المحرر موضوع: كرمليس وحنين المغترب قصة قصيرة  (زيارة 1876 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل salim Maroki

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 50
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني



كرمليس وحنين المغترب


سلام مروكي
ملبورن/أستراليا



قصة قصيرة





وقف المغترب أمام شرفته الصغيرة المطلّة على الحديقة الخلفية، تأمل كيف تشابكت دالية العنب الكثيفة مع شجرة التين المكلّلة بالثمار اليانعة فدغدغ هذا المنظر خياله  وحرّك في إعماقه حنينه الى الوطن وذكريات قريته الجميلة كرمليس ومزارعها العامرة بالخير. تذكّر براءة الطفولة فيها وشقاوة شبيبتها المغامرة وحياة أهلها الموسومة دوما بروح البساطة وطيبة القلب. كرمليس لم تفارق وجدانه أينما حلّ وأرتحل، تحتل محور حديثه في مجالس السمر، فهو يحفظ تاريخها بكل تفاصيله وأسماء أبنائها بإختلاف أعمارهم، تحمل جعبة ذاكرته كل حكاياتها المرّة والحلوة، ديدنها بلسم لمحنة إغترابه.

تسمّرت يداه على سياج الشرفة كأنه يقود طائرة خارقة لتقلّه بلمحة بصرالى معقل أبائه فيهبط في البيت الذي تربى وترعرع فيه ليتفقّد الدار والجار وعلى إيقاع  ناقوس كنيسة مار أدّي وصياح ديكة الصباح تتسارع خطواته  بأزقتها العتيقة  وخياله يصوّر تلك الدور وساكنيها ليعتلي تلّ القدّيسة بربارة فيحتضن بأذرعة قلبه ذلك المنظر البانورامي منتشيا بعبق ترابها الأزلي.

بدأ يتنقل بناظريه من المزار المقدّس الى كرم الدكتور لينتصب أمامه تل الغنم في حلّته الربيعية فيتخيّل كيف كان هذا الموقع مرتعا لقصص الحب  وملتقا للشباب والصبايا في أيام الأحاد والأعياد ولدى حلول موسم الصيف كانت بيادره كخليّة نحل لنقل الغلّة  وتصفيتها وبعد مغيب الشمس يجتمع الشغيلة على المحبّة للسمر تحت نور القمر فتتعالى قهقهاتهم هنا وهناك من نكات العم جريجيس كادو الألقوشي ومقالبه الساخرة .

هزّ المغترب راسه لما يخفي هذا التّل تحت ترابه من كنوز أثرية لملوك أشور وتألّق حضارة الإنسان الأولية ثم رفع بصره من عمق الثرى ليعاين أمامه طاحونتي المرحومين زيّا  ومتي حداد وذكريات مراحل تحضير القوت وخزن المؤونة، ولدى مفترق الطرق إندثرت معالم دير مار يونان ليتحول الى أول مدرسة إبتدائية تزيّن فضائها أشجار الفستق. تسمّرت عينيه في بقايا كنيسة مار كوركيس القديمة وأسترحم الأرواح  الطاهرة لأباء وأبناء بلدته الذين حوت مقبرتها رفاتهم. تذكّر مقهى منصور بني كيف كان محطة لإستراحة المسافرين الى قرقوش وسوق القرية العامر بالحياة والخير، كانت بلدته مكتفية ذاتيا من كل المحاصيل الزراعية والمهن الصناعية والخدمية لا بل كانت معين خير للبلدات المجاورة. هنالك ينتصب بيت الراهبات اللواتي كرّسن أنفسهنّ لتعليم  صغار البلدة، كم كان يحلو لهن مشاهدة جلسة الشيوخ  والشبيبة أمام بابهن المقابل لدكان المرحوم صليوه الشابي لتداول حلو الحديث ومشاكل القرية، أما بيت المختار بابكا المهيب فمازال شاخصا يقص حكايات إدارة البلدة أيام المحن وكيف تشحذ منه الهمم لصيانة كرمليس وحماية أهلها ثم إنتقل بخاطره الى الطراز الإعماري القديم لقنطرة كنيسة مريم العذراء  فإستأنس لنسيمها العذب في موسم الصيف الحار.

تذكّر المغترب عيد شفيعة البلدة القديسة بربارة الذي كان له وقع خاص في قلب كل كرمليسي، يستعدّ له الجميع روحيا ومدنيا فبعد الصلاة ونيل البركات يتسلّق الجميع أعالي التّل وهنالك   تتزاوج الطبيعة بألوان حلّتها الربيعية المزهرة مع أزياء الصبايا الجميلات لترسم الفرح الكبير على الوجنات وبينما كان خياله يداعب تلك الذكريات تجلّت أمامه ساحة تجمع الماشية (بوقرا) وعودة القطعان من المراعي وضجة المساء تحت ضوء البدر، لقد تحولت هذه الساحة الى حديقة عامة تحيطها الأشجار الباسقة لتضحي مسرحا صيفيا للإحتفال بالمناسبات البهيجة، أه وأه لفرحة الأعراس في بلدتي كيف كانت تتشابك الأصابع الناعمة بالأيادي الخشنة لينسج الشباب والصبايا حلقة كبيرة وعلى إيقاع الطبل والمزمار وهلاهل الأمهات يتفنّن المحتفلون بجنون وعنفوان الرقص الفلكلوري مرددين معا بفرح تلك الأغاني الشعبية المألوفة (  صبرثا جلبي دبريّا ... ويا جماقة مدكلانيثا ... وطرشي وكاري وزلاطة)  التي نظمها الشاعر المبدع المرحوم اسماعيل متي وأغاني أخرى كأغنية يما الثوب داريا التي كان يجيدها  أدائها المخضرم المحبوب عتو نجمان. كان الهمّ الأول لصاحب العرس  سقي الراقصين كؤوس العرق الزحلاوي والخمر المعتّق ليديم نشوة فرح الوليمة حتى الساعات المتأخرة من الليل.

تألّم في خلوته من قساوة الزمن التي شتّت أبناء بلدته الطيّبين فأجادت مقلتيه بالدموع حنينا الى الذكريات. وبغتة إستيقظ من حلمه منتشيا  وناسيا ألام ظهره المزمنة ليتسارع بلمحة بصر الى القبو ويتناول المعول مرددا مع نفسه سوف أحوّل حديقة بيتي الى مزرعة شبيهة بمزارع كرمليس لتذكّرني بها يوميا.  إنهال على الثيّل والأدغال دون توقف ليحوّل تلك الأرض بعد بضعة ساعات الى مربعات متساوية ثم تناول من مخزنه البذور الاصلية التي جلبها له أحد أصدقائه من كرمليس فزرع الخيار والطماطة واللوبياء والقرع والفلفل والباذنجان والبصل والترعوز وحتى البطيخ والرقي وصار يسقيها كل صباح ومساء. أصبحت مزرعته تسليته الرئيسية بعد تقاعده من العمل، ينهض منذ الفجر ليتفقدها ويتابع نموها بشغف مستذكرا خاله المرحوم إيشوع قرمزا كيف كان يبدع في هندسة مزرعته ونظافتها متباهيا بجودة ثمارها أمام بقية فلاحي القرية.

أينعت المزرعة بثمارها بعد بضعة أشهر ولكي يتعايش المغترب مع متعة الإنتماء الى بلدته  تتوشح زيّ الفلاحين بإرتداء الدشداشه يتوسطه حزام عريض من الجلد لافّا رأسه بالكوفية الحمراء لينطلق كل صباح ويجني ما وهبته الطبيعة من محصول وفير. لكنه تفاجأ عندما تناولها، إنها لذيذة لكنها لا تحمل طعم خيار وطماطة كرمليس الشهيرة، تسائل مع نفسه كانت خضراوات كرمليس تفوح بعطر غريب  ونكهة لا مثيل لها. عندها تيقّن المغترب بأن الأرض ليست أرض كرمليس والماء ليس من نبع ترجلاّ والهواء ليس من بقاع بلاد الرافدين،  وهنا بدأت فكرة العودة الى وطنه تدغدغ مخيلته المتعبة من عذاب الغربة .


Salim_maroki@hotmail.com


غير متصل sabah s kawisa

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 593
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الاخ لكريم سلام مروكي المحترم

شكرا على سطور قصتك القصيرة ،لكني قرات فيها امتدادا طويلا وعميقا في مديات الذاكرة ، مسترجعا الروح الى حيث مدافن الذكرى ، فاحييت ماكان مطمورا تحت مطارق الهموم والصخب ، باركك الله والى مزيد من العطاء .

الشماس صباح يوحانا
  مـــالبـورن

غير متصل قيس جبرائيل شكري

  • عضو مميز متقدم
  • *******
  • مشاركة: 7150
    • مشاهدة الملف الشخصي
الاخ سلام مروكي المحترم :

قـصـّة ٌ قـصــيـرة السّـطـور      فيها المعاني بأجمل شعور
لكرمليس مـَحبـة في القلب ِ      أمـسُ واليـومُ وكلَّ الـدهـور

تحياتي ياأخ سلام لهذا النص الجميل ...

              اخوك
     قيس جبرائيل شكري

غير متصل salam maroki

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 114
    • مشاهدة الملف الشخصي
أخي العزيز صباح

شكرا لمداخلتك وكلماتك الشعرية النابعة من نبلك يا طيّب، الحقيقة أردت من هذه القصة تأكيد إنتمائنا الى أرض الأجداد البعاد عنها. ستبقى متعة الإنتماء في جيناتنا أينما كنّا. إنها قصة كل مغترب

أخي العزيز قيس

مسرور للإلتقاء بك ومتابع لأشعارك الرائعة أين وصل بك الدهر يارجل؟.  أشكرك لمرورك على قصتي ولشعرك النابع من الأعماق
[/size]