المحرر موضوع: التغيير والمأزق الحضاري*  (زيارة 609 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1288
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
التغيير والمأزق الحضاري*
« في: 21:15 20/02/2013 »
التغيير والمأزق الحضاري*
المشروع النهضوي وأسئلة الديمقراطية والعنف  والإسلام السياسي
التغيير ليس نقراً في السطح، بل هو حفرّ في العمق



عبد الحسين شعبان**





•   حوار أجرته مؤسسة الفكر العربي مع 30 مفكراً وباحثاً وصدر في سلسلة الكتب الشهرية " معارف"  وتحت عنوان إلى أين يذهب العرب؟ (رؤية 30 مفكراً في مستقبل الثورات العربية، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار الفارس، بيروت، ط1، 2012، (491 صفحة من القطع الكبير) (إجابات د.شعبان كما هي منشورة في الكتاب).
* *  استاذ القانون الدولي وفلسفة اللاعنف وحقوق الإنسان- بيروت

بعد اكثر من عام على الاطاحة بالنظم الحاكمة في كل من مصر وتونس وليبيا هل يوحي مسار حركة التغيير في هذه الدول بنجاح هذه الحركات أو بإخفاقها؟ وما هي برأيك أسباب النجاح أو الإخفاق أم هناك تقييم ثالث؟

الأمر يحتاج إلى وقت لتقديم حكم أقرب إلى الدقة بعيداً عن التفاؤل المُفرط والتشاؤم المُحبط، وهما القراءتان اللتان سادتا بُعيد الربيع العربي منظوراً إليه بلحظته الراهنة وتداعياتها وما أعقبه من فوضى وانفلات.
المعيار الحقيقي للتغيير لا يتم عبر الإطاحة بالأنظمة الحاكمة السابقة، بل بمدى ما يمكن إنجازه من عملية التغيير الاجتماعي- الاقتصادي، السياسي والثقافي والقانوني، ولاسيما التنمية والرفاه الاجتماعيين، وتلك تحتاج إلى زمن طويل للحكم عليها وتقويمها إيجاباً أو سلباً ضمن مؤشرات الدخل ومعايير دولية، مع أخذ الظروف الخاصة بنظر الاعتبار، بما فيها مستوى التعليم والصحة والبطالة والفقر.
وإذا كانت حركات التغيير التي ابتدأت شرارتها الأولى في تونس وانتقلت إلى مصر ومنها إلى العالم العربي، سواءً تمكّنت من تغيير الأنظمة الحاكمة أو لم تتمكن بعد، قد رفعت شعارات الحرية والكرامة الانسانية ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، فإن هذه الشعارات تمثل مسارات طويلة الأمد بحاجة إلى تراكم وتطور تدريجي. وهو ما أوردته في كتابي " الشعب يريد... تأملات فكرية في الربيع العربي".
يمكن القول: لا تولد الثورة مع الديمقراطية في يوم واحد، والثورة لكي تولد وتترعرع ويشتّد عودها وتنضج تحتاج إلى مسار طويل وتراكم يحتمل التجربة بما فيها الخطأ والصواب، وهي بذلك تحفر في الأساسات المفضية إلى الديمقراطية وإنْ كان الطريق إليها وعراً وغير سالك أحياناً، ولا بدّ أن يتسم بالآليات الديمقراطية حيث يتم حفره وتعبيده إرتباطاً باحترام حقوق الإنسان والسعي لإعلاء قيمه وحرياته الأساسية الفردية والجماعية، وعكس ذلك ستكون "الثورة" تغييراً فوقياً سرعان ما يتبخّر، لأنه نقرٌ في السطح، وليس حفراً في العمق على حد تعبير المفكر ياسين الحافظ.
ولعل بعض التجارب العربية، ولاسيما في تونس ومصر  ليست بعيدة عن النموذج البولوني- المجري أو النموذج الألماني – التشيكوسلوفاكي، حيث تزاوجت بين فقه التواصل أو فقه القطيعة، وإنْ كان هناك منزلة بين المنزلتين كما يقال، وإذا كان العامل الخارجي إيجابياً في إيجاد تسوية في اليمن على سبيل المثال، لاسيما من جانب مجلس التعاون الخليجي ومبادرته للانتقال السلس للسلطة وتخلّي علي عبدالله صالح (الرئيس اليمني) عن صلاحياته إلى نائبه، فإنها كان أكثر إيلاماً وتعقيداً في الوضع الليبي، خصوصاً وأنها زادت من معاناة السكان المدنيين، بل أن بعضهم سقط بأسباب عدم التزام قوات حلف الناتو بمعايير القانون الدولي الانساني واتفاقيات جنيف لحماية المدنيين لعام 1949 وملحقيها البروتوكولين الخاصّين بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، وحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
ولا يزال الوضع السوري شديد التعقيد والتداخل بفعل استمرار آلة القمع وأعمال العنف، لاسيما وقد أصبحت المجابهة المسلحة إحدى الوسائل التي رافقته، منذ مطلع العام 2012، حيث كان الطابع العام للاحتجاجات هو الطابع السلمي والذي جوبه بقمع شديد، كما أن المبادرات العربية والدولية، بما فيها مبادرة كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة لم تحرز النجاح المطلوب وتواجهها تحديات كبرى، لاسيما باستمرار مسلسل القمع واستخدام القوة والعنف ضد المدنيين.
إذا كانت التجربتان التونسية والمصرية قد سارتا بسلاسة وحُسمتا بسرعة فائقة، على الرغم من التضحيات، فإن ذلك انعكس على مسارهما لاحقاً، فاستطاعتا إنجاز قيام جمعية تأسيسية وإجراء انتخابات برلمانية في تونس وبرلمانية ورئاسية في مصر، ولعل في ذلك نجاح كبير في عملية التحوّل الأولى، بنقل السلطة إلى مؤسسات والتحضير لوضع دستور دائم وإجراء انتخابات شاملة واختيار من يمثل الشعب، وسيعتمد نجاحهما أكثر فأكثر على بناء العدالة الانتقالية التي تقوم على كشف الحقيقية كاملة ومساءلة المرتكبين وتعويض الضحايا وجبر الضرر وإجراء إصلاحات جذرية للنظام القانوني والقضائي والأمني لمنع تكرار ما حصل بعيداً عن الكراهية والانتقام والثأر.
إن أهم أسباب النجارح بتقديري تعود إلى تمكّن كلا التجربتين من اجتياز المرحلة الأصعب والأخطر، وهي الحفاظ على الدولة وتدريجياً إستعادة هيبتها والحفاظ على مؤسساتها والعمل على تشغيل أجهزتها بما يساعد على حفظ النظام والأمن العام من جهة، وحماية أرواح وممتلكات الناس من جهة أخرى وتلكم الوظيفتان هما المهمتان الأساسيتان لأية دولة، ودونها تصبح الدولة لا معنى لها، بل تكفّ عن تصبح دولة.
أما أسباب الفشل أو الإخفاق، فقد يعود قسم منها إلى احتمال انفراد تيار سياسي واحد بالحكم أو الإصرار على قيام دولة دينية، حتى وإن جاء هذا عن طريق صندوق الاقتراع، لاسيما إذا ساهم في عزل أو تهميش التيارات الأخرى، مستبعداً مبدأ المشاركة والتوافق، خصوصاً في المرحلة الانتقالية وإزاء القضايا الكبرى والحاسمة التي تؤثر على مسار البلاد ككل.
وإذا استطاعت الثورة المضادة بفعل أخطاء وانقسام حركة التغيير العودة إلى الواجهة، فذلك سيشكل إحباطاً جديداً للربيع العربي، بل يُشعر الناس بإخفاقه وربما بعدم جدواه فيما إذا عاد القديم إلى قدمه، وهو ما كانت قوى الثورة المضادة في فرنسا بعد الثورة العام 1789تسعى إليه وتمكنت منه لحين، كما تمكنت في بلدان أخرى لكن المسار العام استطاع تصحيح نفسه.

ما هي برأيك أهم تفسيرات الصعود الكبير للإسلام السياسي في المجتمع العربي بحسب ما كشفت عنه الأحداث والمتغيرات التي شهدتها دول ما يعرف بالربيع العربي؟

لا بدّ من تقديم بعض المعطيات لتفسير أسباب الصعود الكبير للإسلام السياسي، فقد فاز الإسلاميون بأغلبية في انتخابات تونس ومصر والمغرب وكانوا قد تربّعوا على دست الحكم في العراق، ولعلّ التوجّه الاسلامي ليس بعيداً عن الثورة الليبية وقيادتها وهو أمر أفصح عنه مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي، ولا شك أن التيار الاسلامي يتمتع بنفوذ كبير في سوريا، فضلاً عن الدور الأساسي لحزب الله في لبنان، كما يحظى الاتجاه الاسلامي بحضور ملحوظ في فلسطين، لاسيما في غزة حيث فازت حماس في انتخابات آذار (مارس) العام 2006، وكذلك الدور الكبير الذي تضطلع الحركة الاسلامية به في الأردن، وكان لحركة الوفاق الإسلامية دور واضح في البحرين حيث فازت بـ 18 نائباً من مجموع 40 نائب في البرلمان البحريني، ويمتد نفوذ الحركة الإسلامية إلى الكويت حيث تعزز وجودها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وإلى بعض دول الخليج العربي أيضاً، وليس بعيداً عنها حضورها اللافت في موريتانيا والجزائر والصومال التي تشهد احتراباً ليس بعيداً عن الصراع على السلطة، بأذرع إسلامية، أما السودان فإنها منذ العام 1989 تحت نفوذ الإسلاميين وحزب المؤتمر حيث كان الموجّه الآيديولوجي له حسن الترابي ولا يزال التوجه العام إسلامياً.
وفوق كل ذلك فإن الإسلام الإيراني الراديكالي لا يزال "مؤثراً" في المنطقة ودولها بالملف النووي الذي يتخوّف منه الغرب أو لاتهامه بالارهاب الدولي أو بغيره، حيث تزداد خشية بعض الدول العربية والخليجية من الامتداد المذهبي، وكذلك الاسلام التركي الديمقراطي المسحة، وإن كان بقفازات نووية أطلسية، حيث يتقدّم على نحو ناعم مبشّراً بالمصالحة بين الاسلام والعلمانية.
لعل أحد أسباب صعود الإسلام السياسي هو تراجع ونكوص المشروع القومي العربي، خصوصاً وقد ترافق وجوده في السلطة في العديد من البلدان العربية، مع سيادة نمط حكم شمولي استبدادي ودكتاتوري وفردي، لاسيما وقد وصلت خطط التنمية إلى طريق مسدود في جميع تلك البلدان، وخصوصاً مناهضتها للديمقراطية والحريات، الأمر الذي ضيّق من القاعدة الاجتماعية لتلك الأنظمة التي اعتمدت على نظام الحزب الواحد في الغالب أو "الحزب القائد" مع بعض الهوامش الشكلية وجهات وطنية كوزماتيكية أصبح لونها باهتاً مع مرور الأيام وديماغوجية إعلامية لا حدود لها وأجهزة منفلتة من عقالها وفساد لطغمة حاكمة مع أقاربها وسلطات مطلقة الصلاحيات.
كما أن فشل المشروع الماركسي وخصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط وانحلال الكتلة الاشتراكية، ساهم في إنعاش المشروع الإسلامي، الذي كان خطابه في الغالب "شعبوياً" حرّك مشاعر الناس وأحاسيسهم، حيث يتفشى الفقر والمرض والبطالة وشحّ الحريات وضعف خدمات الصحة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي وغيرها، ناهيكم عن ذكاء التيار الإسلامي في مخاطبة الأوساط الشعبية عبر وسائل تحذيرية وغيبية عن عالم ما بعد الحياة، وبوعود تعويضية عن بؤسهم وحرمانهم.
لقد ساعدت الدولة البيروقراطية الاستبدادية والحكم الفردي واستشراء الفساد والرشا في اندفاع مجموعات كبيرة من البشر نحو الخطاب الإسلامي، خصوصاً بانعدام أو إجهاض أية إمكانية لإصلاح الأوضاع أو إيجاد حلول للمشاكل والأزمات التي أصبحت مزمنة بل كادت أن تكون مستعصية، وهو ما لعب عليه التيار الإسلامي ببراعة شديدة قادته إلى الحضور والتأثير، لا في الشارع فحسب، بل من خلال صناديق الإقتراع لاحقاً، وهذه حقيقة لا بدّ من الاعتراف بها.
وإذا كان التيار الإسلامي موجوداً في الجوامع والمساجد والشوارع والساحات والحارات وفي المناطق البعيدة والنائية، فإن حضوره لم يكن دينياً فحسب، للصلاة أو لأداء الفرائض، بل كان سياسياً بامتياز وتعبوياً ناعماً أو خشناً، إستطاع وفي لحظات حاسمة نقل البندقية من الكتف اليمنى إلى الكتف اليسرى، وكان يجد تبريرات ومسوّغات دينية واقعية أو غير واقعية لإقناع جماهيره



أياً كانت التفسيرات المطروحة لصعود الإسلام السياسي فهل ترى أن حركة الإخوان المسلمين على وجه التحديد قادرة على التوافق مع متطلبات التحول الديمقراطي، والتعاطي مع معضلة الحداثة؟


لدى الحركات الدينية القدرة على التعامل ببرغماتية أكثر من غيرها مع المتغيّرات السياسية ومنها حركة الأخوان المسلمين، ولعلها في سبيل البقاء في الحكم يمكن أن تتوافق مع متطلبات التحوّل الديمقراطي والتعاطي مع معضلة الحداثة، وأظن أنها خلال العقدين ونيّف المنصرمين كانت قد غيّرت الكثير من أطروحاتها وشعاراتها وتبنّت " نظرياً" قبول النظام الديمقراطي، بل والدعوة إليه، لاسيما عندما كانت خارج دائرة الحكم، واعتقَدَتْ في ذلك وكانت على صواب، أنها من خلال المطالبة تستطيع أن توسّع دائرة الحريات بشكل عام، وخصوصاً حرّياتها وتخفيف وطأة الملاحقة ضدّها.
ولهذا فإنها في سبيل البقاء اليوم في السلطة ستكون أكثر برغماتية، وستصدر الفتوى تلو الأخرى لتأكيد انسجامها مع المستجدّات، وقد كان لحركة النهضة ولاسيما لزعيمها راشد الغنوشي دوراً كبيراً على هذا الصعيد، وخصوصاً كتابه الموسوم  "مفهوم الأحزاب الديمقراطية وواقع الأحزاب في البلدان العربية" " المنشور في مركز دراسات الوحدة العربية ، في العام 1993، لاسيما في التمهيد لذلك، حتى مع وجود تيارات محافظة أو ممانعة للتوجه الديمقراطي، داخل تياره أو التيارات الإسلامية الأخرى.
   وكذلك تبنّى حزب الدعوة الإسلامي في العراق والمجلس الإسلامي الأعلى والحزب الاسلامي العراقي (امتداد حركة الأخوان) أيام المعارضة ولاسيما بعد العام 1992 ولاحقاً وهم في السلطة، مسألة قبول التعددية وآليات النظام الديمقراطي، ولعلهم مستعدّون اليوم تكييف كل شيء وإيجاد الذرائع والمسوّغات طالما يؤدي ذلك إلى بقائهم في السلطة أو مشاركتهم فيها.
وكانت حركة الاخوان في سوريا قد طرحت برنامجاً دعت فيه إلى قبول النظام الديمقراطي وآلياته قبل سنوات، الأمر الذي يعني أن هذه الحركات بغض النظر عن خلفياتها ومرجعياتها حاولت أن تتكيّف منذ أواخر الثمانينيات مع الموجة العالمية للديمقراطية، بل أن بعضها اشتغل في إطار مؤسسات مجتمع مدني وحاول توجيهها بما يخدم توجهاته السياسية، خصوصاً وأن رصيدها كبير لدى الكثير من الأوساط الشعبية، ولاسيما في المناطق الفقيرة، وكانت القوى الإسلامية شديدة الالتصاق بهذه الأوساط وتسعى للتأثير عليها، لاسيما وهي تزعم أنها صلة الله بعباده من خلال علماء وفقهاء ومرجعيات وعبر تحريم وتجريم وتقديس وتدنيس.
ولعل أمراً مضافاً ومتغيّراً ينبغي أخذه بنظر الاعتبار، وهو الذي قد يدفع الأخوان أو يقف وراء مواقفهم الجديدة لقبول متطلبات التحوّل الديمقراطي والتعاطي مع معضلة الحداثة، ونعني به محاولة تمييز أنفسهم عن التيار السلفي. وأعتقد أن صراعاً سينشأ في البرلمانات والجوامع والمساجد والشوارع وفي المؤسسات والجمعيات المدنية والخيرية، بين الأخوان والإسلاميين بشكل عام، وبين السلفيين والمتزمتين بشكل خاص. وأعتقد أن الأخوان والتيار الإسلامي عموماً، سيحاولون تكييف أنفسهم مع المتغيّرات، لاسيما مع متطلبّات التحوّل الديمقراطي، بل سيظهرون في بعض المحطات وكأنهم دعاته وأصحابه، خصوصاً إذا شعروا أنه حاملهم إلى السلطة، وهم من الذكاء بمكان، حيث يستطيعون أن يسوّقوا أنفسهم، بما اكتسبوه من حنكة وبراعة وتنظيم وجماهيرية خلال عقود من الزمان، أي منذ تشكيل حركة الأخوان في مصر في أواخر العشرينيات وحتى الآن.
قد لا يكون الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين حتمياً في المرحلة الراهنة والمنظورة، فهم تحالفوا في تونس، وسبق أن حصل الأمر في التجربة العراقية على تشوّشها وهشاشتها، وهم متحالفون في اليمن، حيث يعمل حزب الإصلاح "الإسلامي" مع أحزاب اللقاء المشترك، الذي له دور كبير في عملية التغيير، ومن المحتمل جداً انضمام التيار الوطني والعروبي والعلماني إلى مرشح الأخوان محمد مرسي في الجولة الانتخابية الثانية ضد أحمد شفيق وجماعة النظام السابق، أو من المحتمل تشكيل مجلس رئاسة من الأخوان زائداً من حصل على المرتبة الثالثة والرابعة (حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح) وغيرهما. وهو الأمر الحاصل على صعيد التعاون في إطار المعارضة السورية بين الأخوان والتيار العلماني، وتلكم حكم الضرورة والمصلحة وتوازن القوى الذي يفرض على التيار العلماني واليساري والعروبي أيضاً، التعاون مع الأخوان والقوى الإسلامية إزاء أهداف مشتركة سياسية  بالدرجة الأساسية والضرورات تبيح المحظورات كما يقال.
أما الاختلاف الآيديولوجي، على قيم السماء فيبقى في بطون الكتب وأدراج المكتبات أحياناً وعلى أقل تقدير فإنه مؤجل حالياً أو أنه لا يتصدّر المهمات المطروحة على التيار الاسلامي ونظيره التيار العلماني، لاسيما حين يتقدّم طبق السياسة  على طبق الآيديولوجيا، وهو الأمر الذي غالباً ما يحصل، وتلك القاعدة التي يفترض أن تسود وليس العكس، وهو ما حصل في أوروبا والعديد من دول العالم، وكان للكنيسة دور كبير في التغيير الذي حصل في أمريكا اللاتينية بالتعاون مع قوى اليسار والمجتمع المدني.

عقب فوز الاسلاميين في الانتخابات التشريعية والتأسيسية التي جرت في مصر وتونس هل تتوقع للقوى الإسلامية في هذين البلدين اللحاق بالنموذج الإيراني أو بنموذج حزب العدالة والتنمية التركي أو ستفرز نموذجاً إسلامياً عربياً خالصاً؟

لا أظن أن القوى الاسلامية في كل من تونس ومصر ستحاول اللحاق بالنموذج الإيراني، الثوري، الراديكالي، كما لا أظن أنهما سيهتديان بالنموذج التركي، ولاسيما لحزب العدالة والتنمية، وستكون لهما خصوصيتهما، وليس بعيداً أنهما سيكونان أمام نموذج عربي أو نماذج عربية لتجارب إسلامية جديدة. فالنموذج الإيراني قام على أساس ولاية الفقيه والدعوة للثورة وفي إطار توجه مذهبي آيديولوجي شيعي، في حين أن النموذج التركي الذي وصل إلى الحكم عبر صندوق الاقتراع لا زال يعيش في إطار دولة مدنية وفي أفق غربي أو تطلّع ليكون جزءًا من الغرب " الديمقراطي" والاتحاد الأوروبي، ولم يجد أردوغان غضاضة عندما خاطب العالم من دار الأوبرا في القاهرة في مصر وليس من الأزهر الشريف قائلاً : " إن الشعب التركــي الذي منحـني 50% من الأصوات (وبالطـبع فهو شعب مسلم) يعلم أنني أعتبر وجــود دولة علمـانية أساساً للتطور، ولكنني لا أرى تعارضاً بين العلمانية والاسلام، وأن علمانية تركيا تختلف عن علمانية الغرب."
إن أية ثورة لا تشبه غيرها، ولا يشبه أي شعب شعباً آخر، وإنْ كان هناك مشتركات بين الشعوب والمجتمعات، إلاّ أن لكل خصوصيته، التي لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار عند الحديث عن التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ولعل هذه المسألة تكاد تكون مطروحة وعلى نحو شديد فيما يتعلق بالربيع العربي والانتفاضات الشعبية، فإذا كان ثمت تأثيرات وتفاعلات وانعكاسات بين التجارب المختلفة، لاسيما الكبير منها وخصوصاً الناجح فيها، إلاّ أن لكل تجربة نكهتها الخاصة ومذاقها المختلف، وذلك بحكم التطور التاريخي واصطفافات القوى والطبقات الاجتماعية والدينية والإثنية وتنوّع الفاعليات والأنشطة السياسية والفكرية، ناهيكم عن تراكم العديد من المشكلات المختلفة.
إن أي عملية تقليد أو تكرار لنموذج ما دون الأخذ بالاعتبار خصوصية كل تجربة سيكون تشويهاً للنموذج، كما لو تمّ زرع بذرة في بيئة غير ملائمة مما سيؤدي لعدم نموها، ولو نمت فسيكون لأجل قصير ومن بعد ذلك تذوي وتموت. ولعل ذلك ينذر بمستقبل محفوف بالمخاطر، مما يؤدي لضياع الزمن والجهد والموارد دون طائل أو جدوى تذكر.
حاولت الثورات الاشتراكية السير على هدي الثورة الروسية الأكتوبرية،وقامت باستنساخ  التجربة، لكنها بعد حين وصلت  إلى طريق مسدود، لأنها قلّدت بشكل أعمى التجربة الأصل بكل التحدّيات والمشكلات التي تواجهها، كما حاولت بلدان ما أطلق عليها محور "التحرر الوطني" إعادة استنساخ أو تقليد التجارب الاشتراكية، لكنها سرعان ما انهارت عندما انهار النموذج الأصل، الأمر الذي لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار، وقد حاولت بعض البلدان العربية تقليد نموذج الثورة المصرية الناصرية وتجربتها السياسية، لكنها في واقع الحال كانت عبارة عن استنساخ وتشويه لتجربة لها خصوصيتها ولها مشكلاتها وتحدياتها، وإذا كانت لم تفقس بيضة التجارب الأولى، فما بالك بالتجارب اللاحقة "الصغيرة" أو الأقل جاذبية وتأثيراً.
   إلاّ إن قراءة التجارب العالمية والعربية واستلهام دروسها وعِبَرها بانفتاح وشفافية  أمر ضروري لتحصين التجارب الخاصة بعيداً عن الانغلاق والتقوقع من جهة، وفي الوقت نفسه دون تقليد أعمى أو استنساخ مشوّه أو اقتباس بحذافيره، والأمر يتطلب عقداً جديداً في كل مجتمع بين القوى والفاعليات المؤثرة، لتنظيم العلاقة أيضاً بين الحاكم بالمحكوم، ومن جهة أخرى يقتضي وضع قواعد قيمية قد يكون بعضها ما فوق دستوري، وقد يندرج بعضها الآخر ضمن بنود الدستور الذي يؤكد على احترام هذه القيم والقواعد دون لبس أو غموض، وهي قواعد لا يمكن استبدالها أو اللعب بها، باسم الأغلبية أو المظلومية أو قرارات البرلمان أو غير ذلك، لأن أي إخلال بها سيُمسّ النظام الديمقراطي ومحتواه ويؤثر على سير عمله ومستقبله، ولهذا تضع بعض الدساتير مواداً جامدةً لا يمكن تغييرها أو استبدالها بسهولة إلاّ ضمن ضوابط معقدة وفترات زمنية قد تطول وتوافقات  تكاد تقترب من الإجماع أحياناً، لكي لا تلجأ إحدى القوى  إلى العبث بالدستور أو استخدامه لتحقيق أغراضها الآيديولوجية أو توجهها الفكري أو الديني أو الطائفي أو الفئوي، أو التغوّل على الآخرين.
   
بما أن تفسير السلوك الإنساني (والسلوك السياسي جزء منه) لا ينفصل عن معرفة دوافعه فهل كان ما حدث في مصر وتونس وليبيا وما يحدث في سورية الآن تعبيراً عن حراك مجتمعي تلقائي صادف درجة الوعي والغضب اللازمين لإشعال ثورة وانتفاضة أو كان بفعل مخططات أجنبية؟

إن دوافع السلوك الإنساني، والسياسة جزء منه، لا يمكن أن تتحرك على نحو تلقائي أو عفوي أو بفعل ظروف خارجية مهما كان تأثيراتها، إنْ لم يكن هناك أسباباً وظروفاً داخلية متراكمة وعميقة، لاسيما في الثورات الكبرى والانتفاضات التاريخية، الفاصلة بين عهدين، ومثل هذا لن يحصل الاّ بحكم ارتفاع منسوب الوعي وشدّة حساسية الغضب الشعبي، وباتحاد العوامل الموضوعية مع العوامل الذاتية يمكن اقتناص اللحظة الثورية التي تؤدي إلى الإنفجار وإذا استطاعت الشعوب الإمساك بدقة على تلك اللحظة، اختياراً وتوقيتاً وإدارة وقيادة لاحقاً، فإنه عند ذلك يصعب القضاء عليها أو انتزاعها منها، لاسيما إذا انتقل الخوف من المحكومين إلى الحكام، وعندها لن يستطيع أحد انتزاع المبادرة حتى وإنْ أغرق البلاد والعباد بالدم. وبالطبع فإن العامل الموضوعي والذاتي سيستفيد سلباً أو إيجاباً من البيئة الدولية سواءً إذا كانت مشجعة أو محبطة، ولهذا فإن سلوك المحتجين في الأيام الأولى للربيع العربي، كان واحداً من مؤشراته هو التضامن والتأييد الدولي في ظرف مساعد للتشجيع على الديمقراطية.
ولعلّ عاملاً جديداً برز على هذا الصعيد وهو عامل موضوعي احتارت به الأنظمة كثيراً، بل أنها نسبته إلى دور الخارج، وأعني به الثورة العلمية- التقنية، لاسيما ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الاعلام والمعلومات والطفرة الرقمية "الديجيتل" التي حوّلت العالم كلّه  إلى قرية مفتوحة، فما يحصل في بلد ناءٍ وبعيد، ستشاهده لحظة وقوعه أو بعد دقائق أوساعة أو سويعات وأنت مسترخٍ في غرفة الاستقبال أو مستلق في غرفة النوم وعلى بعد آلاف الأميال، ولعلّك ستتفاعل مع الصورة على نحو كبير باعتبارها "خبراً" بانورامياً بحد ذاته، حيث ستشاهد فيه الحدث وما خلفه وما رافقه وما سيتبعه وما قيل أو يقال فيه، وستطلّع على رأي صانع الحدث والمشارك فيه وخصمه، وسيكون للاعلام دوراً مؤثراً، لاسيما إذا تمكّن من إلتقاط اللحظة التاريخية.
لقد جعلت العولمة التغيير بقدر خصوصيته شاملاً، وبقدر محليته كونياً، لاسيما وأن كل شيء من حولنا كان يتغيّر على نحو جذري وسريع، ولعلّ هذا الأمر يطرح عدداً من الحقائق الجديدة التي تثير أسئلة بحاجة  إلى إعمال العقل والتفكير لا بشأنها حسب، بل بشأن سياسات وأنظمة لم تشعر أو تتلمس الحاجة  إلى التغيير طالما شعرت بتوفير الأمن والاستقرار، واعتقدت واهمة أن ذلك وحده كافٍ لإسكات شعوبها أو إرضائها، وكأن ذلك  الأمن والاستقرار يراد لهما تعسفاً أن يصبحا بديلاً عن الحرية والكرامة والعدالة التي هي مطالب شرعية باعتراف الحكومات جميعها، ولعلّ هذه المطالب المشتركة وذات الأبعاد الإنسانية جعلت حركة الاحتجاج ومطالب الشباب تمتد من أقصى المغرب العربي  إلى أقصى المشرق العربي ومن المحيط  إلى الخليج كما يقال.
يخطئ من يظن أن الحركة الاحتجاجية هي صورة نمطية يمكن أن تتكرر أو تستنسخ أو تتناسل أو أنها خريطة طريق واحدة أنيقة وملوّنة لجميع البلدان والشعوب، فالأمم والمجتمعات تحفل بالتنوّع والتعددية وبوجود اختلافات وخصوصيات وتمايزات، بقدر ما يوجد بينها جامع مشترك أعظم، وقواسم عامة، لاسيما حاجتها الماسّة  إلى التغيير طلباً للحرية والعدالة.
وبهذا المعنى فإن الحركة الاحتجاجية ليست طبعة واحدة أو فروعاً من حركة قائمة، أو صورة مصغّرة عنها. صحيح أن العالم العربي وصل في غالبيته  إلى طريق مسدود، وهو ما عكسته تقارير التنمية البشرية، لاسيما شحّ الحريات والنقص الفادح في المعارف وتفشي الأمية الأبجدية التي زادت على 70 مليون، ناهيكم عن الأمية المعرفية، خصوصاً التعاطي مع علوم العصر وتقنياته ووسائله الحديثة، إضافة  إلى الموقف السلبي من المرأة وحقوقها ومساواتها، وكذلك الموقف الخاطئ من التنوّع الثقافي الديني والقومي والاثني واللغوي وحقوق المكوّنات المتساوية وغيرها.

إذا سلّمنا أن بعض الثورات أو الانتفاضات في دول عربية ما كانت بفعل مخطّطات أجنبية تنفيذاً لأجندات دولية ما ، فهل يكون الانحياز للثورة أو الانتفاضة  ولو كان المقابل تمكين المخطط الأجنبي ؟ أو تكون الأولوية لإفشال المخطط الأجنبي ولو كان الثمن إجهاض الثورة أو الانتفاضة؟ أم تُرى هناك خيار ثالث ما؟
   
لا يمكن  مقايضة انتصار الثورة أو الانتفاضة بتمكين المخطط الأجنبي، كما لا يمكن المفاضلة بين مقاومة المخطط الأجنبي وبين ثمن إجهاض الثورة، وقد دار نقاش مقارب عقب العدوان الإسرائيلي على البلدان العربية العام 1967 بين أفضلية شعار "هل كل شيء من أجل الجبهة" وبين شعار "كل شيء إلى الجبهة"؟، وجرت سجالات وأخذ ورد وشدّ وجذب، فالحكام ومن يدور في فلكهم قدّموا شعار كل شيء إلى الجهة بقيادتهم بالطبع، والحركات الثورية واليسارية، قالت لنسخّر كل شيء من أجل الجبهة بما فيها الإطاحة بالأنظمة القائمة، وانقسمت أحزاباً ثورية وجبهاتٍ وطنية وفقاً لهذا الشعار المدوّي يومذاك.
ولعل مشروع التعويل الخارجي أثار انشقاقاً وتباعداً بين بعض قوى الإصلاح والتغيير ذاتها، وبذريعة رفض التغيير الخارجي اصطّف بعضهم مع الأنظمة الدكتاتورية ودافع عنها، بل وبرّر بعض أعمالها، وبعضهم الآخر برّر تعاونه مع القوى الأجنبية بذريعة عدم التمكّن من إنجاز التغيير داخلياً، ودعا للاستعانة بالخارج وإنْ زعم أنه أمرٌ غير مشروط، ولكنه عملياً سيقبل بشروط المتحكّم باللعبة السياسية، ونفوذه وقوته وماله، الأمر الذي قاد  إلى  تعويلية، واستتباع وتفريط.
وبين هذا وذاك ضاعت الأصوات المعتدلة والمتوازنة، بل ونظر إليها كلا الفريقين بارتياب أحياناً، فمن جهة هي ترفض الاصطفاف مع مشروع الفريق الأول المؤيد لمشروع التغيير الخارجي، أو التماهي معه، علماً، بأن الفريق الثاني الحاكم لا يقبل مسافة بينه وبين أية قوى أخرى خارج نطاق أطروحاته الأساسية ويريدها تابعة له، ومن جهة أخرى اعتبرها الفريق المؤيد لمشروع التغيير الخارجي برفضها للتدخل الخارجي، ليست إلاّ ممالأة للدكتاتوريات والأنظمة المستبدّة الثورية أو المحافظة، وهكذا حصل الإنشطار عمودياً وتضببت الصورة على نحو قاتم .
نعود إلى جوهر السؤال المتواصل مع ما سبقه ونصوغه على النحو الآتي: هل التغيير بضاعة مصدّرة إلينا أم هي صناعة محلية لا علاقة لها بالخارج؟ ولا يمكن الإجابة بنعم أو لا، فكل ما في العالم هو امتداد وتواصل وتشابك وتفاعل مع الآخر، لاسيما في ظل العولمة، وإذا كان التغيير عملية معقدة، وصيرورة واقعية، فلا شك أنها تأثرت وتتأثر بما يحصل في الخارج، والخارج بحكم مصالحه وشبكة علاقاته ودوره العسكري والاقتصادي والمالي والعلمي والتكنولوجي، يؤثر في الداخل ويحاول قطف زهرة التغيير، بحيث تكون له حصة في مستقبل بلداننا ومنطقتنا الحيوية استراتيجياًً، والمتنوعة دينياً، والغنيّة بمواردها وطاقاتها، لاسيما بوجود النفط والغاز.
   أعتقد أن توازن القوى بين التيارات الإسلامية والمدنية في تونس ومصر، يدفعها إلى التقارب السياسي لتجاوز حالات الانقسام والشك والريبة وعدم الثقة، فالسياسة هي دائماً كذلك: صراع واتفاق مصالح على مرّ التاريخ، ولعل كلا الفريقين يدركان مصادر قوتهما ومصادر ضعفهما، ولهذا سيظلاّن بحاجة إلى بعضهما، ولعلّ الأمر يحتاج إلى نوع من التوازن والتوافق سواءً طال الأمر أو انفرط العقد.
إن التيار المدني أو العلماني الموزّع بين عروبيين واشتراكيين ويساريين يعمل مع النخبة وحضوره في الشارع ضعيفاً وهو غير موحّد أو إذا توخيّنا الدقة فهو مفتّت، ولكن تأثيره في أوساط النخبة والمثقفين بشكل خاص وفي مراكز الحضر والمدن الكبرى قويّاً، وخصوصاً نفوذه الفكري، لاسيما في الإعلام  والثقافة والفن والأدب والحداثة والتجديد، ولا يمكن للتيار الإسلامي تجاوزه، كما أن الدخول بمعركة معه ستكون خاسرة مستقبلاً، خصوصاً وهناك بيئة دولية ضد التيار الاسلامي وتشكك في أطروحاته، وهو يريد أن يثبت أنه ليس معادياً للديمقراطية وليس استئصالياً أو إقصائياً، ولذلك فسيكون في أشد الحرص على إشراك القوى الأخرى للظهور بالمظهر الإيجابي عالمياً، ويسعى لتجنّب الصدام أو تأجيله مع التيار المدني الذي سيكون صوته عالياً وقد يكون أكبر من حجمه.
ويدرك التيار الإسلامي مصدر قوته فهو يعمل مع القاع في القواعد، لاسيما في المناطق الشعبية والفقيرة وحتى النائية، وحيث ما يوجد الله يوجد التيار الإسلامي، وقد بنى له قاعدة كبيرة في هذه المناطق بعد أن كانت في سنوات الاربعينيات والخمسينيات بيئة أكثر ملائمة لانتشار الأفكار الاشتراكية واليسارية والشيوعية.
وحين انصرف اليساريون إلى المكاتب والصالات، كان التيار الإسلامي في الحارات  والأزقة والقرى والأرياف والقصبات يعمل ويعبئ ويساعد من خلال جمعيات ومؤسسات خيرية وأموال تتدفق عليه، في حين ظل اليسار فقيراً ومعدماً ويتيماً بعد غياب الاتحاد السوفييتي، وقد لامس التيار الإسلامي بعض هموم الناس ومشكلاتهم في الخبز والحرية والعمل والسكن والدواء، إضافة إلى الجوامع وتأمين قوافل الحج وتيسير أمور الزواج وغير ذلك، في حين كانت القوى اليسارية تستصغر الحديث عن هذه الأهداف المطلبية وتنصرف في الغالب إلى التنظير والجدل العقيم أحياناً.
ولأن عالم السياسة " واقعي" فهو يتطلب الحلول الوسط والبرغماتية من جميع الفرقاء، ولا سيما التيار الإسلامي الذي يمثّل القوة الأكبر حيث سيكون الأكثر برغماتية ووسطية للوصول إلى ما هو مشترك، ولهذا كانت تصريحات الغنوشي ولاحقاً مرسي بشأن حقوق المرأة إيجابية أو تطمينية على أقل تقدير.

في شأن الانقسام الحاصل بين القوى الإسلامية والقوى المدنية في مصر وتونس:هل تعتقد شخصياً في احتمال تجاوز  هذا  الانقسام؟ وهل ترى – موضوعياً- إمكان توظيفه لنجاح  مرحلة التحوّل الديمقراطي في هذين البلدين؟

أعتقد أن ضغط الواقع سيفرض نفسه على القوى الإسلامية والمدنية لتجاوز الإنقسام الحاصل بينها، لاسيما في الخلفيات الآيديولوجية والمنطلقات النظرية، ولن يدور الخلاف اليوم كما كان حاداً وصارماً في الخمسينيات  والأربعينيات حول الإيمان والإلحاد، وحول قيم السماء وقيم الأرض وحول الحلال والحرام، بل سيتخذ من الواقع المعقد، المتشابك، سبيلاً لصياغة برامج سياسية لكلا الفريقين أقرب إلى الواقع، وذلك ضمن ضرورات تمليها الحياة وفي إطار توجّه براغماتي، بحثاً عن التوافق وتوازن المصالح، والسياسة في نهاية المطاف هي صراع واتفاق مصالح، منذ بدايات التاريخ وإلى نهايته إن كانت له نهاية.
ولعل تجربة التوافق الثلاثية التونسية: رئيس وزراء (من النهضة ) ورئيس جمهورية (عروبي، علماني، ديمقراطي) ورئيس برلمان (يساري ديمقراطي) خير دليل على أن حزب النهضة الإسلامي وبكل براعة قائده الشيخ راشد الغنوشي، سعى للتوافق مع خصوم آيديولوجيين في إطار حلف سياسي، يضمّ الأهداف المشتركة للفرقاء الثلاثة، في المرحلة الانتقالية، على الرغم من فوزه في الانتخابات، كما سعى لدعم تلك التشكيلات من المجتمع المدني ومؤسساته التي حظيت باهتمام كبير في الإعداد للانتخابات وفي المجلس التأسيسي وفي الأطر الدستورية المنشودة.
للضرورة أحكام كما يقال، وستكون أية توافقات بين الأخوان والقوى الأخرى، لاسيما في إطار صياغة الدستور وقبل ذلك تشكيل المجلس الدستوري، والاعلان عن تشكيل مؤسسة الرئاسة والتوجّه الذي سيتبلور على هذا الصعيد، عاملاً إيجابياً لدفع عملية الانتقال الديمقراطي إلى الأمام واستعادة الدولة لهيبتها ومكانتها وتوظيف ذلك لنجاح التوافق الوطني في المرحلة الانتقالية المعقّدة والقاسية، وهي مرحلة تتطلب تطبيق قواعد العدالة الانتقالية، التي تتلخّص في كشف الحقيقة كاملة عمّا حصل في الماضي ولماذا حصل ومساءلة المتهمين وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني.
الحياة ستجبر التيارين الإسلامي والعلماني (المدني) على التوافق، مهما كانت شقّة الخلافات الآيديولوجية بينهما، فالعزل السياسي والتهميش والإلغاء والإقصاء أصبح  من تراث الماضي، ولم يعد الوضع الداخلي، ناهيكم عن البيئة الدولية، ولاسيما بعد الربيع العربي، تتقبّل مثل تلك السياسات التي تستأثر بالسلطة وتنفرد بالحكم، دون مشاركة لبقية الفئات مهما صغرت،وخصوصاً تلك التي تعبّر عن تنوّع ثقافي وتعددية قومية أو دينية.
سيكون التعاون الوطني على الرغم من التجاذبات والاستقطابات والتحضير لجولات قادمة ومنافسات مشروعة وغير مشروعة، ضرورة لا غنى وهي اختيار في آن، فليس بإمكان أحد مهما كانت شعبيته ومهما حصل على مقاعد في البرلمان حكم تونس أو مصر أو غيرها لوحده، باعتباره تياراً سائداً أو "حزباً قائداً" مدعوماً بأوسع الجماهير، وقد فشلت تلك الأطروحات، وآن الأوان للإقرار بالتنوّع والتعددية وتداولية السلطة سلمياً في إطار حكم القانون والتطور الدستوري السليم واستقلال القضاء.

إذا سلّمنا أن جوهر المأزق الحضاري العربي  يكمن في الفجوة المعرفية التي تفصلنا عن كلّ الدول المتقدّمة  والتي تؤكدها الأرقام  والمؤشرات العالمية... فكيف السبيل إلى سد هذه الفجوة المعرفية؟ وهل من أولويات يتعيّن البدء بها على المدى العاجل؟
إن محاولة تجاوز المأزق الحضاري العربي والذي يكمن في الفجوة المعرفية التي تفصلنا عن الدول المتقدمة يتطلب تشخيص واقع الحال، فهناك دول عالمثالثية إهتدت إلى وسائل ناجعة لتجاوز هذه الفجوة مثل الهند وماليزيا وكوريا والصين وغيرها. ولعل التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي للعام الثاني على التوالي كان قد تناول الملفات الأساسية التي على صلة بمؤشرات التنمية  في مجتمعاتنا وقد أجملها بالمعلوماتية والإعلام والتعليم والإبداع والحصاد السنوي، والأمر يشمل جميع جوانب التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية، الأمر الذي يعكس الهوّة بين العالم المتقدم وبين مجتمعاتنا في الحقول المختلفة.
ولعلّ السبيل الأول الذي يمكن بواسطته ردم الفجوة يكمن في توفر إرادة سياسية، لتأمين مستلزمات التغيير، فعلى الصعيد التشريعي، فالأمر بحاجة إلى منظومة قوانين تتواءم مع القوانين العصرية في الدولة الحديثة، لاسيما التي تحترم الحق في المواطنة والحق بالمساواة باعتبارهما  ركنان أساسيان لا يمكن للدول أن تتقدّم دون تأمين مستلزمات احترامهما، فالمواطنة السليمة والمتكافئة تحتاج إلى أجواء من الحرية، التي هي مفتاح بقية الحقوق.
ولعل السبيل الآخر لردم الفجوة يستوجب تهيئة المستلزمات لبيئة تعليمية وتربوية سليمة، وإعادة النظر بالمناهج الدراسية وتنقيتها عن كل ما يتعارض مع حقوق الانسان، وتكييفها لما يستجيب للتطور الكوني، وبثّ روح المساواة والتآخي القومي والديني بين المكوّنات المختلفة وتوفير حرية البحث العلمي والأكاديمي، وضمان تربية متوازنة ولاسيما للنشء الجديد ومن الطفولة إلى الجامعة،  بحيث تعزز من كرامة  الفرد وحريته وتنمّي العوامل الإيجابية  في شخصيته. ويحتاج الأمر إلى إعلام متوازن  ومنفتح وحرّ وكذلك إلى مجتمع مدني قوي يكون مكمّلاً وشريكاً للدولة، لاسيما في صنع القرارات الأساسية.
   إذا كانت فكرة الديمقراطية تمثّل الحداثة، فانها ليست مقطوعة الجذور عن التراث وهناك نماذج مهمة من الأبحاث والدراسات في العالمين العربي والإسلامي  عن الإصلاح والحداثة والتطور وحقوق الإنسان، إذْ أن قطع الصلة مع التراث يؤدي  إلى التغريب، فالحداثة لا تعني قبول الوصاية والاستتباع الفكري والثقافي، كما أن عدم قبول الوصاية أو التبعية، لا يعني الانغلاق والعزلة عن التطور الدولي والتجارب العالمية، فالفكر هو الذي يتجاوز الجغرافيا والجنسية والعرق والدين واللغة وغيرها من التصنيفات التي تؤدي  إلى حشره في دائرة ضيقة.
إن استلهام التراث ومواكبة التطور العالمي، لا بدّ أن يسيرا في خط متواز، وليس متقاطعاً، فالشورى وإنْ كانت لا ترتقي  إلى مفهوم الديمقراطية الحداثوي العصري، الاّ أنه يمكن اعتبارها نوعاً من المشاركة الأولية وترجيح الرأي "وأمرهم شورى بينهم "، ومصطلح " أهل الحل والعقد "، و"مبادئ العدل والانصاف " في التاريخ العربي- الإسلامي  مرتكزات أساسية للدولة العادلة وللحكم الصالح، تلك التي يمكن أن تشكل قاعدة يمكن البناء عليها، خصوصاً في بعض البلدان التي ما تزال شديدة المحافظة، أو لم تشهد وجود دستور عصري أو انتخابات لاختيار ممثلي الشعب.
   وقد لاحظ رفاعة الطهطاوي في كتابه "تخليص الابريز في تلخيص باريز" أن مفهوم الحرية "الفرنسي " هو ما نطلق عليه مصطلح " العدل والانصاف " فالحرية تعني المساواة بحيث لا يجور ( من الجَوْرْ ) حاكم أو سلطان على بشر أو إنسان، بل أن القوانين هي المحكّمة والمعتبرة.
   وبدلاً من العودة  إلى التراث، الذي يضع العدل والانصاف مرتكزاً أساسياً للدولة العادلة يسود ضعف احترام حقوق الانسان، بل يُطرح الموروث والتقاليد البالية عوضاً عن ذلك. وهنا يتم التشبت بدور العشيرة، أو الطائفة أو المذهب أو الدين أو الجهة، وكل ما له علاقة بالتعصب، خصوصاً النظرة الدونية  إلى المرأة في محاولة لتهميش دورها، والتنكّر لحقوقها ومساواتها الكاملة في مخالفة الكرامة الانسانية، التي ضمنها كتاب الله – القران الكريم، وكذلك الموقف الاستعلائي من الاقليات القومية والدينية وغيرها. علماً بأنني أميل إلى استخدام مصطلح " التنوّع الثقافي" بدلاً من الأقليات أو الجماعات القومية والدينية.
واذا ما أضفنا  إلى كل ذلك عوامل موضوعية كالجهل والفقر والمرض والأمية، وخصوصاً التوزيع غير العادل للثروة ونقص الوعي الديمقراطي عموماً، فان الكوابح الداخلية تشكل عائقاً أمام مسألة التحول الديمقراطي والانتقال  إلى الحكم الصالح وإجراء تغييرات تنسجم مع روح العصر.
   إن ضعف وهشاشة الدولة الحديثة وعدم وجود تقاليد ديمقراطية أمور أدّت  إلى سيادة الإستبداد خصوصاً في ظل إنعدام الرقابة والشفافية والمساءلة، فضلاً عن الفساد الإداري والمالي لأجهزة الدولة، لاسيما دمجها أحياناً في إطار منظومة سلطوية، سواءً كانت تشريعية أو تنفيذية أو حتى قضائية، بما يؤدي  إلى قيام سلطات مطلقة بعيداً عن الفصل بين السلطات وتأمين استقلال القضاء، أحد أركان الدولة العصرية.
   ولا بدّ هنا من الاشارة  إلى الانقلابات العسكرية ودور الجيش في تخريب الحياة المدنية السلمية وعرقلة تطورها.
    وبحجة العدو الخارجي جرت مصادرة الحريات العامة وفرضت أحكام الطوارئ، الأمر الذي ساعد على وصول الجيش  إلى قمة السلطة السياسية، وقيام  أنظمة "الحزب الواحد" والدولة التسلطية الشمولية وزاد الأمر تعقيداً محاولة استنساخ تجربة البلدان الاشتراكية من طرف دول " التحرر الوطني"، كما أطلقنا عليها مع إهمال خصوصية الوطن العربي وتطوره التاريخي.

هل ترى أن العرب بحاجة إلى مشروع عربي يكون بديلاً من أيّ مشاريع إقليمية أو دولية غير عربية؟ وما هي برأيك الأسس التي يجب أن ينطلق منها هذا المشروع العربي المنشود؟

   أعتقد أن الحاجة إلى " مشروع" عربي جديد مسألة في غاية الأهمية لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على نحو جديد وديمقراطي، ولعل هذا المشروع يمثّل حاجة وخياراً في آن، لاسيما بصعود ثلاث مخاوف أساسية تسللت  إلى  الواجهة السياسية أو وجدت طريقها إليها ترافقاً مع ربيع الحرية والكرامة الذي حلّ على العالم العربي، فقد ارتفع قلق وهاجس بعض الجهات والجماعات من حضور القوى الدينية أو السلفية، إما لاعتبارات آيديولوجية أو دينية بصبغة طائفية أو لأسباب سياسية أو اجتماعية وهكذا، لكن هذا القلق لم يكن الهاجس الوحيد لدى هذه القوى التي بقيت متخوّفة أو متردّدة أو حتى مرتابة من التغيير لهذا السبب،  بل كان الخوف من الفوضى موازياً للخوف من القوى الإسلامية، لاسيما بعد تجربة "الفوضى الخلاقة" التي ضربت أفغانستان ومن ثم العراق ، بعد احتلالهما العام 2001 و2003، على التوالي.
 يضاف  إلى ذلك، الخوف الكبير والقلق العميق من محاولات الاستغلال الخارجي،  لحركة التغيير سواءً من خلال توجيهها أو التأثير عليها.
إن فكرة عقد اجتماعي عربي جديد يمكن أن تستند  إلى مشروع نهضوي عربي جديد هو الآخر أصبح لا مناصّ منها للقوى الحيّة الحاملة لعملية التغيير والنهوض ناهيكم عن التحديات المشتركة التي تواجه العرب، خصوصاً التنمية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والأمن القومي.
ولعل الوحدة العربية بمنظورها الجديد يمكن أن تكون ديمقراطية الاسلوب بالضرورة، أي ألاّ تفرض فرضاً وإنما ينبغي أن تقترن برضا شعبي ومن خلال الاختيار الحر الديمقراطي وعبر صندوق الاقتراع أو الاستفتاء، بحيث تكون وحدة شعبية وليست فوقية أو انقلابية أو احتلالية أقرب  إلى الضم والإلحاق. ولعل وحدة تقوم على الخيار الديمقراطي فإن ذلك سيعني ذلك أنها تستند إلى مؤسسات دستورية منتخبة، ونظام يكفل المساواة وحقوق الإنسان  ويحقق المواطنة التامة، كما لا بدّ له أن يحمي التنوّع الثقافي، للجماعات الدينية والعرقية في الوطن العربي وحقوقها العادلة والمشروعة.
أما صيغة الوحدة العربية فقد تكون أقرب  إلى الدولة الفيدرالية (الاتحادية) وقد فشلت حتى الآن جميع التجارب الاندماجية التي حسبما يبدو أن شروطها غير ناضجة، ويمكن أن يكون مدخل الوحدة تدريجياً واقتصادياً طويل الأمد يعتمد على وسائل وأساليب تعددية ومتنوعة وهو لا يشترط انضمام جميع الأقطار العربية اليه مرّة واحدة، بل يمكن لمن لديه جهوزية لذلك وتوفرت الشروط المناسبة لانضمامه.
أما مضمون الوحدة فهي مطلب للمجتمعات وليس حكراً على طبقة واحدة، لكنه دون أدنى شك ينبغي أن يصب في مبادئ العدالة الاجتماعية باعتباره أحد أركان المشروع النهضوي العربي الجديد، ولعل نقيض التخلف والنمو القاصر في ظل العولمة هو التنمية المستدامة المستقلة باعتبارها ركناً من أركان المشروع النهضوي.
لقد فشلت التنمية في تحقيق التقدّم في مرحلة ما بعد الاستقلال، وظلّ الاقتصاد العربي بجميع أقطاره يعاني من التخلف والتبعية في بلدان اليُسر وفي بلدان العُسر. وازداد الاعتماد على النفط ومشتقاته، الأمر الذي عمّق الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي، الذي يقوم على المضاربات العقارية والمالية وتراجعت القطاعات المنتجة الزراعية والصناعية، وقد إزدادت المجتمعات العربية فقراً على الرغم من زيادة مردوداتها.
لا تقوم التنمية المستقلة بحسب المشروع النهضوي العربي على فرضيته الأولى " الاكتفاء الذاتي"، و"الانقطاع عن العالم" ، أو فرضية الثانية أي "الاندماج في السوق العالمي"، بل تعني الاعتماد على القوى الذاتية للمجتمع في المقام الأول، وفي مقدمة ذلك القدرات البشرية والمدخّرات الطبيعية، والتعامل الصحيح مع العولمة. وأهم مبادئ التنمية المستقلة هي تحرير القرار التنموي من السيطرة الأجنبية وإعتماد مفهوم واسع للرفاه الإنساني كهدف للتنمية، يتجاوز المكوّنات المادية  إلى المكوّنات المعنوية للتنعّم الإنساني مثل الحرية والمعرفة والجمال، والاعتماد على المعرفة