الرحالة سفين أندرز هدين
وصورة الموصل خلال الحرب العالمية الأولى صلاح سليم عليمقدمة:يشاكه البحث التاريخي احيانا الأستكشاف الجغرافي الذي لايتحقق إلا في خوض تجربة التحرك في المكان واستكناه التجربة التاريخية لفرد أو أمة برمتها بطريق اقتفاء خطى ذلك الفرد وتلك الأمة في المكان..والتجربة الزمانية، على الرغم من أولويتها على التجربة المكانية، تتخذ إذن تجسيماتها كاملة او تكاد من خلال التجربة المكانية لأن الحركة توحد الفكر والجغرافيا او الزمان والمكان في إطار التجربة المعاشة سواء في حقيقتها التاريخية أم في امتثالاتها التخيلية..ويشبه الإكتشاف المعرفي الأستكشاف الجغرافي من حيث كون الظاهرة التي يصار الى أكتشافها أو استكشافها موجودة ..ولكنها تبقى حتى لحظة إكتشافها خارج طائلة الوعي الإنساني..وهنا لابد من التفريق بين العام والخاص من خلال هذه التجربة فالأستكشاف الجغرافي مهما تعددت دوافعه وأهدافه عام سرعان مايصبح كالأنترنت والهاتف النقال ملكا للبشرية جمعاء غير أن الأكتشاف المعرفي خاص وان انتقل الى الدائرة الإجتماعية يبقى محدودا بزمن معين او لغة معينة او مجتمع ما..ويصبح اكثر خصوصية اذا كان نتاجا معرفيا ادبيا او شعريا فيكون خاصا بحضارة بحدها ومجموعة لسانية معينة لابد من نقل معانيها بطريق الترجمة ..ونستثني من ذلك النتاج الفني كالتصوير والموسيقى والنحت والزخرفة والعمارة وغيرها مما يكسر الحدود القومية والحضارية واللسانية لأنه يقع خارج الكلام، و يخاطب العين والأذن مباشرة ولايحتاج في نقله لمترجم او ترجمان..
وبحكم إتساع العالم وتعدد الشعوب والأمم وتنوع تجاربها الحضارية وتقاطع حدودها الحضارية واللسانية تتعدد التجارب الفردية وتتنوع..وتبدو مهمة الإحاطة بها شبه مستحيلة على الرغم من توفر الموسوعات المتنوعة والمؤلفات والوثائق وتيسر المعلومات بطريق الشبكة العنكبوتية ..مما يدعو البحاثة المتخصص او الهاوي، كما هو الحال معي، إلى تضييق مجال البحث ليشمل مرحلة معينة من مراحل التاريخ في مضمار صلتها بمحور ما، كأن يكون مدينة او حقل معرفي أو مرحلة تاريخية أو مدرسة فكرية ثم الإنتقال الى حلقة أخرى وهكذا دواليك ..وهو جهد سرعان مايكتشف البحاثة أنه أمضى ردحا ليس بقليل من الزمن في استقصائه والإلمام بأطرافه وقد امتدت وانتشرت وفقدت الوانا واكتسبت الوانا أخرى ..وذلكم ديدن العارف الموسوعي..الذي سرعان مايدرك انه في قلب ثقب أسود يساهم في ميلاد كون آخر على انقاض هلاك أكوان أخرى..وهذا عناء يدعوني إلى التمسك بأطراف أثواب فلاسفة أختصروا التجربة الإنسانية افتراضيا وتصوريا من امثال لايبنتس ولابلاس وكانت وهيجل، وربما توسعا،رينيه ديكارت و أدمند هسرل..وعلى اية حال يحمل الفرد كما قال ادونيس [شعريا] اسراره كما تحمل البراكين حممها في اعماقها ويموت ..كما تموت البراكين بعد ما تركت في رماد حريقها ارضا خصبة معطاء للزارعين والحاصدين والآكلين..غير أنه لايلبث ان ينبعث مجددا في عصر آخر وفي مكان آخر..بطريق ماتركته روحه من بصمات في صفحات الأبداع والمحاولة الأنسانية الكبرى في كشف اسرار العالم والسيطرة على الطبيعة..
وتلكم إحدى نتائج تجربتي المعرفية في الكتابة عن الرحالة السويدي سفين أندرز هدين في رحلته الى العراق ووصفه الموصل بعد طوافه العالم مقتفيا خطى الأسكندر المقدوني وماركو بولو.. ولعل انجاز سفين هدين في ميدان الإستكشافات الجغرافية وادب الرحلة يتجاوز انجاز ماركو بولو..فقد حقق بمفرده مايندر ان يحققه اي رحالة آخر في عصره وفي العصور كلها بحيث لايمكن مقارنة منجزاته لفرادتها بأي منجزات أخرى من نوعها..فقد أمضى عشرين سنة في آسيا وحدها متنقلا بين أصقاع لم يرتادها أحد من قبله وانجز 65 كتابا واكثر من 55 تقريرا علميا ومئآت البحوث فضلا عن إلقائه المحاضرات في عواصم عالمية مختلفة خلال النصف الأول من القرن لعشرين. ومن الملوك والقادة الذين قابلهم وتلقى تكريما منهم الملك اوسكار الثاني عام 1890، وشاه ايران ناصرالدين شاه في السنة نفسها، وقيصر روسيا في 1896 و1909، وأجرى لقاءات عديدة بفرانس جوزيف الأول قيصر النمسا-المجر، والتقى عام 1902 باللورد كرزون الممثل البريطاني في الهند، والتقى بالقيصر البروسي ويلهلم الثاني خمس مرات بين عامي 1903 و1936، وبالممثل البريطاني الثاني على الهند اللورد مينتو، والتقى برئيس كهنة اللاما التبتي شوكي نييما 1907، 1914، و1933، وقابل امبراطور اليابان موتسوهيتو في 1908، واالبابا بيوس العاشر عام 1910، وتيودور روزفلت في السنة نفسها، ثم التقى بالسياسي والرئيس الألماني لاحقا فون هندنبرج عام 1915، وبالزعيم الصيني القومي شيانغ كي شيك عامي 1929 و1935 واخيرا بأدولف هتلرثلاث مرات في 1935 و1939 و 1940...وتتجاوز اهتمامات سفين هدين الجغرافيا وعلوم الأرض والطوبوغرافيا والأنثروبولوجيا والخرائط الى الأدب والسياسة والتاريخ والتصوير والرسم واللغات والدبلوماسية..وفيه مسك ختام الجهود التي بذلها الغرب لأستكشاف الأرض منذ ماركو بولو..وبينما تتخلل روايات ماركو بولو الخرافات ويشوبها الخيال، تتصف روايات سفين هدين بالواقعية والعلمية والموضوعية..بل ومنها ماقدم فيه تأويلات علمية لظواهر طبيعية غامضة لم تفسر من قبله كتفسيره لظاهرة البحيرة المتجولة (لوب نور) التي تغير مكانها في حوض نهر تاريم في الجزء الصيني من طريق الحرير ووضح تلك الظاهرة في كتاب عنونه (البحيرة المتجولة)، كما استظهر مدينة لولان الغائبة تحت رمال صحراء لوب والتي كانت محطة التجار عبر طريق الحرير..كما اكتشف الجبل المقدس كايلاش في هملايا التبت وهو مصدر انهار الهند ك انجا وبراهامابوترا وسوتلج والإندوس ومقر الإله شيفا وطريق بوذا الى النرفانا..وهو جبل تحيطه الأساطير اشبه بهرم مربع الأضلاع تغطيه الثلوج طيلة أيام السنة تقع في سفحه اعلى بحيرة في العالم. وتكريما لجهوده العلمية الفذة أطلق اسمه على نهر جليد في كندا وعلى أحدى فوهات القمر وعلى نوع من النباتات الزهرية ونوعين من خنفساء الرمال وعلى نوع من الفراشات وعلى نوع من السحالي الصحراوية و نوع من المتحجرات فضلا عن إطلاقه على عدد من الشوارع في الكثير من البلدان واقيمت له نصب وتماثيل في السويد وغيرها..هذا فضلا عن معرض دائم لكتاباته ومعداته ورسومه في المتحف الأثنوغرافي في ستوكهولم..وقد زار كاتب المقال المتحف وصور عددا من الكتب والمقالات والصور ذات الصلة برحلة سفين هدين الى الموصل و قد دونت العبارة الآتية على نصب كرس لتخليد منجزاته: (موطنه السويد أماعالمة فمفازات آسيا ومجاهيلها).
ثقافته ورحلاته:
ولد سفين أندرز هدين في ستوكهولم في 19 شباط عام 1865 مما يضعه ضمن مواليد برج الحوت الذي انعكس في شخصيته الأريحية المحبة للحرية وميله الى الأدب والمغامرة..والمطاولة منقطعة النظير..في اسرة محافظة تنتسب في احدى تفرعاتها لنبلاء السويد وكان والده لودويج هدين المهندس المعماري الأول للعاصمة السويدية ستوكهولم..وجده الأول لأبيه طبيبا خاصا للملك كوستاف الثالث..وكان سفين هدين في الخامسة عشرة من عمره عندما خرجت ستوكهولم للترحيب بعودة المستكشف السويدي ورائد علم الخرائط أدولف إريك نوردنشالد (1832-1901) لمنطقة القطب الشمالي من رحلة عبر الممر الشمالي الشرقي للأطلسي وهي المناسبة التي ولدت في روحه حب المغامرة والأستكشاف الجغرافي.
وبعد إنهاء دراسته التحضيرية، شرع بأولى رحلاته عام 1885-1886 في روسيا وعبر القفقاس الى باكو ومنها إلى بلاد فارس وتركيا العثمانية والعراق ووثق لرحلته الأولى في كتاب صدر عام 1887 عنوانه عبر بلاد فارس ومابين النهرين والقفقاس قدم له المستشرق الهنغاري أرمينيوس فامبري المعروف بأسم (رشيد أفندي) أستاذ أيجناس كولديزيهر ومساعد مهندس الأصلاحات التركي محمد فؤاد باشا ودليل السلطان عبد العزيز في رحلته الى مصر..وفي باكو عكف على تعلم اللغات الشرقية الروسية والفارسية والأيغورية اضافة الى مخزونه من اللغات الأوربية كالروسية والألمانية والإنكليزية..فضلا عن ممارسته فن الرسم والتصوير البانورامي والطوبوغرافي استعدادا لسيرة طويلة تنتظره من الرحلات في قلب آسيا.
وعند عودته الى أوربا شرع في دراسة اكاديمية لعلم الأحفوريات والجغرافية وعلوم الأرض واصدر كتابا ثانيا حول رحلات المكتشف الروسي لآسيا نيقولاي زيفاسكي (1839- 1888) الذي قدم له نوردنشالد..ودرس في جامعة برلين بأشراف الجغرافي الألماني فرديناند فون ريختهوفن الذي كان أول من أطلق تسمية [طريق الحرير] على الطريق التجاري الشهيرعبر آسيا والشرق الأدنى..وفي عامي 1890- 1891 أختير لعضوية البعثة الدبلوماسية السويدية الى بلاد فارس ثم اصبح بعدئذ رحالة مستقلا في روسيا الآسيوية حيث امضى الشتاء في جبال قاشغر ثم قاشغر نفسها وهي عاصمة تركستان الشرقية التي غير الصينيون اسمها الى شينغيانغ بعد احتلالهم لها عام 1949..وتمخضت رحلته تلك عن كتابين اولهما (سفارة الملك أوسكار)، وثانيهما (عبر خراسان وتركستان) الذي صدر بمجلدين..وقد مكنته هذه الرحلة من توسيع معرفته ببلاد فارس وبخاصة جبل داماوند الذي درسه بالتفصيل ..وعند عودته إلى برلين واصل دراسته لعلوم الأرض التي اختتمها بكتابة أطروحته لنيل الدكتوراه في الجغرافيا عن جبل داماوند في بلاد فارس قدمها لجامعة هالة عام 1892..وقد تعرض لعدوى افقدته البصر في إحدى عينيه ..مع ذلك لم تعرقله تلك الإصابة من مواصلة رحلاته..
وفي عام 1893، شرع سفين هدين برحلة ثالثة كبرى هذه المرة عبر آسيا الوسطى بتمويل من الملك اوسكار أخذته من روسيا إلى سلسلة جبال بامير او (سقف العالم) حيث تلتقي عند همالايا سلاسل الجبال الآسيوية وهي المنجم الذي كان الآشوريون يتزودن منه باللازورد (اللابيزلازولي)..فرسم طوبوغرافيا بامير ثم انتقل الى حوض نهر تاريم واستكشف المفازات المجهولة في الصحراء المحيطة بالنهر بحثا عن المدينة الأسطورية لولان بهدف التعرف على طبيعة التغيرات الجيولوجية التي ادت الى اختفائها تحت رمال الصحراء ومن تاريم انتقل الى مارال باشي (رأس الغزال) وتوموشوق عام 1895 ، ثم انتقل الى مواقع مملكة خوطان القديمة على الأطراف الجنوبية لصحراء تكلمكان المأخوة من عبارة عربية معناها (أرض التهلكة أو الهلاك) والتي كاد سفين هدين ان يهلك فيها كما يخبرنا في وصفه لهذه التجربة الفريدة من نوعها:
(في تلك الليلة سرنا لساعات حتى بدأت شمس الرابع من ايار بالسخونة، عندما جثونا عراة على الرمال..وفي الليل واصلنا تقدمنا ولكن على ايدينا وارجلنا معا وبعد كل عشر ياردات نتوقف لنسترد انفاسنا ونعاود الزحف..أردت البقاء على قيد الحياة..وشعرت ان حياتي يجب ألا يرمى بها [تنتهي] على هذا النحو..فوجدنا شجيرات حور ثلاث على بقعة ترابية خالية من الرمال..حاولنا ان نحفر على أمل ان نجد تحتها ماء ولكن الوهن كان أخذ منا وكانت الأرض شديدة الصلابة فلم نحفر أكثر من ستة انجات..ثم ارتمينا على وجوهنا وبدأنا بتغوير التراب باصابعنا وكانها كلاليب يائسة..ولكن لم نقدر ان نحفر عميقا..فتخلينا عن امل ايجاد ماء في هذا المكان واشعلنا النار على أمل ان يراها إسلامباي الذي بقي مع الجمال ويلحق بنا..وهذا ماحدث فعلا ولكني عرفت ذلك فيما بعد..ودارت ليلة الخامس من أيار فنهضنا وواصلنا السير شرقا..كانت خيبة الأمل قد استحوذت علينا تماما.لأن الحور كان قد أعطانا أملا بعد ان تجاوزنا حزاما واسعا من الرمال الماحلة الجرداء..وأخيرا شاهدنا خطا اسودا في الأفق ..فعرفنا انها لابد ان تكون غابة خوطان داريا، فوصلناها مع تزايد حرارة الشمس..وكانت الغابة غاية في العمق والكثافة..غابة سوداء من الأشجار المكتهلة. وشاهدنا آثار حيوانات برية فاستلقينا سحابة النهار كله عراة في ظلال الغابة التي لم نجد فيها اثرا للماء. وفي المساء إرتديت ثيابي وقلت لقاسم أن ينهض..فلم يقدر على الحركة..وراح في نوبة خبال فقد كان مستلقيا على ظهرة مادا ذراعيه على طولهما عاريا فاتحا فاه وبعينين مذهولتين يحدق في الفراغ..فواصلت السير متهالكا..الغابة كثيفة حالكة السواد وتبدو في الليل بلا اتجاه...ولم اكن قد أكلت شيئا خلال عشرة ايام او شربت شيئا خلال تسعة ايام [القصد أنه تقوت مايكفيه للبقاء على قيد الحياة فحسب] ..فجزت الغابة زحفا على اطرافي الأربعة..مترنحا اتشبث بالشجرة تلو الأخرى..وكنت استند على ذراع المعول لكي انهض لأستبيان الدرب حتى وصلت مكانا مفتوحا..هو مجرى نهر "خوطان داريا" الناضب وكأنني لم اقطع غابة بل هضبة ماحلة حل بها الدمار..لم اجد قطرة ماء واحدة ..وادركت ان الموسم هو الأسوء بالنسبة للماء..فالنهر ينضب في الربيع لأن الثلوج التي تغذيه لم تكن قد ذابت في الجبال بعد..لكن لابد من المطاولة ..أريد أن أعيش..سأجد الماء..كنت واهنا تماما لكنني زحفت على أطرافي الأربعة، وأخيرا عبرت مجرى النهر، فسمعت صوت بطة وفوضى تصدر عن تحريك ماء..فزحفت باتجاه الصوت، فرأيت بركة كبيرة من الماء الصافي النقي..فشكرت الله أولا وتحسست نبضي..أردت أن أرى تاثيرشرب الماء عليه..وكان بمعدل 48 نبضة..فشربت...شربت بخوف..وكان لدي علبة صغيرة كان بها شوكلاتة كنت قد رميتها لأني لم اكن اقدر أن ابتلع شيئا، بيد اني كنت واثقا طول الوقت باني سأجد الماء وبأني سأستخدم تلك العلبة القصديرية كأسا لشربه..فشربت وشربت وشربت..وكان شعورا غامرا بالبهجة..شعرت بان دمي يترقرق..وبدأ يجري في شراييني..وأن مساماتي تتفتح..وزادت نبضات قلبي لتصل 53 نبضة..فشعرت بالعنفوان والحياة مجددا..وبينما كنت مستلقيا عند البركة سمعت فوضى أشبه بصوت حيوان يتحرك..ففكرت انه لابد ان يكون نمرا..فهناك نمور في خوطان داريا..ولم أكن لأشعر بأي خوف..فالحياة التي رجعت الي لتوها لايمكن ان ينتزعها مني نمر..فانتظرته بحبور..أردت أن احدق في عينيه..إلا أنه لم يأت لعله يخشى أن يرى انسان..فتذكرت قاسم، فخلعت فردتا حذائي السويديتان وملئتهما بالماء وعلقتهما في نهاية ذراع المعول الخشبي وعدت على آثار قدمي..فبمقدوري أن أمشي الآن..ولكن الظلام أخذ يطبق على الغابة عند وصولي لها فلم اقدر على رؤية آثار قدماي وبدأت اصيح: قاسم! قاسم! قاسم!..ولكني لم اسمع ردا..ففكرت انه ربما يكون قد مات..فأشعلت النار في الغابة - خوفا من النمور- نارا عظيمة فأنارت المكان على نحو رائع ذلك الظلام الغامض الذي يكتنف الغابة البدائية..وشعرت ببهجة عظيمة لرؤية تلك النار..وعند شروق الشمس بحثت عن قاسم ووجدته..فناديت عليه فرفع رأسه قليلا ..فصحت "ماء" فهز رأسه ..اريد أن اموت..فقربت الحذاء من وجهه فانسكب بعض الماء فاندفع مثل وحش ضار ورمى نفسه على آنيتي الماء مفرغا اياهما واحدة تلو الأخرى حتى آخر قطرة ثم استلقى ورفض الوقوف على الرغم من طلبي منه ان يصاحبني الى البركة ليستحم ..فحملته وعدت إلى البركة ..وفي البركة سبحت [اغتسلت] ثم اتجهت جنوبا مع مجرى النهر.. )
تلكم كانت معاناة سفين هدين في صحراء [التهلكة] تكلمكان التي وصفها تجار طريق الحرير بمتاهة الموت..وهي متاهة لم يتمكن من تجاوزها وقهرها في اوقات الجفاف سوى نزر قليل من الرحالة ، لما تتصف به رمالها من قدرة على التنقل وتشكيل الكثبان المرتفعة..بل من غمرها لحواضر وكنوزعديدة تكونت في الأزمنة الغابرة وغارت تحت الرمال...بيد ان سفين هدين واصل سيره..راجلا مرة وراكبا أخرى زاحفا طورا وراكضا أطوارا أخرى، فاكتشف المواقع الآركيولوجية لدندان اوليج (مدينة بيوت العاج) و (قرة دونغ) على طريق الحرير في عمق صحراء تكلمكان ثم درس ظاهرة انتقال بحيرة لوب نور من مكان إلى آخر وتغيرحجمها..وانتقل لأكتشاف الأطراف السفلى لنهر تاريم قبل ان يعبر صحراء كوبي ويصل بكين عام 1897 حتى انهى رحلته بوضع خارطة متكاملة للجزء الشمالي لهضبة التبت..ثم عاد الى السويد عبرسيبيريا فبطرسبورغ التي قابل فيها القيصر..ثم وصل ستوكهولم لينشر كتابين يصف في احدهما تفاصيل رحلته عنوانه (رحلة عبر آسيا) وضمن الثاني التقارير العلمية التي كتبها خلال الرحلة، وفي عام 1898 تلقى ميداليات عديدة اهمها ميدالية المؤسسين من الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية وميدالية فيكا من الجمعية الجغرافية السويدية..
و شرع سفين في عام 1899 في رحلة رابعة الى آسيا بدعم من الملك الروسي الذي زوده بدليل من القوزاق حيث تابع طوبوغرافيا نهر تاريم ودرس بحيرة لاب نور مجددا وزار اطلال مدينة لولان على طريق الحرير ثم استكشف التبت ووضع خرائط متنوعة لها..وحاول ان يزور عاصمة الدالي لاما (لاسا) او المدينة الممنوعة التي حدثنا عنها ماركو بولو، متنكرا.. غير ان رهبان الدالي لاما اكتشفوا امره ومنعوه من زيارتها وارفقوا معه حرسا قاده خارج التبت فعاد عبر لاداخ وكشمير الى كلكتا حيث قابل اللورد كورزون الذي لعب دورا فيما بعد في تكوين تركيا الكمالية ، ثم اتجه الى روسيا ومنها عاد الى السويد عام 1902 حيث منحه ملك السويد اوسكار لقب نبيل وكان آخر سويدي يمنح هذا اللقب..ونشر نتائج رحلته في كتاب بمجلدين عنونهما (آسيا: الف ميل عبر الصحراء) و النتائج العلمية لرحلة في وسط آسيا..واعقب هذا المجلد الضخم باطلس تضمن 84 خارطة نشر له في 1904-1907، ومنح على أثر ذلك ميدالية الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية..
ورجل من طراز سفين هدين لايعرف معنى للأستقرار..وفي قاموسه لانعثر على مفردة للراحة لم يلبث طويلا في ستوكهولم بل شرع في الرحلة الخامسة الى آسيا، الثالثة الكبرى، في سلسلة رحلاته (1906-1908)، واخذته عربته هذه المرة الى شرقي بلاد فارس لدراسة صحراء الملح العظمى المعروفة (بدشتي كافر) والتي نشرها بكتاب عنوانه ( دراسة في طرق شرقي آسيا) 1927، وعندما تهيأ للسفر الى التبت لأنجاز مهمته الرئيسة وهي أستكشاف المناطق الواقعة ماوراء جبال همالايا واجهته صعوبات كثيرة بسبب اعتراض حكومات بريطانيا والصين والتبت على رحلته مع ذلك تمكن من تجاوز الحواجز الجبلية ومسح المناطق الواقعة وراء جبال الهمالايا وكان قد استكشف في رحلة سابقة هضبة التبت في قسميها الشرقي [نين شينغ تانغ لا] والغربي الذي اطلق عليه اسم [كايليس] او [كايلاش] ومازال يعرف بهذا الأسم..فتمكن من استكشاف وتخطيط الجزء الأوسط والأصعب من مرتفعات التبت وبحيراتها فحدد درجات ارتفاع الممرات الرئيسة واظهر التكوينات الجيولوجية..وتوغل الى منابع أنهار الأندوس وسوتلج وبراهمابوترا ثم زار اكبر المدن في المنطقة (شيكاتسي) ووضع خرائط لروافد ألأنهار الرئيسة..وسجل هذه الرحلة بكتابين اولهما (الرحلة برا الى الهند) 1910، و(ماوراء جبال همالايا) 1909-1913، ووثق النتائج العلمية في كتاب اسماه (جنوبي التبت) 1916-1922. وعاد من التبت الى الهند عام 1908 ثم الى اليابان حيث التقى بالأمبراطور الياباني ثم اتجه شرقا على قطار سيبيريا وعندما عاد الى السويد، استقبل بحفاوة من قبل الملك السويدي ووجهاء السويد..
وفي السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى انشغل سفين هدين بالشؤون السياسية ودعا الى اعادة التسلح كما اصدر افضل كتبه مبيعا في ذلك الوقت في جغرافيا العالم (من القطب الى القطب). وعمل خلال الفترة (1914-1915) مراسلا في الجبهات الشرقية والغربية فزار الجبهات الألمانية في بلجيكا وفرنسا والمانيا ولوكسمبورغ ووثق جولاته في الجبهات بكتاب عنونه (مع الجيوش الألمانية في الغرب) 1915 وكان سفين هدين شديد الولاء لألمانيا..وهو ولاء تأكد خلال الحرب العالمية الثانية فقد سافر الى برلين بصحبة شقيقته ..وكان الأجنبي الوحيد الذي القى كلمة في افتتاحية الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936، كما التقى بأدولف هتلر مما تسبب في اتهامه بالنازية..إلا أن الوثائق تذهب الى القول بأنه كان قد وظف نفوذه لدى الألمان في محاولات إطلاق سراح سجناء اوربيين - نرويجيين ويهود - من المعتقلات النازية غير أن اليهود على الرغم من حسن نواياه لم يغفروا له حتى هذه اللحظة صداقته لهتلر وتأييده للحركة القومية ليس في المانيا وحدها بل في العالم باسره..ورأيي ان سفين هدين هيجلي في ميوله السياسية إذ تعود لهيجل فكرة فينومينولوجيا الروح وان الدولة القومية هي التعبير النهائي لروح الأمة..وكان موقفه هذا سببا في قيام جمعية الجغرافيين الملكية البريطانية في وقت لاحق بحذف اسمه من قائمة الشرف للجغرافيين المتميزين في العالم..
وفي عام 1916 توجه في رحلة الى الشرق العربي زار فيها القدس وسوريا فالعراق الذي دخله بطريق حلب فالرقة فدير الزور فعانة فهيت حتى وصل بغداد فزار بابل وعاد الى بغداد ومنها الى الموصل التي أقام فيها لفترة، وتمخضت رحلته هذه عن كتابين هما (الى القدس) 1917، و( بغداد وبابل ونينوى) ---1917 - 1918 ايضا،وهذا الكتاب الأخير هو مصدرنا عن تفاصيل رحلته الى الموصل ووصفه لأحوالها في اثناء الحرب العالمية الأولى. وقد سافر سفين هدين الى الولايات المتحدة عام 1923 ومن نتائج زيارته كتابين هما (الأخدود الكبير) و (حياتي كمكتشف) 1925، فضلا عن اطلس خرائط ثم عاد عبر بكين فمنغوليا ثم موسكو ومنها الى ستوكهولم.
وقام سفين هدين برحلة سادسة الى الشرق هي رحلته الرابعة الكبرى الى آسيا خلال الفترة (1926-1935)، واصطحب معه هذه المرة فرقا علمية وجيولوجية وآثارية ومساحين ومن تخصصات أخرى من المانيا والسويد والدنمارك والصين. فأمضى وقتا في منغوليا وفي الطريق الى حوض نهر تاريم وقع في أسرالقوات المسلمة الثائرة بقيادة الجنرال ما شوا المعروفة بثورة الدنكان او ثورة شيانغ يانغ، ثم اطلق الثوار سراحه بعد التعرف عليه..وكان قد التقى رئيس الحكومة القومية الصينية شيانغ كاي شيك وكتب عنه كتابا لاحقا عنوانه (شيانغ كاي شيك: مارشال الصين) 1940.. كما ساعد الحكومة الصينية عام 1933 في استعادة السيطرة على مقاطعة [شيانغ يانغ] بوضعه لخارطة حدد فيها طريق الحرير القديم الذي استخدمه ماركو بولو لأستعماله لتسيير الآليات.. وقد عكف سفين هدين خلال هذه الرحلة على دراسة بحيرة [لاب نور] المتجولة التي كانت قد انتقلت الى موقعها السابق فشرح سبب الظاهرة ودون ذلك بكتاب عنوانه (البحيرة المتجولة) 1940 آنف الذكر.. وقدم بالمشاركة مع افراد البعثة عددا من التقارير العلمية تم طبعها ب 54 مجلدا ظهر آخرها عام 1980 اي بعد وفاته ب 28 سنة، كما نشر كتابين آخرين هما (تحليق الحصان الكبير) 1936،و (طريق الحرير) 1936..
وفي الفترة الممتدة بين عامي 1939 و1943 انهمك سفين هدين في انجاز عدد من المهمات الدبلوماسية الشخصية في المانيا أردفها بنشاط طباعي تمثل بنشر عدد من مؤلفاته باللغة الألمانية كما الف عددا من الكتب منها كتابا عنوانه (اميركا والصراع بين القارات) 1944 نحى باللائمة في نشوب الحرب العالمية الثانية على روزفلت..وألف بالأشتراك مع رولف بيرجمان كتابا عنوانه (تاريخ رحلات آسيا 1927-1935، 1943-1945)،..وامضى السنوات الآخيرة من عمره في تأليف ونشر عدد من المذكرات ككتابه (أسفار وذكريات في بلادي) 1944، و (اشارة جديدة) 1944، و(وجهاء وملوك) 1950،و (عمليات الدفاع) 1951..كما كتب عن كلابه التي رافقته في آسيا (كلابي في آسيا) 1952
وفي 29 تشرين الثاني عام 1952 توفي سفين هدين في ستوكهولم عن عمر يناهز ال 88 سنة واعقب وفاته تأسيس مؤسسة سفين هدين في الأكاديمية الملكية للعلوم ومتحف الأثنوغرافيا في ستوكهولم..وكان على منضدته تقويما دينيا صغيرا قد وضع فيه صورة لرحالة مجهول هو [ميل ليندستروم] كان قد كتب فيه شعرا: (رحلتنا الحالمة عبر البحار بلغت نهايتها الأمينة ..حيث يركن قبرك الوحيد صامتا ..ولا من احد يعرف اسمك)..وبموت سفين هدين الذي خلد اسمه بمنجزاته واشعاره ينتهي آخر عظماء الأستكشافات الجغرافية الكبرى في العالم..
وكتب عن سفين هدين الكثير الغزير من المقالات والكتب، وترجمت كتبه ومذكراته وبحوثه الى معظم لغات العالم..ومنها مارافق العقد الأخير من حياته ككتاب مذكراته (في برلين بلا مهمة) الذي ترجمه الى الألمانية وعقب عليه جان بولمان..وكتب عديدة ظهرت بعد وفاته ككتاب (سفين هدين فنانا) بقلم مونتيل وفولكه هولمر 1964، و(أطلس آسيا الوسطى – مذكرات على الخرائط) بثلاثة مجلدات مع فهرست بأسماء الأماكن 1967- 1980، (عبر صحراء كوبي) ترجمة انكليزية بقلم إج. جي. كرانت 1968، و(اسطورة آسيوية) بقلم إريك فينرهولم 1980، و (الى الأرض المحرمة : أكتشافات ومغامرات في التبت) ويعتمد على روايات سفين هدين فيماوراء جبال همالايا، وغيرها كثير..
هنا نكون قد تعرفنا على سفين أندرز هدين ومهاراته ومنجزاته وجوانب من معتقداته وميوله السياسية..بل ولمسنا فيه قدرة على المطاولة منقطعة النظير في قطعه لطريق ماركوبولو الممتد لأكثر من 10.000 ميل عبر آسيا واكتشافاته لأحواض الأنهار الآسيوية الكبرى ومرتفعات همالايا والتبت..على نحو اقرب للخيال بل هو في تجربته يقدم نموذجا بطوليا حرى بالقاريء العربي التعلم منه إيقاد روح المغامرة والبحث والأستقصاء التي ميزت أسلافه..والأغرب ان سفين هدين خاض غمار الصعاب كلها بعين واحدة فقد كان قد فقد البصر في احدى عينيه ولم يسترده إلا بعد عملية جراحية أجريت له خلال العقد الأخير من عمره..وهو بخبرته الواسعة تلك، يعد شخصية فريدة يكتسب وصفه للموصل أهمية خاصة ليس بما تضمنه من بلاغة وانتخاب ذكي للمجازات والتشبيهات فحسب بل بما ورد فيه من معلومات زينتها دقة في الوصف والرواية الموثقة بالصورالفوتوغرافية النادرة والرسوم التخطيطية.
رحلة سفين هدين الى الموصل:
من غير الممكن القطع بدوافع سفين هدين لزيارة الموصل خلال الحرب العالمية الأولى وهو المعروف بميوله الإيجابية تجاه المانيا، غير ان تتبعنا لمسار الرحلة ومازامنها من حوادث من شانه القاء ضوء على دوافعه: فالعراق كان احدى جبهات المواجهة بين الحلفاء ودول المحور ..كما تشكل حواضر العراق بابل وبغداد ونينوى والموصل مراكز حضارية كبرى كون بغداد عاصمة الخلافة العباسية تقع على طريق الحرير القديم وتقع نينوى والموصل على الطريق الملكي الذي يلتقي بطريق الحرير في تركيا، وكان سفين في رحلاته الاسيوية معنيا بالدرجة الأولى بطريق الحرير واستكشاف اهم الأوابد المندثرة الواقعة على امتداده وجانبيه..ثم هناك الجانب العسكري للرحلة فقد عمل سفين مراسل حرب في الجبهات الغربية لصالح المانيا ولعل انتقاله الى العراق كان استمرارا لأهتمامه بتغطية انباء الحرب فضلا عن وجود قنصلية المانية في الموصل (1905-1918)..ووقوع الموصل في الحافة الجنوبية للقوة العثمانية..ولربما لرغبة شخصية لدى سفين في اقتفاء خطى ماركو بولو وهلموث فون مولتكه الأكبر رئيس أركان الجيش البروسي الذي زار الموصل عام 1837 ووصفها واقام في البطريركية الكلدانية التي زارها سفين هدين لاحقا..وكانت مؤشرات الحرب في الجبهات العراقية تشير الى تقدم الألمان ولاسيما بعد حصار الكوت من قبل الألمان..وهو حصار استسلمت اثره القوات البريطانية ومرتزقتها من السيخ والكورخة واقتيد الأسرى الى حلب بعد وفاة القائد الألماني البارون دير فون كولتز متاثرا بالتيفوئيد في بغداد في 16 نيسان اي قبيل وصول سفين هدين اليها أذ كان آنذاك في طريقه الى الرقة..وقد دفن البارون كولتز في بغداد غير أن الحكومة الأمانية أخرجت رفاته واعادت دفنه في ألمانيا فيما بعد... فهل كان من بين اهداف سفين هدين تغطية الحصار الألماني لكوت العمارة وتسبب تأخره بتغيير اهداف الرحلة؟ هذا مالانقدر ان نقطع فيه ويبقى الحكم فيه في مضمار التكهنات..إلا ان سفين هدين يشكل حضورا سياسيا مؤثرا على الصعيد الإعلامي على الأقل الى جانب المانيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما يدعونا الى وضع زيارته للموصل خلال الحرب في مضمار تلك الحرب وتاييده المطلق للفكر القومي الألماني..
وفي الموصل التي وصلها في عنفوان الصيف في باكورة حزيران عام 1916، كان اول شيء يقوم به زيارته القنصلية الألمانية في جنوبي المدينة ووصف بنايتها والعلم الألماني الذي يرفرف فوق سطوحها..وكانت القنصلية الألمانية قد أسست في الموصل عام 1905 في اعقاب الأتفاق بين اسطنبول وبرلين على انشاء خط سكك برلين- بغداد وربطه بخط الأناضول في سياق التنافس بين بريطانيا التي كانت تحتل مصر والهند وتسيطر على قناة السويس وتحالفها مع روسيا قبيل الثورة البلشفية من جهة والأمبراطورية العثمانية التي ارادت استرجاع نفوذها في مصر بدعم الألمان من جهة اخرى..ولأن الخط الجديد الذي يعتقد انه احد اسباب اشتعال الحرب العالمية الأولى، يمر في الموصل من بين مدن اخرى وصولا الى البصرة، عمدت الحكومة الألمانية الى تأسيس قنصلية لها في الموصل مما يفسر اختيار موقع السفارة بالقرب من باب البيض في مكان قريب الى المنطقة المزمع مرور قطار بغداد - برلين بها..هذا بالأضافة إلى منح الحكومة العثمانية امتياز استثمار النفط في العراق..وتخطيط المانيا لبناء ميناء في البصرة يربط الخليج العربي بميناء الأسكندرونة مما يمهد للأستغناء عن قناة السويس..كل ذلك يفسر الوجود الألماني في العراق..إلا أن القنصلية الألمانية في الموصل ارتبطت بالأقدار السياسية ونتائج الحرب..ولذلك لم تعش طويلا بعد انتهاء الحرب لصالح الأنكليز..وكان هرز اندرا اول قنصل الماني عين في الموصل اعقبه والتر هولشتاين الذي وثق لمجازر المسيحيين والأرمن ورحب بسفين هدين في الموصل واستمر في منصبه قنصلا في الموصل منذ عام 1911 وحتى نيسان عام 1918.. وبالأضافة الى القنصلية الألمانية، اسس الألمان مدرسة المانية في الموصل عام 1909 وثكنة عسكرية فضلا عن قيام عدد من الألمان بالتنقيبات الآثارية في بابل كروبرت كولدوي في بابل وولتر أندريه في آشور..وكان الأخير قد انهى تنقيباته وغادر الشرقاط قبيل وصول سفين هدين اليها في طريقه الى الموصل..وكان العراق آنذاك مسرحا للمعارك بين بريطانيا والمانيا مع حليفتها تركيا مما يجعل وصف سفين هدين لسجن البريطانيين ومرتزقتهم السيخ والكورخة واوضاعهم المزرية في الموصل احدى الوثائق المهمة لشاهد عيان على الحوادث في العراق عموما والموصل بوجه خاص في معمعان الحرب العالمية الأولى.. وسفين هدين واصل وصف البريطانيين والأرمن والهنود عبر طريقه من حلب فالرقة فدير الزور ثم مدن الفرات العراقية حتى الحلة فصعودا الى الموصل فقد كان القرار الألماني يقضي بنقل اسرى البريطانيين من كوت العمارة إلى الموصل ثم من الموصل الى حلب ..وكان عدد الأسرى اكثر من 8000 بريطاني بضمنهم هنود من السيخ والكورخة..وقد صادف وصول سفين هدين الموصل وجود الأسرى البريطانيين في معتقل الماني بالقرب من شاطيء دجلة..(كانوا في حال مزرية ومرتبكة الى جانب حيواناتهم وامتعتهم..اما وجوههم فشاحبة كالحة من الجوع والمرض)..ولم تفت سفين هدين، وهو معروف بموالاته الشديدة للألمان، فرصة زيارة الأسرى الأنكليز: (وشاهدنا رتلا يتألف من 500 جندي انكليزي وهندي يسيرون ببطء شديد مغادرين المدينة في طريقهم الى راس العين تحوم فوق رؤوسهم وحولهم سحابة قاتمة من الغبار..تبدو عند ضاحية المدينة حمراء واجمة بسبب اقتراب الشمس من المغيب، يسيرون أحدهم الى جانب الآخر في موكب جنائزي وكأنهم يشيعون أحلامهم في الهيمنة المطلقة على الشرق..وكان بين الأسرى قس أيرلندي كنت التقيته في بغداد ومرة أخرى في سامراء أخبر احد المرافقين الألمان للأسرى ان هناك في مستشفى الموصل انكليز يحتضرون، وحتى الأقوياء من بينهم لايقدرون على السير في حر الصيف) ثم يذكر سفين رقما اكبر من الرقم الذي تورده المصادر الأنكليزية هو 8600 أسير قال انهم انتقلوا من الموصل الى راس العين ومنها الى حلب..ويعرج سفين هدين الى وصف القنصلية الألمانية في الموصل (كان بيت القنصل هولشتاين اشبه بالنادي المحلي بالنسبة لنا وكنا نتناول فيه الغداء والعشاء وكان اللبن البارد الممزوج بالماء [الشنينة] يمنحنا طاقة لمقاومة الحر الشديد وبخاصة عند الظهيرة..وعندما تقترب الشمس من المغيب، نجلس تحت السقيفة لنقرأ آخر البرقيات والأخبار في الصحف التي تأتي متأخرة عن وقت صدورها ثلاثة او اربعة اسابيع احيانا)؛ وكان قد التقى في القنصلية بالدكتور الشاب داوود جلبي وناقشه حول افضل الطرق للسفر الى سورية عبر حلب ام دمشق او هل طريق نصيبين راس العين هو الأفضل كون سفين هدين يحب المغامرة ويريد انتخاب الطرق الواعدة والجديدة دائما..(ولكن السفير هولشتاين كان له صديق هو حميدي الياور الذي دعاه وعرفه بي وكلفه بتوفير الحماية لي..وقدم حميدي المعلومات كلها التي احتاج اليها مفضلا طريق الحضر دير الزور على الطرق الأخرى)..
وفي يوم الأحد 11 حزيران اي بعد يوم من اعلان الشريف حسين للثورة العربية، اصطحب سفين هدين الطبيب النمساوي يارلميك دليلا للتجوال في الموصل: (انطلقنا من بيتنا بمحاذاة سور المدينة الشمالي الغربي وتوقفنا في باب البيض الذي اتخذ تسميته من كلمات محفورة في عقد احدى قناطر الموصل مفادها ان مجاعة سوف تسود المدينة وينتشر فيها الغلاء بحيث تكفي بارة واحدة لشراء اربعين بيضة..واليوم لاتوجد مجاعة مع ذلك فان سعر البيضة الواحدة يكلف بين ست وسبع بارات)..وبينما لا يرد هذا التفسير لتسمية باب البيض في اي مكان آخر..تصمت المصادر عن ذكر اية كلمات محفورة في عقد قنطرة من القناطر الموصلية تتحدث عن الغلاء والمجاعة واسعار البيض الباهضة..ثم يتطرق سفين هدين الى وصف سور الموصل فيذكر ان عمره 300 سنة ويزينه برج دائري [يقصد به قلعة باشطابيا] وجاء على ذكر بواباته فسماها باب الجديد وباب سنجار وباب لكش وباب الطوب..وعد باب سنجار وباب الطوب من افقر احياء المدينة.. ويبدو من وصفه للسور الرمادي بالبديع - انه وبواباته كما تركتهما يد المعماري..ويظهر ان سفين هدين واصل سيره من باب البيض الى باب لكش قبل دخوله باب الطوب اذ يرد في وصفه: (مررنا بمدرسة حورت الى مستشفى بالقرب من حي اليهود الذي يوصف بانه من افقر احياء المدينة ويحصل يهود الموصل على خبزهم من صياغة الفضة وعمل الأساور والخواتم والمجوهرات [ربما المقصود هنا الحجارة شبه الكريمة كالعقيق والشذر]، والى اليسار تقع القنصلية الأنكليزية التي استولت عليها الحكومة في الوقت الحاضر ثم عرجنا الى مكان شاهدنا منه القلعة السلجوقية المطلة على السور في الساحل الأيمن لدجلة).. ربما المقصود بالقنصلية الأنكليزية بيت القنصل كريستيان رسام الذي وظف في أثناء الحرب مستشفى لأستيعاب الجرحى البريطانيين ومعالجتهم ..و يبدو ان مصادر سفين هدين حول قلعة الموصل سماعية لأن القلعة بناها العقيليون.. وأميل الى الرأي القائل بقدم القلعة وارتباطها بنينوى الآشورية وهذا ارجح لأن الآشوريين درجوا هلى تحصين ضفتي النهر وبحكم تقادم القلعة بنيت فوق اوابدها الآشورية تحصينات اسلامية على العهدين الراشدي والأموي ثم تناول العقيليون هذه التحصينات وعمروها واكمل السلاجقة السور بابوابه وابراجه لحين الهجوم المغولي الذي دمر معظم القلعة وابقى هيكلها وبرجها المدور..ولم ينل منها غير الزمن واهمال اهلها فمالت في الآونة الأخيرة محاكية منارة الحدباء في عصر يبدو أن كل شيء فيه يتجه الى الميلان ..ويواصل سفين هدين جولته في الموصل بوصف قلعة باشطابيا: (ومن الصعوبة بمكان تخيل قلعة تشاد فوق صخرة شديدة الإنحدار ترفرف شاهقة فوق ذلك النهر الملكي [دجلة].. وبتسلقنا الطريق المتعرج اليها واتخاذنا موقعا فوق السور رأينا مشهدا ينافس في جماله اروع المناظر في العالم، وهو مشهد يتكرر في كل خطوة تاخذنا صوب القلعة..ومن أعلى القلعة إرتسمت امامنا آثار عاصمة ملوك العالم القديم نينوى في تلقوينجق والى جانبها تل النبي يونس وهما من اغنى اماكن العالم بما يحتويانه من نوادر ومعادن ثمينة وآثار..ووراء التلال تترامى جبال أرمينيا وطوروس التي تكسوها الثلوج معظم ايام السنة)..ثم يتطلع سفين من قمة باشطابيا الى الأسفل ليرى الموصليات وقد جلسن على ضفة دجلة لغسل ملابسهن ..وفيما يبدو من وصفه ان نشاطهن لم يقتصر على غسل الثياب فحسب: (وعند الشاطيء شاهدنا مئات النساء يغسلن ويعصرن [ينشفن] ويعلقن ثيابهن لتجف تحت حرارة الشمس المحرقة..وعلمت ان تلك النساء يخرجن في الشتاء الى النهر ليغسلن الثياب على الرغم من كون الماء شديد البرودة غير انهن اعتدن احتمال البرد القارص احتمالهن الحر اللاهب في عنفوان الصيف..والحر في الموصل عينه في صيف بغداد، إلا أن شتاء الموصل أبرد منه في بغداد..ذلك أن بغداد تقع على ارتفاع 50 متر عن مستوى سطح البحر بينما تقع الموصل على ارتفاع 250 متر عن هذا المستوى..) ..ويبدو من هذا الوصف ان نساء الموصل كن قد شددن حبالا ربما شددنها حول قضبان من الخشب لتعليق الثياب عليها وانتظارها لتجف تماما قبل العودة الى بيوتهن ..مما يفترض احتمال انشغالهن بالأحاديث المتنوعة وربما بتناول الغداء في ظل باشطابيا قبل العودة الى البيت..ولم تفت سفين المدرب على دقة الملاحظة وروعة الوصف ملاحظة قطعان الجاموس تمخر مثل اكياس عملاقة منفوخة عباب دجلة: (وبالقرب من النساء المنهمكات في غسل ثيابهن ونشرها تردى قطعان الجاموس عائمة في امواج دجلة تنعم بضوء الشمس الغاربة قبل ان تنحدر صوب الجسر لتخرج عند الشاطيء يقطر منها الماء، والى جنوب القلعة وتحتها ينتصب مزار يحيى ابو القاسم بواجهته بديعة الزينة حديثة البناء، وعند مدخله سقف معمد يوفر الظل للزائرين)..تؤيد هذا النص صور ارشيف جرترود بيل التي زارت المكان عام 1909 ونستدل من ذلك ان تجديد الضريح قد تم قبيل عام 1917..وكان سفين قد زار بغداد قبل وصوله الموصل وتعرف على معالمها ومنها قبة اسماها بقبة زبيدة وهو خطأ شائع لأن القبة التي رآها في بغداد هي لزمرد خاتون زوجة المستضيء بالله وتشبه بمخروطيتها قبب لاليش في شمالي العراق وتماثل قبة السهروردي في مقبرة الشيخ معروف..اذ يخبرنا ان مزار ابو القاسم: (تعلوه قبة شاقولية مدببة النهاية تشبه قبة قبر زبيدة في بغداد وهي نموذج لقبب اخرى شيدت في المنطقة..وبالقرب من المزار تنتصب قلعة خربة كانت على الارجح جامعا يطلق عليها بدر الدين سلطان لؤلؤ حيث توقفنا لوهلة للنظر الى اسراب السمك وهي تسبح ضد التيار رافعة افواهها المدببة ودافعة اجسامها بزعانفها نائية بنفسها عن صرير الناعور الذي يروي الحقل الضيق الممتد بمحاذاة الشاطيء [الشاروق] ومن حين لآخر يأتي قارب ليرسو تحت الجسر في الجانب الأيمن ويبدو وكأنه جزيرة صغيرة يتوسطه رجلان يتحدث احدهما الى الآخر وكأنهما بيضتان في طبق من الأسبيناخ الأخضر)..ويسترسل سفين هدين في وصفه النهر والأكلاك والمدينة بعفوية وبلغة ادبية رائعة تجمع بين العرض التفصيلي والتنوع التصويري وعلى نحو يدعونا الى معايشة التجربة الحية لمايرى ويحيا وعلى نحو مباشر: (ويستخدم اهل الموصل الأكلاك التي هي عبارة عن الواح خشبية مشدودة الى بعضها بحبال توضع تحتها جلود معيز منفوخة تستخدم لنقل البضائع والناس في دجلة ويقوم الكلاكون بتحميلها وتفريغها..أما الموصل نفسها فتمتد على شكل هلال في الجانب الأيمن من نهر دجلة..وفي الموصل لاتكثر المساحات الخضراء او الأشجار التي تزين الشوارع بجماله كما هو الحال في بغداد المزدانة بالملامح المميزة للمدن الشرقية؛ غير أن بيوت الموصل تختلف عن بيوت بغداد من حيث كونها اقوى واكثر تماسكا فهي ليست مبنية من الطابوق المحروق كبيوت بغداد..وبمقدورها الصمود مئات السنوات، وهي مصممة ومشيدة وفق الطراز العربي..ويمكن ان نجد بيوتا مماثلة لها في بغداد من حيث التصميم لكن بيوت الموصل متقنة في عمارتها..وغالبا ماتقع في زقاق ضيق لم يعنى بتنظيفه يقودنا الى مدخل رخامي ذي بوابة خشبية تتوسطه صقالة من الحديد معلقة بحلقة الى الباب الذي يأخذنا الى مجاز قصير يفضي الى فناء واسع ذي ارضية مربعة مرصوفة بالحجارة في وسطه شجرة توث او برتقال، ومن البيوت مايحتضن في قلبه حوض فيه نافورة مزينة على نحو أخاذ يتدفق منها الماء بما يبعث في النفس شعورا بالراحة والبرودة وبخاصة في ايام الصيف الساخنة..وتحيط بالفناء الأرائك والمقاعد المتاحة للجلوس وحيث تمضي الأسرة ولاسيما النساء والأطفال اوقات الراحة والمحادثة وتناول الطعام..وفي الطابق الأرضي يوجد المطبخ والمخزن والى جانبه قاطع خشبي يفصل غرفة الخدم والأسطبل..ويماثل الطابق الأرضي في البيوت الموصلية، الأيوان في بغداد حيث يستقبل الضيوف اما في الموصل فيصعد الى غرفة الضيوف بدرجات قليلة تقود الى الأيوان الداخلي في صدر البيت، ويؤدي الأيوان الداخلي الى غرف النوم الخاصة بالأسرة ويصعد اليها بدرج جانبي..ولايسمح للغرباء الدخول الى غرف النوم..ويوجد درج يؤدي الى السطوح حيث ينام اعضاء الأسرة في ايام الصيف..ويعمد الموصلي، ان لم يكن لأسباب تتعلق بالدين، فبدافع الخوف من الغيرة والحسد؛ الى حجب بيته واسرته ونسائه عن العالم ولهذا تكون زينة البيت وواجهته مكشوفة على الداخل وليس على الخارج..وهذا لاينطبق على المسلمين في المدينة وحدهم بل على السريان الكاثوليك والكلدان ايضا..ومن الممكن في بيوت النصارى للزائر ان يجلس مع النساء ويتناول المرطبات وهن كالمعتاد غير محجبات ولكني لاحظت وجود اختلاف هائل بينهن وبين قريناتهن الأوربيات فهن على الرغم من الدين المشترك فيما بيننا، خجلات وجلات ولابد من تعودهن على الضيوف والزائرين فترة طويلة لكي يتغلبن على خجلهن..وواجهات الجدران المقابلة لفناء الدار الموصلي غالبا ماتكون مزدانة بالزخارف العربية الزهرية التي تغطي الواجهات الرخامية في الجزء الأسفل من الجدار في جوانبه كلها باستثناء جانبي الدرج الذي يقود الى ايوان صدر البيت.. ويوجد قوس كبير تشغله نافذة السرداب او [الرهرة] التي تلجأ اليها الأسرة الموصلية للقيلولة في ظهيرة الصيف..والرهرة تكون باردة ينعم فيها الموصلي بنوم هانيء مريح..أما الشبابيك فمزودة بقضبان حديدية متداخل احدها بالآخر بحلقات تربط فيما بينها عموديا وافقيا وذلك لمنع السراق او تأخير اختراقهم للبيت او اي من غرفه بهدف السرقة..وتزود النوافذ العالية أحيانا بمشربيات خشبية تشبه نوافذ البيوت في القسطنطينية لغرض فتحها لنفاذ اشعة الشمس الى الغرف..وتحتضن الموصل العديد من هذه البيوت فريدة الطراز اما اصحابها فرهبان كنيسة او تجار اعتمدوا على ثروة ورثوها او اكتسبوها من المتاجرة ببالات القطن او خصافات التمور او المنسوجات الملونة وماإلى ذلك من تبادل للسلع بين الشرق والغرب او نقلها بين الجماعات والأمم الشرقية..ومنها ما توالد في سياقات الأرستقراطية التجارية وانتفع من عملات الذهب المتراكمة والمحملة في صناديق مكنونة تنقلها القوافل الصامتة المحملة ببضائع التجار وقد افلتت من سطو القراصنة ومداهمات قطاع الطرق ولعلها لاتفلت من قطاع الطرق ولاسيما قبائل شمر الذين غالبا ما يباغتون القوافل على حين غرة فينهبونها ويسوقون حمولاتها الى اماكن مجهولة قبل ان يختفوا في مفازات الصحراء)..
ونلاحظ في وصف سفين هدين لعمارة بيوت الموصل والعادات الإجتماعية لسكانها أن الموصل كانت تحتضن طبقة من التجار الأثرياء يشاطرهم ثرائهم رجال الدين من النصارى وإن لهذه الطبقة من التجار تاريخ طويل من النشاط التجاري الأقليمي والعالمي يمتد لقرون بعيدة في التاريخ وان هذا النشاط وجد انعكاسه في حياة من الترف والرفاهية ترفل فيهما اسر التجار والطبقات الموسرة مما يؤكد وصف ماركو بولو للمدينة باعتبارها مملكة تجارية قائمة بذاتها..كما ان هذا النمط من عمارة بيوت الموصل مازال موجودا في احياء الموصل القديمة كالمياسة والميدان والساعة والمكاوي وباب لكش والسرجخانة وغيرها من الأحياء غير ان اهل الموصل غادروا في معظمهم هذه المنازل القديمة ورهراتها الى بيوت غربية حديثة حلت الحجارة الحلان فيها محل المرمر الموصلي والحدائق الغناء محل النافورة والتوثة في قلب البيت..اما عادات اهل الموصل الإجتماعية فلم تتغير كثيرا اذ مابرح الطابع المحافظ مميزا للعائلة الموصلية..وينعكس في عمارة الجدران العالية والشبابيك الداخلية التي توفر الأمن والأطلالة على الحديقة الداخلية اكثر منها على خارج البيت..فالموصلي المحافظ كالأنكليزي المحا