المحرر موضوع: الحضارة السريانية عبر التاريخ  (زيارة 9449 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل جبرايل ماركو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 213
    • مشاهدة الملف الشخصي
د. الياس الحلياني منظمة عدل ـ دمشق

عاش الآراميون في منطقة مترامية الأطراف من آسيا، وقد كان =برستد= أول من أطلق على هذه المنطقة اسم الهلال الخصيب، وعلل ذلك بأنها((تكون شكلا نصف دائري على وجه التقريب يرتكزطرفه الغربي في جنوب شرق البحر الأبيض المتوسط ، ووسطه فوق شبه جزيرة العرب ،ويرتكز طرفه اآخر عند الخليج الفارسي ، وخلف ظهر هذا تقوم الجبال المرتفعة، وبذلك تقع فلسطين عند نهاية الجزء الغربي، وبلاد بابل في الجزء الشرقي، بينما تكون بلاد آشور جزءا كبيرا من وسطه)) برستد: تاريخ الحضارة ص 151
وقد وجدت في هذه المنطقة عدة حضارات قبل أن يسود فيها الآراميون، بل قبل أن يستوطنها الجنس السامي. فقبل عام 3500 قبل الميلاد تقريبا ازدهرت حضارة في سهل شنعار على يد السومريين وهم (قوم غير سامي الأصل)-برستد -انتصار الحضارة= فيبيب حتي -تاريخ سوريا ولبنان وقلسطين ج1 ص 149- ديلابورت-بلاد مابين النهرين ص18-

قادهم نشاطهم التجاري الى استعمال اللغة السومرية وهي لفة(ليست سامية ولا آرية) =سارترون: تاريخ العالم:الفصل الثالث.
كانت تكتب بآلة تشبه المسمار يضغط بها على الطين الذي يصنع على صورة ألواح فتترك أثرها فيه، ثم يجفف الطين ويحرق حتى يظل متماسكا مما جعل هذه الكتابة تعرف بالكتابة المسمارية. ولقد تركز النشاط الثقافي على عهد السومريين في المدن((وكان المعبد في المدينة هو نواة حضارتها والمركز الرئيس فيها))=برستد -انتصار الحضارة ص164-ولعل مما يدل على هذا تلك المدونات التي عثر عليها في كثير من الحفريات بين أنقاض هذه المعابد---(وتعتبر الحضارة السومرية أساسا لعدة حضارات آسيوية ، ولقد ظل العامل السومري هو العنصر الأساسي لثقافة ما بين النهرين)=بول ماسون أورسيل : الفلسفة في الشرق: ترجمة محمد يوسف مرسي.
ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد، نزحت جماعات جديدة واستوطنت منطقة الهلال الخصيب، وعاش فريق منها جنب الى جنب مع مع السومريين في منطقة ما بين النهرين ثم لم يلبثوا حوالي سنة 2750 قبل الميلاد =ويلز-موجز تاريخ العالم ص66- أن يتعلبوا بزعامة سرجون الأول على دويلات المدن، وأن يؤسسوا دولة موحدة قوية شملت معظم وادي الرافدين ، وأن يتخذوا أكاد عاصمة لها.
ولم يكن هؤلاء الساميون قد تحضروا بعد فأخذوا عن السومريين بعض معارفهم (وهكذا غلب السومريين قاهريهم)=جورج سارترون:تاريخ العالم المفصل:ترجمة طه الباقر ص148. ولقد اقتبس الآكديون((الكتابة المسمارية عن السومريين ليكتبوا بها لغتهم السامية ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي كتبت فيها لغة سامية))=برستد-انصار الحضارة ص178.. ومعظم اللوحات المسمارية التي كشفت حتى الآن مكتوبة باللغة اآكدية التي تسمى عادة البابلية. ثم ظهرت أمة جديدة عرفت باسم سومر وأكاد، وحققت ما عرف بالحضارة البابلية .
وفي حوالي القرن الحادي والعشرين ق.م . غزا الأموريون بلاد أكاد، ويستدل من أسمهم على أنهم أقاموا في (أمور) وهي منطقة من سوريا العليا كانت بين لبنان والفرات=بول ماسون اوروسيل: الفلسفة في الشرق:ص70.-----وفي عهد الأموريين اكتسبت عاصمتهم بابل شهرة عظيمة ، وغلب اسمها على سهل شنعار القديم فسمي باسم بلاد بابل =برستد: انتصار الحضارة ص186-المسعودي مروج الذهب ج1-ص313.
أشهر ملوك الأموريين كان حمورابي( 1728-1686) ق.م . اتخذ من بابل عاصمة له، استعمل (اللغة السومرية في رسائله الى ولاته) =برستد= انتصار الحضارة ص188.ولكنه استعمل اللغة البابلية في قوانينه التي تدل على أن الحضارة البابلية ((قبل كل شيء كانت حضارة تشريعية))

ثم تغلب الكاسيون =جورج سارترون: تاريخ العالم ص195. الذين أتوا من شرقي دجلة ، وأقاموا فترة بالبلاد على بابل حوالي سنة 1761 ق.م ، وظلوا فيها قرابة خمسة قرون تارة سادة وتارة مسودين، وكانت بينهم وبين فراعنة مصر مراسلات ودية ومصاهرات كشف عنها ما ورد في رسائل تل العمارنة في عهد فرعون مصر أخناتون، وكانت بينهم وبين اآشورينن حروب على الحدود بين مملكتيهما ، ثم ضعف أمرهم، وصارت الغلبة للآشوريين ، وبذلك انتقل مركز الحضارة الى بلاد آشور.

ومما لا شك فيه أن الحضارة الآشورية قد استفادت من الحضارة البابليين والسومرينن، فقد ثبت أن الآشوريين ((أدركوا القيمة العلمية للنصوص السومرية فجمعوا ألواحها وترجموها الى الآشورية)) =جورج سارترون:تاريخ العالم : الفصل السادس: المرحلة الآشورية.
تعرضت الدولة الآشورية لغزو الآراميين الا أنها ردتهم على أعقابهم، وقضت على دمشق عاصمتهم حوالي 732 ق.م .
وقد بلغ الآشوريون أوج عظمتهم في عهد سنحاريب (705-681 ق.م) الذي اتخذ نينوى عاصمة له. وممن عرف بمحبته للعلوم من الآشوريين آشور بانيببال فقد( استجلب من مكتبات بابل وغيرها من المدن البابلية كل ما وجده من الكتب القديمة في آداب البابليين وعلومهم وصناعاتهم وتواريخهم وديانتهم ، واستنسخها كلها)) =أدي شير: تاريخ كادو وآثور ج1 ص 123.
وحوالي 612 استولى الكلدانيون على سورية -وهم فرع ثاني من الآراميين تغلغل الى وادي الفرات الأسفل عرف باسم كلدو منذ حوالي القرن الرابع عشر ق.م . ولقد تحققت لهم أعظم انتصاراتهم في عهد نبوخذ نصر(604 ق.م) اذ فتح أورشليم =586= ق.م ، وأخذ خير ما فيها ونقله الى بابل . ولقد كان الكلدانيون بحكم الظروف ورثة لتقاليد آشور ومعارفها مما دفع الحياة العلمية الى الازدهار في عهدهم. فقد مهروا في العلوم الرياضية والالهية، كما كانت لهم عناية بالغة برصد الكواكب ومعرفة بطبائع النجوم)) =صاعد الاندلسي: طبقات الأمم ص20
--------------
السريان
--------------
يقول أدي شير ---وقيل أن سوريا تحريف ((أسوريا) اليوناني أي (آثور)). ويرى فيليب حتي ((أن اليونان كانوا يسمون بلاد آرام سورية))و((أسيريا)) و((أشور)) وكما أطلق اليونان اسم سوريا عليها أطلقوا اسم السريان عليهم.
يذكر أدي شير أن اسم السريان ((اسم غريب خارجي أطلقه المصريون ثم اليونان على أهل سوريا، ومن اليونان استعاره الآراميون الغربيون ، ومن السريان الغربيين سرى الى المتنصرين من الكلدان الآثوريين لأنه من سوريا أتتهم المسيحية ، فتسموا باسم السريان تمييزا لهم عن الكلدان الآثوريين الوثنيين، فبم يكن الاسم السرياني يومئذ يشير الى أمة، بل الى الديانة المسيحية لا غير.أدي شير: تاريخ كادو وآثور ج2 المقدمة ص1
ويرى اقليمس داوود صاحب كتاب اللمعة، وغريغوريوس يعقوب حلياني أول رئيس أساقفة للسريان الكاثوليك في دمشق.في كتابه اللغة العظيمة: ((ان القول بأن لفظة السريان أعجمية زعم باطل لا أصل له لأنه قول بلا سند ولا بينة . ولأن الباقين من السريان الأقدمين في بلاد آثور وكردستان وبلاد الشام الى يومنا هذا يسمون لغتهم بلسانهم سريانية، ولا يصدق أن أمة صحيحة منتشرة في جانب عظيم من الأرض تترك اسم لسانها وجنسها ، وتستبدل به اسما آخر أعجميا.
ويضيف أول رئيس لاساقفة دمشق للسريان الكاثوليك، غريغوريوس يعقوب حلياني ، في كتابه : اللغة العظيمة. متفقا في الرأي مع القس يعقوب الكلداني :دليل الراعبين في تاريخ الآراميين.((ومهما كان من أمر اشتقاق لفظ(السريان) فان أصحابه لم يعرفوا به قبل أربعمائة أو خمسمائة سنة قبل التاريخ المسيحي، أما الآراميون الشرقيون وهم الكلدان والآثورون، فان نفس التسمية لم تعرف بينهم الا بعد السيد المسيح على يد الرسل الذين تلمذوا هذه الديار،لأنهم كانوا جميعا من سورية فلسطين، وذلك لأن أجدادهم الأولون المتنصرون شديدي التمسك بالدين المسيحي أحبوا أن يسموا باسم مبشريهم، فتركوا اسمهم القديم، واتخذوا اسم السريان ليمتازوا عن بني جنسهم الآراميين الوثنيين، ولذا أصبحت لفظة الآرامي مرادفة للفظة الصاب والوثني، ولفظة السرياني مرادفة للفظة المسيحي والنصراني))
يقول غريغوريوس يعقوب حلياني ((حتى يومنا هذا نلاحظ أن قرى الكلدان الآثوريين لا يتخذون لفظة سرياني للدلالة على الجنسية ، بل على الديانة، فان هذا الاسم عندهم مرادف لاسم مسيحي من أي أمة وجنس كان)>
ويرى الدكتور فيليب حتي حتى أنه عندما اتخذ المسيحيون الآراميون لهجة أديسا وجعلوها لغة الكنيسة والأدب والتعامل اثقافي ، صاروا يعرفون باسم سوريون ، وأصبح لأسمهم القديم أي الآراميين مدلول وثني غير مستحب في عقولهم، ولذلك تجنبوه بوجه العموم وحلت محله التعابير اليونانية وهي سوري بالنسبة للشعب وسرياني بالنسبة للغة.
كذلك يرى الكتور حسن محمود في كتابه= الساميون القدماءص385- ((أن الآراميين لما اعتنقوا المسيحية، واستخدموا لهجة الرها في كنائسهم وفي آدابهم وثقافتهم نبذوا اسمهم الأول لصلته بالوثنية ، وسموا أنفسهم السوريين أو السريان.
ولقد عرض أدي شير للأوجه المختلفة لتسمية السريان فذكر أن((للكلدان المسيحيين أسماء كثيرة في التواريخ، فسموا آراميين نسبة الى آرام بن سام الذي استوطن هذه البلاد، وعمرها بنسله، ومشارقة لأنهم من المشرق،ونساطرة لاتباعهم تعاليم نسطور بطريرك القسطنطينية، وسريانا شرقيين تميزا لهم من السريان الغربيين وهم اليعاقبة ، ولكن اسمهم الأصلي كلدانلآثوريونجنسا ووطنا لأن منشأ كنيستهم ومركزها كلدو وآثور ولغتهم الجنسية والطقسية هي الكلدانية، ويقال لها أيضا الآرامية،وغلطا سميت سريانية؟؟))

يقول المسعودي تحت عنوان((ذكر ملوك السريانيين ولمع من أخبارهم(( ان أول الملوك ملوك السريانيين بعد الطوفان، وقد تنزع فيهم وفي النبط، فمن الناس من رأى السريان هم النبط، ومنهم من رأى انهم اخوة لولد ماس بن نبيط ومنهم من رأى غير ذلك)).
وهو يذهب الى أن اللسان السرياني ((هو اللسان الأول، لسان آدم ونوح وابراهيم عليهم السلام وغيرهم من الانبياء.))
كذلك يرى الجهشاري أن ((أول من وضع الكتاب السرياني وسائر الكتب آدم عليه السلام)
ويذكر القلقشندي (( أن لغة العرب المستعربة وهم بنو قحطان بن عابر وبنو اسماعيل كانت السريانية أو العبرية لأن لغة عابر واسماعيل كانت سريانية أو عبرانية))

-

كانت سورية في الأصل ، وفيما قبل الأزمنة المسيحبة، تحت السيادة المصرية والبابلية. وكانت تشكل مركز مدنية أسيوية خاصة ناميو نموا عظيما بواسطة الصناعة ، وبواسطة التجارة الواردة عن طريق فينيقية . وفي أواخر القرن السادس عشر ق.م سادها الحثيون من كبادوكية. وبعد ذلك كانت دولة دمشق التي أسسها، حسب الروايات، هيكوس ابن آرام والتي خضعت لسيادة الملك داوود. وقد أخضعت عام 737 ق.م للملك شلمناصر ملك الآشوريين.

ثم تجاذب السلطة على سورية البابليون والمصريون حتى احتلها الفرس.ولكن الاسكندر الأكبر ألحق في عام 320 ق.م سورية بالسيداة اليونانية، ووقعت تحت تأثير الحضارة اليونانية كما كانت قد وقعت قبل ذلك تحت تأثير حضارات أخرى.
وكان هيرودوت(التاريخ 7،62) قد سجل عن الأسيريين (الأشوريين) ما يأتي: ((هؤلاء (الآشوريون) كان يدعوهم اليوانيون سوريين. أما البربر (غير اليونانيين) فكانوا يدعونهم آشوريين . ولوقيانوس المنحدر من سميساط كوماني كان يدعو نفسه : أسوري؛أشوري. أما بلاده فيدعوها: سورية. أما اليونانيون فكانوا يستعملون أسماء : سورية والسيريين (الآشوريين) واللغة السورية لتسمية البلد والسكان واللغة المحلية. في حين كان يسمي السكان الأصليون أنفسهم ((الآراميين)) ولغتهم ((الآرامية)). والمسمون عندنا سوريين كانوا يسمون أنفسهم آراميين .

وكانت توجد في سورية الشمالية ، في المكان الذي بئئئئئئئئئئئئئُنيت فيه فيما بعد ، أنطاكية، مستعمرة يونانية ، هي مستعمرة ايونيالتي يُرجع ليبانيس الأنطاكي (314-393) نشوءها الى أزمنة الآشوريين. ويظهر أن الجاليات الأولى اليونانية الى هذه المستعمرة كانوا من كريت وقبرص قدموا اليها وأسسوا فيها المهد اليوناني الأول. وقد ازدهرت مستعمرة ايوني في زمن الآشوريين وزمن الفرس .وكانت مملكة سورية تشتمل في زمن أولئك الملوك على كل ممتلكات دولة الفرس القديمة في آسيا وعلى سورية ، وآسيا الصغرى، والعجم وبابل، وآشور، ومادي على بحر قزوين وتركستان وأفغانستان ومقاطعات أخرى كانت تحمل على التعميم اسم سورية.

أول من فتح أنطاكية حاضرة المشرق لأجل التبشير بالسيد المسيح هو برنابا العبراني القبرسي الذي امتاز بالفطنة والحكمة والوداعة ودماثة الأخلاق فضلا عن تعطفه الشديد على المساكين. فقد باع جميع أملاكه الوافرة ووزع أثمانها عليهم. واتفق هذا الرجل مع بولس الاناء المختار فبشرا في سلوقية وقبرص وايطاليا .
وما عدا برنابا فقد بشر في أنطاكيا وضواحيها يهوذا برشابا ورفيقه شيلا ثم لوقا الطبيب الانجيلي تلميذ بولس الرسول. وقد كتب لوقا الرسول انجيله سنة 57 م ويُستفاد مما رواه في مقدمته أنه كتب ما كتب نقلا عن الرسل الذين شاهدوا وعاينوا يسوع ومريم أمه العذراء. وأثبت لوقا نفسه ما وقع للكنيسة في سفر أعمال الرسل مدة 30 سنة مما شاهده هو بعينه أو سمعه من الرسل ولا سيما من بطرس وبولس.

وفي نواحي السنة 38 برح بطرس رئيس الرسل بلاد فلسطين ومر بفونيقي ومكث نحو سنتين يبث فيها البشارة الانجيلية حتى بلغ أنطاكية العاصمة وفيها من السكان 500 ألف نسمة(المشرق1682 ونصر الكثيرين من أهلها فحنق عليه ثاوفيلس الوالي وألقاه في السجن .
ونصب بطرس خلفا له في انطاكيا أوديوس فساس جميع البلاد الشرقية كما استنتج الآباء مما قرره الرسل في المجمع الأورشليمي يوم بعثوا يهوذا وبرشابا وشيلا صحبة بولس وبرنابا الى انطاكيا اذ صرحوا((من الرسل والكهنة والاخوة الى الاخوة الذين من الأمم في أنطاكيا وسوريا وقلليقية السلام))أعمال 15-23 فقالوا ان سلطة الكنيسة الانطاكية شملت منذ نشأتها جميع بلاد سوريا وقيليقية حتى بلغت الأقطار الهندية . وبعد ما ساس الأسقف أوديوس الكرسي الانطاكي زمنا طويلا خلفه نحو السنة 79 اغناطيوس النوراني.

=

في الجزء الشمالي الغربي من اقليم ما بين النهرين كانت تقوم مملكة الرها ، وفي مكان يقع شرقي الفرات قامت الرها عاصمتها. ولقد ظلت مملكة الرها مستقلة فترة انتدت بضعة قرون قبل الميلاد وبعده(122 ق.م الى 206 م) وقد كانت الرها من (( أهم مراكز اللغة السريانية)) غريغوريوس يعقوب حلياني-اللغة العظيمة ج4 ص123-أحمد أمين : فجر الاسلام ص155-ولما دخلتها المسيحية في مستهل القرن الثاني اكتسبت هذه اللغة نفوذا سما بها الى أن ينقل اليها الكتاب المقدس ، وأن يتخذها المسيحيون لغة لهم، وتصبح الوسيلة المعبرة عن الثقافة المسيحية. يقول فيليب حتي ((ان الترجمات الرئيسية للتوراة السريانية قد وضعت هناك في آواخر القرن الثاني))

ولقد كانت بيئة الرها مسرحا لثقافة فائقة في العهد الوثني ، وهذا ما أكدته الآثار المكتشفة. كذلك تشير بعض النصوص الأدبية الى أن الحضارة الآرامية كانت مزدهرة خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين، ومن خلال استعراض قصة فيضان نهر ديصان (201م) تنكشف معالم حضارة على قدر كبير من الرقي، ولقد كان من الخسائر التي سببها هذا الفيضان المروع تصدع كنيسة المسيحيين التي وصفتها المراجع العربية بالعظمة والبهاء. ابن الفقيه: مختصر كتاب البلدان ص124.
ولقد أتيح للسريان أن يتأثروا تأثرا ملموسا بالثقافة اليونانية . يقول الدكتور مراد كامل: ((من المؤكد أن الأساليب اليونانية كانت ذات أثر فيما وصلت اليه اللغة السريانية ، فقد حاكى السريان الأبنية اليونانية في بعض كتاباتهم ، وقلدوهم في طريقة استعمال الكلمات ، بل انهم نقلوا الى لغتهم كثيرا من الكلمات اليونلانية، كما أسسوا علم النحو في لغتهم على غرار النحو اليوناني ، واتخذوا من الصوائت اليونانية حركات يستعملونها في كتاباتهم)) تاريخ الأدب السرياني ص15
ولقد كان هذا التأثير نتيجة طبيعية للعوامل التي مهدت له ، وأدت الى نتائجه، فلقد اختلط اليونان بالسريان اختلاطا كبيرا . كذلك انتشرت الأديرة والمدارس التي اضطلعت بالنشاط العلمي الذي يتناول العلوم السريانية واليونانية على حد سواء.
ولقد قامت هذه الأديرة بدور العوامل الفعالة في تقوية النفوذ السرياني وهو ينفذ على مهل الى الحياة العربية ، فيترك عليها طابعه . وقد أتيحت الفرصة للغة العربية لكي تصبح لغة كتابة يسجل بها تاريخ هذه الأديرة.


وجد في صدر هيكل هند الكبرى ما يلي((بنت هذه البيعة هند بنت الحارس بن عمرو بن حجر الملكة بنت الأملاك ، وأم الملك (عمر بن المنذر أمة المسيح وأم عبده ، وابنة عبده في زمن ملك الأملاك خسرو أنو شروان ، وفي زمن افرائيم الأسقف قالاله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيئتها ، ويترحم عليها وعلى ولدها ، ويقبل بها ويقومها الى ابانة الحق، ويكون الله معها ومع ولدها الى دهر الداهرين)) البكري: معجم ما استعجم ص264.
وهناك ملاحظة هامة يشير اليها غريغوريوس يعقوب حلياني ، وهي أن بقايا اللغة الآرامية كانت حتى ذلك الحين عالقة باللغة العربية ، ومن ذلك ما لوحظ في الأثر الذي حمل اسم امرئ القيس بن عمرو وتاريخ وفاته من اشتمال كلماته على ألفاظ آرامية. (اللعة العظيمة ج3 ص234)

ولقد اعترف كثير من الباحثين بالنشاط الثقافي الذي قامت به مدرسة الرها ، وأقروا جهودها في دراسة الفلسفة اليونانية بوجه خاص .
يقول الأب أ. س. مرمرجي الدوممينيكي (( انها كانت مركزا علميا يتقاطر عليه المسيحيون الشرقيون من النواحي الفارسية))
ويقول ماكس فانتاجو(( انها كانت مركزا لمدرسة فلسفية لاهوتية)) تاريخ الرها ص345
ويقول جرجي زيدان انه في مدرسة الرها ((ابتدأ السريان يشتغلون بفلسفة أرسطو في القرن الخامس الميلادي)) تاريخ آداب اللغة العربية ص23
ويقول الدكتور حسن عون ان مدرسة الرها(( بدأت مبكرة بالعناية بدراسة الفلسفة اليونانية وخصوصا فلسفة أرسطو ، وكان ذلك في القرن الخامس الميلادي)) العراق وما توالى عليه من حضارات ص143

ولقد قامت مدرسة الرها على أكتاف أساتذة مدرسة نصيبين الذين هجروها سنة 263 م بعد سقوطها في أيدي الفرس . وكان القديس مار افرام السرياني (توفي سنة 275) أحد هؤلاء الأساتذة العظام (( وكان غزير المواد بليغ الكتابة . تلوح العذوبة والجودة والقداسة في قصائده) أدي شير تاريخ كلدو وآثور ج2 ص 48. فكان ذلك دافعا للناس لكي يحملوه على معاودة التعليم ، فاضطلع لادارة مدرسة الرها .
وهكذا كان هناك استمرار بين هاتين المدرستين ، حتى أن مدرسة الرها ربما اعتبرت بعثا لمدرسة نصيبين)) أوليري: مسالك الثقافة الأعريقية الى العرب ص72.
ولقد أمضى مار افرام بقية حياته في الرها ، ولم يبرحها الا لفترات، كان يعود بعدها لمواصلة عمله في مدرستها.

وحين حدث الانشقاق النسطوري بعد مجمع أفسوس سنة 431م وقفت مدرسة الرها الى جانب نسطور وأخذت بتعاليمه.

وما ان أغلقت المدرسة حتى احتضن أكاسرة بني ساسان أساتذتها اذ التجأ بعضهم لمدينة جنديسابور ، وهناك وجدوا من عطف الأكاسرة ما شجعهم على بناء البيمارستانات وتعليم الطب، فبلغوا في ذلك شأوا بعيدا.

-

ان الشخصية الاسلامية الأولى التي عملت بمشورة علماء السريان ، فأقدمت على الاشتغال بالكيمياء ، هي شخصية خالد بن يزيد.قال عنه دي بور انه(اشتغل بالكيمياء بارشاد راهب نصراني). وتحدث عنه ابن النديم فقال انه كان (يسمى حكيم آل مروان وكان فاضلا في نفسه ، وله همة، ومحبة للعلوم،) خطر بباله الصنعة فأمر باحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصح بالعربية ، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي الى العربي ، وهذا أول نقل كان في الاسلام من لغة الى لغة))وكان ما نقل يتضمن كتبا في الطب ، وكتبا في النجوم.
وفي عداد الاسباب التي دفعت هذا الامير الى الاشتغال بالكيمياء والعناية باخراج كتب القدماء فيها . أمر ابعاده عن الخلافة، فقد كان راغبا فيها بعد وفاة أخيه معاوية الثاني ، ولكن مروان بن الحكم غلبه على ذلك ، فراح يحاول اكتساب العلا بالعلم. كما قال ابن النديم في الفهرست ص253
ولقد تعمق خالد بن يزيد في دراسة الكيمياء . ذكر ابن خلكان( أنه كان من أعلم قريش بفنون العلم ، وله كلام في صنعة الكيمياء والطب ، وكان بصيرا بهذين العلمين، متقنا عمله، واخذ الصنعة على رجل من الرهبان اسمه مريانوس--وفيات الأعيان ج1 ص211.
ويقرر ابن النديم أنه شاهد كتبه التي وضعها فيقول ((انه صح له عمل الصنعة))، وله في ذلك عدة كتب ورسائل ، وله شعر كثيرفي هذا المعنى ، رأيت منه نحو خمسمائة ورقة، ورأيت من كتبه كتاب الحرارات ، كتاب الصحيفة الكبير، كتاب الصحيفة الصغير ، كتاب وصيته الى ابنه في الصنعة)).
ويكشف أحد الباحثين عن موضوع رسائله ، وما عالجه فيها فيقول ان ((له في صنعة الكيمياء في الطب رسائل ، وأشهرها ثلاث احداها ضمنها كل تعاليم مريانوس ، وشرح فيها ، كيف تعلم منه، والرموز التي أشار اليه))عيسى المعلوف : تاريخ الطب عند العرب ص11
ولقد عرف خالد بن يزيد الطريقة التجريبية في أبحاثه، وهو المنهج الذي علمه اياه الراهب مريانوس.التاريخ الكبير : ج5 ص119 مطبعة روضة الشام 1922.
يقول ابن عساكر ((ان الناس تذاكروا الماء بحضرة عبد الملك بن مروان ، فقال خالد: منه ما يكون من السماء ، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق ، فأما ما يكون من البحر فلا يكون له نبات ، وأما النبات فيكون من ماء السماء ، ثم قال: ان شئتم أعذبت لكم ماء البحر ، فأتى بقلال من ماء ، ثم وصف كيف يصنع به حتى يعذب، وكل هذا مما علمه اياه الراهب مريانوس)).
ويبدو أن شهرة خالد بن يزيد العلمية كانت قد ذاعت وانتشرت حتى((يروى أنه وجد الحجر الفلسفي الذي يصنع به الذهب الاصطناعي))ى بارتولد تاريخ الحضارة الاسلامية ص69.

ويبدو أن حداثة العهد بهذه المعارف في البيئة العربية، فالعرب لم يكونوا على دراية ابدا بهذه العلوم، قبل اتصالهم بالسريان. هذا الجهل العربي دفع الناس الى المبالغة في أمر من يشتغلون بها، فقيل عن خالد بن يزيد (( أن علمه من الذي استخرجه دانيال من الغار --وهو الذي أودعه آدم أبو البشر ما علم)) البيروني : الآثار الباقية عن القرون الخالية ص203.

وهناك من يذهب الى أن ما نسب الى خالد لا يعدو حد القصص العربية المشهورة بالمبالغة والبعد عن الحقيقة، فيليب حتي: تاريخ العرب ج1 ص220
استدعى خالد بعض العلماء السريان من الاسكندرية ، وكلفهم ترجمة الكتب اليونانية التي تناولت موضوع الكيمياء ، ومن هؤلاء المترجمين اسطفان القديم ، وهو اول المترجمين في هذه الدولة، وقد عرب لخالد المصنفات الطبية والكيماوية عن اليونانية)) ابن النديم: الهرست ص254- تاريخ الطب عند العرب: عيسى معلوف
هل كان هناك ترجمة قبل خالد بن يزيد؟؟؟

فيما يذكره ابن اسحق وهو بصدد الحديث عن بناء الكعبة على عهد محمد اذ يقول:
((حدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية ، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود فاذا هو : أنا الله ذويكة، الفادي، المخلص، ، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض ، وصورت الشمس والقمر ،وحققتها بسبعة أفلاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها ، مبارك لأهلها في الماء واللبن))مخطوطة قديمة غير واضحة المعالم، ذكرها ابن هشام في السيرة النبوية ج1 ص208
وفي صدر الدعوة الاسلامية اتخذ محمد من يقوم مقام المترجم بينه وبين من يشاء الكتابة لهم من الملوك والحكام.
يقول المسعود: التنبيه والاشراف ص246:((كان الخزرجي يكتب الى الملوك ويجيب بحضرة محمد . كذلك كان يترجم كتابات محمد بالفارسية ،والرومية، والقبطية، والحبشية. تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن))

يقول زيد بن ثابت ((أمرني محمد أن أتعلم السريانية . قال اني لا آمن اليهود على كتابي ، فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت وحذقت فيه، فكنت أكتب له اليهم )) السيرة الحلبية: برهان الدين الحلبي: ج3 ص 425
كما يروي المسعودي في كتابه مروج الذهب كيف كان يترجم من الانجيل العبراني (انجيل متى) ما شاء له الله ان يترجم.

ليس من مصادفات العصر أن نجد الرواد الأوائل الذين يضطلعون بعبء الترجمة والنقل سريانا، اذ أن هذا هو الأمر الطبيعي الذي كان لا بد أن يحدث ، لأن هؤلاء كانوا قد قطعوا في هذه الطريق شوطا بعيدا،فقد مارسوا الترجمة قبل ظهور الدولة الأموية بكثير، فمنذ القرن الرابع الميلادي شرع السريان (جويدي: محاضرات أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب ص82) شرع السريان في هذا المضمار----شرح بروبوس كتب أرسطو المنطقية وايساغوس لفورفوريوس .--وترجم سرجيس كتاب الطب لجالينوس الذي يعتبر أساس دراسات الطب في الأوساط الطبية الشرقية--

وفي مصر نشط السريان قبل الفتح الاسلامي، وبدأ نشاطهم خاصة في الاسكندرية وفي الأديرة التي اتخذوها لأنفسهم ، وبسببهم عرفت مصر اللغة السريانية --وكان لهم نشاط علمي ملحوظ ، فقد ترجم أحد أساقفتهم نسخة الترجمة السبعينية الى اللغة السريانية، كما ترجم جاسيوس مقالات أهرون القس الطبية من اليونانية الى السريانية ----
وقد أدى هذا الالتحام المباشر بين السريان وعلوم اليونان الى أن أصبحت الثقافة اليونانية تعيش في كيان هؤلاء القوم ، وتخالط عقولهم ، مما جعلهم يتمكنون منها ، ويصبحون معلمين لها فيما بعد حين ينقلونها الى العرب، والذين لم يكن لديهم أي علم وقتها.

 التجمع العلماني الديمقراطي الليبرالي (عدل)دمشق