أسقف ودومنيكي في آن معا!
المطران د. يوسف توما الدومنيكي
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدانفي الرسالة إلى العبرانيين فصول مهمة عن الكهنوت يتطرق كاتبها إلى المسيح ككاهن أعظم ويشدد على تضحيته وقربانه ويضع كل مسيحي في علاقة كهنوتية مع الله. ولدى الأسقف ملء الكهنوت، وهو لم يعد رجل عبادة فقط، كما كان الكاهن في العهد القديم، وإنما إضيفت إليه صفة الراعي التي في العهد الجديد مثل المسيح الراعي الصالح. فإذا أردنا تعريف كهنوت الأسقف اليوم أقول: إنه حمل مشروع كبير فيه جوانب عدة من الكهنوت تحتاج إلى تفعيل وتخصّ تنوّع الخدمات وتعتمد على مصادر ثلاثة وهي: الكتاب المقدس، تقليد الكنيسة والحركة المسكونية. وهذا التنوّع يحمينا من إعطاء صورة أحادية ضيّقة عن هذه الخدمة الكهنوتية، فهي تفترش الحياة المسيحية بشمولية.
تناول المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 -1965) أهمية التسلسل الرسولي كدعوة إلى التعاون من أجل رسالة الكنيسة الشاملة فالأسقف مع كهنته يرعى باسم المسيح "الجماعة الكهنوتية"، كجسم أي بمثابة "سر" لوحدة الله والإنسانية معًا، والكنيسة تعمل ذلك على ثلاثة محاور:
- إعلان قرب مجيء ملكوت الله،
- خدمة البشرية،
- إفساح المجال لله بالصلاة.
لذا في كل أسقف (وكل كاهن أيضًا) نجد ثلاث مهام كانت قبلا موزعة في العهد القديم على كل من: النبي والملك والكاهن، وتتمثل لدينا في الشهادة (نبوية) والخدمة (ملكية) والطقوس (كهنوتية)، ولا يقتصر ذلك على الكلام لكنة يتطلب أيضا أن نزرع ونفعّل العمل واقعيًا. فالملكوت الذي بدأه يسوع المسيح كان كبذرة صغيرة ذقنا بها طعم الحياة الجديدة مع الله، بين الإخوة، ومقياسها الشركة (أو التناول) بالروح القدس. ومنذ البداية طلب يسوع من البعض أن يعلنوا ويحتفلوا ويخدموا، وعبر التاريخ ظهر مؤسسات عدة لكل منها إحدى هذه الثلاثة: فهذه تعلن وتلك تحتفل وأخرى تخدم. وهذا ما اتضح تمامًا منذ القرن الثاني للقديس أغناطيوس الأنطاكي (+ 107 م) الذي قال عن الأسقف: "إتبعوا الأسقف كما اتبع يسوع المسيح الآب" (أزمير
فهو الذي يجمع القطيع في جماعة واحدة محلية.
تقول الكنيسة الكاثوليكية إن الخدمة الأسقفية تعود إلى بدايات العهد الجديد، ولكنها لم تبرز بوضوح إلا في القرن الثاني فالبذرة كانت في الإنجيل. والأسقف كلمة يونانية (إبيسكوبوس) موجودة في الرسائل الراعوية تعني "حارس" أو "مراقب عمل"، ويعود ذلك ما أراده المسيح نفسه أن يضع تركيبة للخدمات تزامنت مع تأسيس العهد الجديد، إنطلقت من الخبرة الفصحية ومع ما جرى من تحوّل على جماعة الرسل الإثني عشر، الذين كانوا يمثلون أسباط إسرائيل وانطلقوا إلى العالم كله. لكننا نعلم أن بعض الجماعات المسيحية الأخرى قد تعطي تفاسير مختلفة أكثر عملية، أو أكثر مهنية أو وظيفية، ... لا يهم، فالتعاقب الرسولي بالنسبة إلى الكاثوليك مهم جدا وكذلك بالنسبة إلى الإخوة الأرثوذكس والنساطرة.
الأدوار الأخرى مع الأسقف نحن في خضم تقلبات كبيرة في تاريخ المسيحية في العراق وما يحدث يجبرنا على أن نستنبط طرقا جديدة للخدمة والاستفادة من العلمانيين الشجعان الأسخياء وبالرغم من تشوّش المشهد أحيانًا، إلا أنه يجب أن لا نخاف، وذلك بالاعتماد على الجانب النظري والاستفادة من ممارسات الأبرشيات الأخرى في العالم، خصوصا في بلاد عانت من قلة الكهنة فأسست جماعات جديدة وتوسّع مداها وقبلت بنوع من الشدّ بين تقليد عقائدي وتلبية حاجات طارئة كالقداديس والأعياد وخدمات الرعاية. وقد لجأت الكنيسة في السنوات الأخيرة إلى رسامة متزوجين (في أبرشيتي 6 كهنة 3 منهم متزوجون)، ففي كنيستنا ليست العزوبية قطعية وإنما هي من أجل الحرية، التي هي جزء مهم من الكهنوت، فإن كانت العزوبية تجيب على أمانة للمسيح، لكن أمانة الكاهن المتزوج في اعتقادي هي امتحان مثل الأمانة في الزواج، وهذا يبعث على التفكير، فالحالات الخاصة ليست سهلة وخبرات الكنائس يمكن أن نستفيد منها لكن قد يكون هناك أهمية لإعادة النظر في الفصل الذي قد يحدث للكاهن عن المجتمع، فكما أن المتزوج ينفصل عن كل الروابط الأخرى، لكن يمكن للعزوبية الكهنوتية أن تكون منبعًا لحرية أكبر تخلعه من الرابط العائلي وتضعه في خدمة أشمل، فيخرج من سلسلة الأنساب والواجبات الاجتماعية نحو الخلف وهذا يمكن أن يجعله أخا لجميع البشر.
تمرّ الكنيسة اليوم في مرحلة صعبة وعليها أن تحل هذه المشاكل بمخيلة أوسع وطرق عديدة مبنية على أسس لاهوتية. والفترة التي نحن فيها حساسة ويجب أن نصغي إلى ما يقوله الشعب، والحاجات قد تستدعي لا كهنة متزوجين فقط، لكن رسامة شمامسة إنجيليين أكثر، إلى جانب إعطاء المرأة مكانة أكبر في خدمة الكنيسة. فيكون لهن مهمة استنباط لمشاركة أكبر كشماسات وإعطائهن قدرا أكبر من القرار في حياة الكنيسة، وبهذا سأسير على خطى سلفي في أبرشية كركوك غبطة مار لويس روفائيل الأول ساكو.
بعد 33 سنة من الكهنوت في الرهبنة الدومنيكية كانت خدمتي الكهنوتية في الرهبنة الدومنيكية تختلف عن خدمة كاهن الرعايا، فهذه محدّدة على قطعة جغرافية معينة وتدخل ضمن إطار التعاون والطاعة للأسقف، لكن الخدمة الرهبانية الدومنيكية تندرج في اختلافها بعيشها في رهبنة تأسست عام 1215 كجماعة لخدمة الوعظ في الكنيسة، والرهبنة ككل تطيع البابا وهي رهن اشارته، لكن الأخ مرتبط بالجماعة الرهبانية بنذوره، إنها خدمات خاصة، تحاول سدّ فراغات معينة متخصصة، من هنا جاء تعدد الرهبنات وخدماتها ووحدة الخدمة الاكليريكية. لأن عالمنا يمشي نحو التعقيد والتباين، لذا توجب التكيف للحاجات الجديدة التي تظهر. وقد تعلمت من الحياة الرهبانية أن وازن بين الجانب العملي والنظري، فكلاهما ضروري. وقد أحببت حقًا دعوتي الرهبانية، لأنها ساعدتني في خدمة التعليم والكرازة، فأسهمت خصوصًا في الثقافة وفي تنشئة عدد كبير من الكهنة والراهبات والعلمانيين (في الدورة اللاهوتية) على مدى هذه العقود الثلاثة، وحاولت أن أعطي أسسا لاهوتية للأجيال اللاحقة، لقيام معلمين ومبشرين يهمهم إعلان بشرى الإنجيل والحياة بالأسرار، لذا يسعدني اليوم بأسقفيتي الجديدة أن أقارب بين هذين النوعين من الخدمة، رهبانية كانت أو أسقفية، وإني بالرغم من تقبلي الأسقفية، وتركي السلك الرهباني، إلا أني لا أزال أحمل مع إسمي صفة "الدومنيكي".
كركوك 21 شباط 2014
نشرت في نشرة أبرشية كركوك
نشرة دينية ثقافية فصلية
السنة العاشرة العدد 37 آذار 2014