كم أنت طيبة ووديعة يا عنكاوتنا العزيزة
بطرس نباتيمنذ أن فتحنا أعيننا على الحياة وجدنا هذه المدينة الطيبة المسالمة عنكاوا ملجأ وحضنا دافئا لكل من أختارها لتكون ملاذه الآمن فقد سكنت في هذه البقعة الطيبة عوائل عديدة هَجرَتْ موطنها الأصلي في البداية من قرى وقصبات كردستان، ومن نينوى و المدن العراق الأخرى مؤخرا .
عوائل هربت من جحيم الاقتتال الطائفي وتركت موطنها الأصلي تحمل قصص مؤلمة لما تعرضت له من سوء المعاملة والاضطهاد وقدمت إلى عنكاوا لتتخذها مستقرا لها كي تعيش بسلام وأمان، ومنهم من اتخذ منها موطنا له ولأبنائه وأحفاده واستقر فيها منذ عشرات السنين إلا إنهم لا زالوا لحد الآن لا يعتبرون أنفسهم عنكاويين، ويستفز بعضهم إن قلت له انك ساكن في عنكاوا منذ زمن طويل فإنك أصبحت (عنكاوايا) فينتفض في وجهك ويقول بأني شقلاوي أو كوي لما تسميني باسم هذه القصبة التي اسكن فيها، يقول هذا رغم انه يتمتع بجميع حقوق أهالي عنكاوا سواء في إعطاءه الحق في تملك الأرض أو بالبناء أو في تسيير مصالحه الشخصية، وربما العديد من هؤلاء وخاصة القادمين الجدد منهم تفوقوا بما حصلوا عليه من امتيازات في أراضي وعقار عنكاوا وممتلكاتها بأضعاف على أبناء عنكاوا أنفسهم، واني هنا أعطيهم كل الحق في التمسك بالقصبة أو المدينة التي ينتمون إليها في الأصل ولكن بشرط أن يفكروا ويخططوا بالعودة إليها مستقبلا وعدم تركها نهائيا والتفريط بممتلكاتهم في قصاباتهم ومدنهم الأصلية.
هؤلاء الذين هُجِروا قسراَ من مدنهم أو هجروا مناطقهم برغبتهم ربما نفعوا عنكاوا بما سدوه من فراغ نتيجة هجرة أبنائها المتواصلة إلى خارج الوطن، عنكاوا منذ زمن بعيد فتحت أبوابها وقلوب أبنائها أمام الكل ، ولازالت كما قلنا ذلك الحضن الدافئ للكل، وقدم أهلها يد المساعدة لمن يجاورها بالسكن وخاصة عند الشدائد.
أتذكر إبان حملات الأنفال السيئة الصيت، حين رحلت مئات العوائل الكوردية قسرا من قراها وقصاباتها وتم إسكانها في المخيمات أو في العراء بعد جلبهم بالعربات العسكرية، إلى مجمع قريب من عنكاوا في قرية (بحركة) وخاصة عوائل البرزانيين، كانوا أهالنا في عنكاوا يهرعون لمساعدتهم، لقد خرج أبناء عنكاوا آنذاك لاستقبالهم، سواء عند مرورهم بالقصبة أو ما قدموه لهم لاحقا في داخل المجمع ، حاملين إليهم الطعام والماء والأغطية وحتى الملابس، كانوا يقدمون لهم يد العون والمساعدة بكل محبة و بسخاء منقطع النظير ، رغم ما كانوا يتعرضون له من ملاحقة على أيدي جلاوزة البعث إلا أنهم لم يقصروا يوما تجاه إخوانهم الكورد، بينما كان يخشى اقرب الناس إليهم من القرى الكوردية المجاورة حتى من الاقتراب منهم أو الاختلاط معهم آنذاك خوفا وهلعا من العقاب.
وهنا يحضرني موقف لا زلت أتذكره ، كنت مع العائلة برفقة أحد الأصدقاء ومعه أسرته بعد انتفاضة آذار/1991 في طريق العودة من دهوك إلى اربيل وسلكنا طريقا طويلا يمتد عبر الجبال والوديان يبدأ من زاويتة وينتهي بمصايف هه ولير، بعد قطع مسافة طويلة ، وقفنا عند حافة الطريق لنشتري الفواكه وبعض الحاجات، تحدثنا بلغة السورث فيما بيننا، سألنا البائع هل انتم مسيحيين ؟ أجبته نعم نحن كذلك ، ثم سألنا مرة أخرى ، هل انتم من عنكاوا؟ قلت له ومن أين تعرف عنكاوا ؟ وأنت بعيد عنها، قال وبالحرف الواحد وبلغة كوردية ( خوديً ئيوة ميًرن) وتعني والله انتم رجال شجعان، ثم اخذ يحلف بأنه لن يستلم منا فلسا واحدا ونستطيع أن نأخذ معنا ما نشاء ، ثم قال الرجل بتأثر : أنتم أهالي عنكاوا لكم فضل علينا وما نفعله تجاهكم هو قليل بحقكم .
ترددنا برهة لم نتجاسر أن نمد يدنا لأخذ حاجاتنا هكذا هبة من هذا العم الطيب، رغم إلحاحنا بأن يأخذ الثمن إلا أنه حلف اليمين بأن لا يأخذ مقابل ما نتسوق، تحت إلحاحه الشديد عزفنا عن الشراء، عندما أكتشف ترددنا صاح على ولده وأعطاه سلتان مملوءتان بالفواكه مكسوة بأوراق شجر البلوط فقال هذه هدية مني أليكم يا أهل عنكاوا الطيبين وأحملك سلاما خاصا لهم جميعا، ثم دعانا إلى بيته لنحل عليه ضيوفا ليكرمنا، إلا أننا اعتذرنا لكون المسافة بعيدة ولا نود أن نبقى في الطريق في ساعة متأخرة من الليل.
هذا الموقف لهذا الرجل المزارع الذي عبر عن وفائه لأهل عنكاوا من خلالنا رغم حاجته إلى المال آنذاك، وهناك العديد من المواقف الطيبة يصادفها أهالي عنكاوا، يتسامرون بالحديث عنها في جلساتهم وقد سمعنا الكثير عنها، هذه المواقف كم تتعارض مع ما يصادف من افتتاح أو وضع حجر أساس لأي مشروع سكني أو دار للعبادة للطوائف المختلفة أختار أبناؤها العيش في عنكاوا وعلى أراضيها، تخصص لهم آلاف الأمتار من أراضيها في سهلها الذي كان( أي فيما مضى من الزمن) سهلا زراعيا خصبا بينما أصبح ( أي ما نشهده اليوم) عدد من يستغل تلك الأرض لا يتجاوز الأصابع الخمسة أو لشخص واحد يقال عنه مستثمر، ويتبارى أصحاب تلك المشاريع في إمطار المسؤولين والمتنفذين بالشكر والتقدير وبعرفان الجميل وكأن هذه الأرض الطيبة التي يشيد عليها مشروعهم ما هي إلا ملك شخصي لهؤلاء المسؤولين توارثوه عن أبائهم وأجدادهم متناسين كونها من أملاك أهل عنكاوا الطيبين..
المفروض في مثل هذه الحالات أن يقدموا شكرهم لعنكاوا الطيبة ولأهلها لأنهم فتحوا أحضانهم لكل من تعرض إلى الظلم والتهجير في منطقته فقصدها بينما يمتنع غيرنا من المدن والقصبات من إيواء حتى اقرب الناس، وقد خاض أهل عنكاوا تجربة مريرة عندما هاموا على وجوههم إبان انتفاضة آذار حينما كان يباع لهم رغيف خبز بعشرات الدنانير أو عندما ضلوا في العراء أيام عديدة بدون مؤوى، فكم هي عظيمة هذه البلدة وكم هي عظمة أهلها وطيبتهم عندما تقابل الإساءة بالطيبة والمودة التي تعطي بسخاء وتفتح أبوابها مشرعة أمام كل ملتجأ إليها ..