمر الكنيسة البابوية والاستقالة الرابعة كانت للبابا غريغوري الثاني عشر و قد قدمها عام 1415م اما البابا المستقيل الخامس فهو بينيديكتوس السادس عشر في شباط 2013 لاسباب تتعلق بتقدمه بالعمر بين العام 1415 و عام 2013 ستة قرون من الزمن 600 سنة من ثبات هذا الصرح و المنصب الكبيرين فيها الكثير ...
3 - بعض الاسباب والعوامل الحقيقية لاستقالة البابا :
--------
لا نهمل عامل تقدم قداسته في السن ووضعه الصحي من اسباب الاستقالة لكن هناك الكثير من الملفات والمشاكل الضاغطة والتي لم يجد لها قداسته حلولا مناسبة خلال ثمانية سنوات من توليه الموقع وهذه المشاكل والملفات ألقت بظلالها وثقلها على البابا بحيث لم يعد قادراً على تحمل المسؤولية التاريخية بنفس النهج الذي سلكه منذ تسلمه لها عام 2005 ولغاية اليوم ومنها في سبيل المثال لا الحصر :
أ - توالي الكشف عن فضائح الاعتداء الجنسي علي الأطفال والتي ارتكبها الاكليروس الكاثوليكي حول العالم وانتشرت الاخبار عن حوادث التحرش الجنسي في القارة الأوروبية بأسرها وخصوصا في النمسا وبلجيكا والنروج وألمانيا مما أطلق نقاش موضوعي علماني حول عزوبية الكهنة ومن بين هذه الحوادث واحدة تتعلق بالبابا نفسه عندما كان رئيساً لأساقفة ميونيخ في المانيا حين سمح لأحد الأساقفة المتهمين بالتحرش الجنسي بالعودة الى ممارسة مهماته الأسقفية حيث اتهم بالتستر عليه وأمام هذه الفضيحة التي هزت أركان الكنيسة الكاثوليكية اضطر البابا إلي تقديم اعتذاره التاريخي إلي ضحايا هذه الانتهاكات وأسرهم معبرا عن العار والذل الذي لحق بالكنيسة من جراءها حيث اثارت استياءا شعبيا شديدا وغضبا عارما في اوربا بشكل خاص وبقية العالم بشكل عام ... (للاطلاع الرابط الاول ادناه)
ب - امتد الفساد المالي الى الفاتيكان وبسببه أدرجت الولايات المتحدة الامريكية دولة الفاتيكان تحت المراقبة علي قائمة مراكز غسيل الأموال عالميا في شهر مارس من العام 2012 ولا تزال تتكشف يوما بعد يوم صلات بين مسؤولي ببنك الفاتيكان ومخالفات مالية جسيمة كان آخرها تردد اسم جوتي تيديسكي رئيس بنك الفاتيكان السابق والمقرب من البابا في وسائل الإعلام الايطالية في تناولها لفضيحة بنك مونتي دي باسكي دي سيينا الذي تورط في عروض تمويل مشبوهة أدت الي خسارته 720 مليون يورو ... (للاطلاع الرابط الثاني ادناه)
ج - وتعرض قداسة البابا الى ضربة موجعة في شهر مايو من عام 2012 عندما ظهر إلي العلن كتاب تحت عنوان (صاحب القداسة) للصحفي الايطالي جيانلويجي نوتسي ينشر وثائق سرية تعود للبابا تم تسريبها من مكتب البابا نفسه وتفضح هذه الوثائق فساد داخل الفاتيكان وصراع علي السلطة في الدوائر العليا للدولة ولم تمض أيام حتي ألقت شرطة الكنيسة القبض علي الخادم الشخصي للبابا باولو جابريللي بتهمة تسريب الوثائق في الفضيحة التي عرفت بـ فاتيليكس وقد أكد جابريللي فيما بعد اتساع الفجوة بين الإصلاحيين في الكنيسة و أنصار الوضع القائم مما أوجد مناخا من الخوف يمنع الناس عن الحديث واعترف كبير الخدم بالوقائع وأوضح أثناء استجوابه أنه تصرف بهدف كشف (الشر والفساد) داخل الفاتيكان كما وجه رسالة للبابا يطلب منه السماح والعفو وفعلا عفى عنه قداسته رغم انه طعنه في الظهر .. (للاطلاع الرابط الثالث ادناه)
د - علاقة البابا المتشنجة بالعالم الاسلامي على اثر محاضرته الشهيرة بتاريخ 12 سبتمبر 2006 في جامعة ريجينسبورج الألمانية والتي اقتبس فيها عبارات من الإمبراطور البيزنطي (ايمانويل الثاني باليولوجوس) تقول ان الاسلام انتشر بالسيف واعتبرت هذه الكلمات اساءة للعالم الاسلامي واحتدم وتصاعد الجدل وادى الى الاحتقان وتم مطالبة قداسته بالاعتذار لكن من غير الممكن أن يتراجع الحبر الأعظم عن كلامه حاول بعد ذلك البابا تحسين صورة الفاتيكان في العالم الاسلامي بزيارته للمسجد الأزرق في تركيا في 30 نوفمبر من العام 2006 لكن تأثيرات هذه الزيارة كانت محدودة ... (للاطلاع الرابط الرابع ادناه)
ه - عدم مواكبة الفاتيكان للعصر الحديث والتطورات السريعة في المجال العلمي فمنذ تسلم البابا منصبه عام 2005 أصبحت الفاتيكان أكثر تزمتاً وخاصة فيما يتعلق بفرضية الحقائق العلمية حيث لكل زمان ومكان معيار عالمي للقياس وأن هذه الفرضية خلفت اعتراضات كثيرة في الفاتيكان لأنها تصر على أن المبادئ والقيم الكاثوليكية غير قابلة للنقاش وتنطبق على كافة المجتمعات والسياسات بالتساوي ان مثل هذا الموقف يدل على انغلاق الكنيسة الكاثوليكية تجاه العالم الآخر والحقائق والحوار مع الديانات الأخرى علما ان قداسة البابا خلال فترة حكمه ركز على السلطة واللاهوت منذ المجمع الفاتيكاني الثاني ولم يترك حيزاً لإبداعات جديدة لإدخال تغييرات على الكنيسة الكاثوليكية وركز على شخص الكاهن واستثنى المرأة من الكهنوت ووطد السلطة الذكورية والهرمية للكنيسة ...
و - احتدام الصراع الخفي على السلطة بين رجل البابا الثاني أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال ترسيسيو برتوني وكرادلة منافسين ودبلوماسيي الفاتيكان المخضرمين بشكل حاد جدا مما ادى الى نشوء استقطابات ومحاور وتكتلات كل منها له نفوذه وسلطاته ودوره وهذا يضعف دور المسؤول الاول ويتحول الوضع الى كاريثي ومخيف ...
ز - قيام بعض الابرشيات الكاثوليكية في العالم بتزويد الفاتيكان مباشرة بمعلومات مضللة وغير دقيقة فيما يخص الكنيسة والمؤمنين لاغراض خاصة غير نزيه وبعد ان تنكشف حقيقة امرها تجد الفاتيكان نفسها في وضع لا تحسد عليه من الاحراج والارباك وهذا يكلفها الاعتذار واجراء التحقيق ومضيعة للوقت وهذا يؤكد ضعف كفاءة النظام الاداري والتنظيمي وضعف الجهاز الرقابي والتدقيقي ونطم المعلومات في الفاتيكان مما يعقد ويعرقل انجاز قداسة البابا مهامه بسلاسة ويسر ...
هذه بعض العوامل والاسباب الحقيقية للاستقالة المفاجئة وغير المتوقعة لقداسة بابا الفاتيكان اذا لم يكن قداسته قد اخفى شىء اخر !! وهذه الاسباب تكشفت حجم التحديات والملفات المعقدة والكبيرة والتي لم يستطع قداسته الاستمرار في مهامه وانحنى امام ثقل حمله الكبير فهل سيكون خليفته قادرا على حمل هذا الحمل الثقيل ام ماذا ؟ ان غدا لناظره قريب ...
http://www.bbc.co.uk/arabic/worldnews/2010/09/100918_pope_celebrate_tc2.shtmlhttp://www.aljazeera.net/news/pages/646fce04-ab69-424b-99a4-ae671c19ba7ehttp://www.elaph.com/Web/news/2012/5/738931.htmlhttp://www.hewaronline.net/vatican/Marwanazir.htm انطوان الصنا
antwanprince@yahoo.com